الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
التجربة الإنسانيَّة الصعبة الناجمة عن انتشار وباء كورونا الداهم، أكَّدت مجددًّا حاجة المجتمعات إلى شبكة أمان اجتماعيَّة متينة، ووضَّحت دورالمنظَّمات الخيريَّة والإنسانيَّة غير الربحيَّة في دعم مكَّونات المجتع وحماية الاستقرارالاقتصادي وتعزيزه.
المنظَّمات الخيرية غير الربحيَّة، غدت أحد أهم سمات المجتمعات المتطوِّرة، ورافدًا أساسًا لازدهارها الاجتماعي والاقتصادي. مفهوم هذا النمط من المنظَّمات ودورها المجتمعي شهدا تحوُّلًا كبيرًا خلال العقود الأربعة الماضية. فقد تطوَّر الهدف الأساس من قيامها لتوفيرخدمات الرعاية، وتقديم الإعانات إلى الأفراد والأسرالمتعسـرة، إلى الإسهام الفاعل في تحفيز النشاط الاقتصادي وتحقيق التنمية الاجتماعيَّة والاقتصاديَّة المستدامة.
مع تشعُّب المشاكل الاجتماعيَّة وتفاقم حدَّة التحدِّيات الاقتصاديَّة، تصاعدت حاجة المجتمعات المعاصرة إلى إسهام المنظَّمات الخيريَّة غير الربحيّة لقدرتها على تقليص الفجوة المتَّسعة بين محدوديَّة الموارد المتاحة للدولة وارتفاع متطلَّبات المجتمع، وقابليَّتها لخلق إنجازات وقيم اقتصاديَّة مضافة بكلف منخفضة.
التوسُّع الملحوظ في نشاط المنظمَّات الخيريَّة غير الربحيَّة، والتحوُّل الجذري في طبيعة مهامها، يفرضان مقتربًا جديدًا لدراسة دورها الاقتصادي وإسهامها في زيادة الدخل القومي، ونمو الاقتصاد الوطني واستقراره .
ثمَّة العديد من المعوقات التي تواجه البحث في موضوع المنظمَّات غير الربحيَّة ودورها، أهمَّها؛ تعدُّد التسميات وتشعُّب التعاريف وتنوُّع المهام وتباين أهداف التأسيس. قائمة التسميات تضمُّ المنظَّمات غير الربحيَّة ومنظَّمات المجتمع المدني والقطاع الأهلي والقطاع الخيري والقطاع الاجتماعي والقطاع المستقل والقطاع الثالث، وغيرها من التسميات.
إلى جانب مشكلة التسميات، هناك نقص كبير في قواعد البيانات والمؤشِّرات الإحصائيَّة الخاصَّة بنشاطات المنظَّمات الخيريَّة وإنجازاتها. كما أنَّ قيم خدماتها وإساهماتها الاقتصاديَّة ما تزال غير مدرجة في الحسابات القوميَّة لغالبية الدول.
تهدف هذه المشاركة إلى تقديم مقترب يركِّز على الدور الاقتصادي للمنظَّمات الخيريَّة الحديثة، ويحدِّد موقعها في هيكل الاقتصاد كواحد من مكوِّناته الأساسيَّة إلى جانب المكِّونات الثلاث الأُخرى: الأفراد؛ “الأسرة” ، والشركات الربحيَّة الخاصَّة والحكومة.
التعريف الذي تقدِّمه هذه المشاركة للمنظَّمات الخيريَّة يختلف عن تعريف ” القطاع الثالث ” القائم على الملكيَّة والذي يمنح المنظَّمات الخيريَّة موقعًا في الهيكل الاقتصادي إلى جانب القطاع الخاص “الربحي” بملكيَته الفرديَّة، والقطاع الحكومي ذي الملكيَّة العامَّة.
المنظَّمات الاقتصاديَّة الإنسانيّة المعاصرة، كيان اقتصادي تنموي يسعى إلى تحقيق أهداف غير تجاريَّة أو ربحيَّة. ويتَّسم بمزيج من سمات الشركات الربحيَّة والحكوميَّة، ويرتبط بعلاقات تبادليَّة بمكوِّنات الاقتصاد الأُخرى . نشاط هذا النمط من المنظَّمات يعتمد على المبادرات الفرديَّة، وتستمدُّ إيراداتها من الدعم الحكومي المباشر وغير المباشر، ومن عوائد الخدمات المقدَّمة، وإسهام المؤسِّسين، وتبرُّعات الأفراد والشركات الخاصَّة.
