الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
هل يصحُّ وضع خطط مستقبليَّة بناءً على معطيات أزمة عشوائيَّة طارئة، ومتغيِّرات مجهولة، وقاعدة بيانات هشَّة؟
هل من الصواب تحديد معايير وقائيَّة لمرحلة مقبلة انطلاقًا من تجربة ذعر وبائي ما تزال تفاصيل نشأته وخواصه وخسائره البشريَّة النهائيَّة مجهولة؟
هل من السداد فرض سياقات احترازيَّة لما بعد زوال الجائحة دون مراعاة تبعات كلفها الاقتصاديَّة والاجتماعيَّة؟
من البداهة أن يبدو العالم شاحبًا ومخالفًا لألوانه الحقيقيَّة إذا ما نظر إليه عبر منظار الجائحة. لذا يجب التخلُّص من منظار الهلع لرؤية العالم بالعين المجرَّدة لتتبيَّن ألوانه الحقيقيةَّ الزاهية.
بَدءًا، أودُّ التنويه بِأنَّ المعايير الوقائيَّة المعنية في هذه المشاركة تلك التي تخصُّ مرحلة انتهاء تهديد الجائحةِ الصحَّةَ العامَّةِ وزوالها كلِّيًّا، ولا تشمل المعايير المفروضة لكبح جماح الجائحة، ولا تلك التي يتمُّ تطبيقها في مرحلة تراجع تأثيرها .
صدمة الجائحة الداهمة، وسرعة تفشِّيها، والتصاعد المرتفع في عدد الأصابات المعلنة، خلقت هلعًا وارتباكًا كونيًّا. هذه التطوُّرات المتسارعة وغير المسبوقة ولا المتوقَّعة، وضعت أصحاب القرار في غالبيَّة الدول إزاء مفاضلة محرجة وخيارين صعبين: استمرار الحياة الاجتماعيَّة والاقتصاديَّة بسياقاتها الطبيعيَّة، وتحمُّل الخسائر البشـريَّة ، أو تبنِّي التجربتين الصينيَّة والإيطاليَّة، وفرض القيود الاحترازيَّة وتعطيل الحياة العامة، وتحمُّل خسائراقتصاديَّة. الأغلبيَّة اختارت الحلَّ الثاني حمايةَ لأمنها الصحِّي وحفظ حياة أفراد مجتمعها.
في واقع متطلَّبات الحجر القسـري والإجراءات الوقائيَّة المفروضة، اضطرَّت مؤسَّسات القطاع العام وغالبيَّة الشـركات الخاصَّة إلى اعتماد جملة من السياقات الاستثنائيَّة لضمان ديمومة عمليَّاتها واستمرار تقديم خدماتها. إجراءات مؤقَّتة من المُفترض أن يتوقَّف استخدامها بعد احتواء تهديدات الجائحة والقضاء عليها.
خلال الأسابيع الثلاثة الماضية، حقَّق العديد من الحكومات الآسيويَّة والأوربيَّة نجاحات حاسمة في احتواء الوباء، ووقف انتشاره. ولعلَّ أبرز تلك النجاحات إعلان الحكومة النيوزلنديَّة عن شفاء آخر المصابين، وخلوِّ نيوزلندا من جائحة كورونا المستجدَّة.
مع انحسار تهديد الجائحة، وتضاءل عدد الإصابات والوفيَّات، وانعدامها في مجتمعات كانت بؤرًا للجائحة، وتعرَّضت لأكبر قدرٍ من الخسائر البشريَّة، بدأت هذه المجتمعات في الرفع الممنهج للقيود الوقائيَّة القسـريَّة، وإعادة الحياة إلى وتيرتها الطبيعيَّة، وفق خطَّة تفضي إلى الرفع الشامل والنهائي للقيود الوقائيَّة خلال مدَّة زمنيَّة قصيرة. المجتمعات المتعافية، تعاملت مع الجائحة كأزمة صحيَّة تمَّ تجاوزها، ولم تضع معاييروقائيَّة مستقبليَّة بعد زوال تهديدها لانتفاء ضرورتها، سوى التثقيف الوقائي التقليدي والإرشادالصحي العام.
هذا النهج الصائب، لم يحل دون قيام عدد من المختصِّين ومكاتب الاستشارات الإداريَّة والعقاريَّة في الوطن العربي وعدد آخر من الدول النامية بالدعوة إلى تطبيق إجراءات وقائيَّة تقنيَّة في المكاتب ومقارِّ العمل في مرحلة ما بعد زوال الجائحة، دون احتساب كلفها وتأثيرها في نفسيَّة العاملين وأدائهم، ودون تقدير نتائجها على استمرار عمليَّات الشركات؛ الصغيرة والمتوسَّطة منها خاصَّةً.
ممَّا صدر في هذا الشأن، تقريرعن مؤسسة عقاريَّة واستشاريَّة خليجيَّة، اقترح تطبيق سياقات صحيَّة ووقائيَّة في مكاتب المؤسَّسات والشركات ومقارِّ العمل في مرحلة ما بعد زوال الجائحة واندحارها! حزمة السياقات المقترحة؛ تضمَّنت إنشاء بوَّابات فحص الكترونيَّة، وكاميرات حراريَّة داخليَّة لقياس حرارة العاملين، واستخدام التقنيات في عمليَّة تعقيم المكاتب بشكل متواصل. (فلترة –تنقية ) خاصَّة لمكيِّفات الهواء، ومجسَّات لتنبيه الموظَّفين لدى حدوث تقارب جسدي يتجاوزالمساحة المسموح بها تقنيًا.! إلى جانب ذلك، أوصى التقرير زيادة مساحة المكاتب وزياد المساحة المخصَّصة للموظَّف الواحد.
أنموذج آخر لمقترحات وقاية خاصَّة في سياقات العمل في مرحلة ما بعد زوال الجائحة، البرتوكول الوقائي الخاص بالمرافق السياحيَّة والترفيهيَّة بما فيها الفنادق،والذي تعتزم مؤسَّسة رسميَّة عربيَّة تطبيقه.إلى جانب توفير طواقم طبييَّة في تلك المرافق، شمل البرتوكول تطبيق مجموعة من الإجراءات الوقائيَّة التقنية، ومعاييرمعقَّدة ومكلفة، وسياقات إداريَّة خاصَّة في القوى البشريَّة والتعامل مع الزائرين.
كلُّ ما طرح من سياقات وقائيَّة لمرحلة ما بعد زوال الجائحة، وُلِدَ من رحم تجربة عشوائيَّة طارئة، لم تتبلور أبعادها الكاملة علميًّا، ولم تتضح خسائرها البشريَّة الحقيقيَّة (غير المعلنة) بدقَّة. لذا فهي ربَّما لا تصلح قياسًا، ولا يصحُّ اعتمادها لتخطيط معاييرمكلفة للمراحل القادمة التي قد تكون خالية من تهديد هذه الجائحة.
مرحليَّة الجائحة وعشوائيَّتها، وانحسارها وتحوُّلها إلى أزمة صحيَّة عابرة، تفرض عدم وجود ضرورات عقلانيَّة تبرَّرالإنفاق على سياقات غير