هيكل الاقتصاد، وفقًا للنظريَّة الاقتصاديَّة، يتكوَّن من ثلاثة مكوِّنات؛ “وحدات ” أساسيَّة : الأفراد والشركات الخاصَّة والحكومة. في هذا الإطار، يعتمد مجمل نشاط الاقتصاد المحلي على تبادل السلع والخدمات والتدفُّقات النقديَّة بين المكوّنات الأساسية الثلاثة.
إسهام المنظَّمات الاقتصاديَّة الإنسانيَّة الواسع في النشاط الاقتصادي والاجتماعي، ودورها في برامج التنمية والتطوير وما تحقِّقه من مكاسب اقتصاديَّة، تؤهِّلها لتبوُّءِ موقع “المكِّون الاقتصادي الرابع”، وان تعكس الحسابات القوميَّة فعاليَّاتها .
العلاقات الاقتصاديَّة بين المنظمات الاقتصاديَّة الإنسانيَّة من جانب، والمكوِّنات الاقتصاديَّة الثلاثة الأُخرى تتأتَّى من تبادل مباشر للخدمات والمنافع ذات القيم الاقتصاديَّة وغيرمباشر. وما يقابلها من تدفُّقات نقديَّة. هنالك ثلاث علاقات أساسيَّة، كما هو موضَّح في المخطَّط.
الأولى: العلاقة التبادليَّة بين المنظمَّات الاقتصاديَّة الإنسانيَّة والأفراد، وتتضَّمن قيام “المنظمات” في تزويد الأفراد بخدمات ذات قيمة اقتصاديَّة منها:
1. برامج تطوير المهارت والقدرات المهنيَّة والإدارية، ودورات تدريبيَّة متخصِّصة لتأهيل العاطلين وتحسين فرصهم في سوق العمل.
2. تمكين القدرات النسائيَّة، وزيادة مساهمتهن في سوق العمل .
3 .فرص عمل في المنظمات الاقتصاديَّة الإنسانيَّة بأجور متقاربة من معدَّل الأجورالسائد في الشركات الخاصَّة.
4. خدمات صحيَّة وتعليميَّة، وخدمات رياض الأطفال ورعاية المسنِّين دون مقابل أو برسوم رمزيَّة.
5.سلع ومواد غذائيَّة وعينيَّة دون مقابل إلى الأفراد والأسر المتعسِّرة .
6. استشارات اقتصاديَّة وإداريَّة.
7.مراكز إنتاجيَّة حرفيَّة متخصِّصة.
8. مشاريع سكنيَّة للفقراء، وأصحاب الدخل المحدود.
بالمقابل ، يسهم الأفراد في تأسيس المنظَّمات الاقتصاديَّة الإنسانيَّة، وفي رساميلها وتمويل مشاريعها بالتبرُّعات الماليَّة والعينيَّة، والرسوم المدفوعة لقاء خدمات المنظَّمات. بالإضافة إلى تطوُّع الأفراد لتقديمهم خدمات مهنيَّة؛ “طبيَّة وتعليميَّة” دون مقابل.
الثانية: العلاقة التبادليَّة الثانية في الهيكل الاقتصادي المقترح؛ تلك التي تربط الشـركات الربحيَّة الخاصَّة بالمنظَّمات الاقتصاديَّة الإنسانيَّة. مالكو الشركات الخاصَّة يسهمون برأس المال التأسيسـي للمنظَّمات الإنسانيَّة دون توخَّي أرباحًا من حصصهم. كما أنَّهم يمدُّونها بالدعم المالي المطلوب لتنفيذ مهامها بتبرُّعات ماليَّة أو عينيَّة. وتستفيد الشركات الخاصَّة أيضًا من خدمات التطوير والتدريب والتأهيل المهني التي تقدِّمها المنظَّمات لقاء رسوم .
بدورها ، المنظَّمات الاقتصاديَّة الإنسانيَّة، تقدِّم إلى الشركات الخاصَّة مجموعة من الخدمات ذات قيم اقتصاديَّة بشكل : دورات تدريبيَّة وبرامج تطوير قدرا ت العاملين وإنتاجيتهم، واستشارات ماليَّة وإداريَّة، وتسهيلات ماليَّة؛، تمويل جزئي لمشاريع الشركات، بالإضافة إلى شراء منتجات الشركات الخاصَّة وسلعها.
الثالثة: المنظَّمات الاقتصاديَّة الإنسانيَّة، تربطها علاقات اقتصاديَّة تبادليَّة متنوِّعة بالحكومة لا تقلُّ أهميَّةً عن علاقتها بالأفراد والشركات الخاصَّة.
تدعم الحكومة المنظَّمات الاقتصاديَّة الإنسانيَّة بحزمة من المنح والإعانات الماليَّة والتسهيلات الائتمانيَّة وتسهم في تمويل مشاريعها وسواها من سبل الدعم المباشر. إلى جانب ذلك، تقدَّم الحكومة دعمًا غير مباشر للمنظَّمات بإعفائها من الضرائب والرسوم، ومنحها أراضٍ لإقامة مشاريعها الإنسانيَّة بالإضافة إلى منحها العقود التدريبيَّة والتطويريَّة والاستشاريَّة.
بدورها، تمدُّ هذه المنظَّمات الحكومة بالعديد من الخدمات المهمَّة، وتمارس دورًا رديفًا لتخفيف أعبائها الاقتصاديَّة والاجتماعيَّة، من خلال تقديم العديد من المنافع العامَّة؛ كالصحَّة والتعليم والتوعية ورياض الأطفال ودور المسنِّين، دون مقابل أو برسوم رمزيَّة.
يتَّضح مما تقدم ، الإسهام الحيوي للمنظَّمات الاقتصاديَّة الإنسانيَّة وتأثيرها الإيجابي بسوق العمل والإنتاج والماليَّة العامَّة، ودورها في نموِّ الاقتصاد، وتطوير المجتمع ورفاهيَّته. دور المنظَّمات في سوق العمل واضح ومؤثِّر. ما تقدِّمه من دورات تدريبيَّة وتطويريَّة وبرامج تمكين القدرات النسائيَّة، وقدرات أفراد المجتمع، وتحسِّن مهارات الخريِّجين الجدد أو العاطلين عن العمل، وتؤهِّلهم للحصول على فرص عمل . كذلك، تسهم في تطوير قدرات العاملين، وترفع إنتاجيتهم بشكل يتيح للشركات الخاصَّة زيادة أرباحها واستثماراتها.
وتسهم المنظَّمات أيضًا بشكل مباشر في زيادة الطلب على العمل من خلال تأسيس مراكز إنتاج ومشاغل حرفيَّة ويدويَّة وتقنيَّة. يضاف إلى ذلك الخدمات الصحيَّة والتعليميَّة وخدمات الرعاية الأخرى. هذه الإسهامات والقيم المضافة، تؤدِّي مجتمعةً إلى تخفيض معدَّل البطالة وتعزيز القدرة الشرائيَّة، وزيادة الإنتاج وتقليل الضغط المالي على ميزانيَّة الدولة. وبالتالي، زيادة رفاهية المجتمع وازدهاره.
تركيزنا على الدور الاقتصادي للمنظَّمات الإنسانيَّة، لا يلغي أهميَّة إسهاماتها في نشاطات التوعية والإرشاد الديني والأخلاقي وإدارة الأوقاف الخيريَّة، ولا يغفل عن القيم الاخلاقية والاقتصاديَّة لتلك الخدمات الراقية.
ثمَّة العديد من الإنجازات الاجتماعيَّة والاقتصاديَّة التي تمكَّنت المنظَّمات الاقتصاديَّة الإنسانيَّة من تحقيقها في العديد من المجتمعات. فإلى جانب تعضيد التكافل الاجتماعي، وتعميم ثقافة المسؤوليَّة الاجتماعيَّة، التخفيف من معاناة الفقر، وإعادة توزيع الثروة، وحماية البيئة، وزيادة الأمن والاستقرار.
على الرغم من تطوُّر دورالمنظَّمات الاقتصاديّة الإنسانيَّة، وإسهاماتها في زيادة الناتج المحلي الإجمالي، إلَّا أنَّها لم تحظ باهتمام أصحاب القرار في الكثير من الدول. ولم يحتل دعمها موقعًا متقدِّمًا في قائمة أولويَّاتهم السياسيَّة والاقتصاديَّة.
التأطير النظري لدور المؤسَّسات الاقتصاديَّة الإنسانيَّة الذي تقدِّمه هذه المشاركة، لا يعدو مغامرة فكريَّة أوَّليَّة تستدعي المراجعة والتطوير. والأَهم من ذلك، حاجتها إلى أراء المختَّصين في حقل المنظَّمات الخيريَّة والإنسانيَّة.
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال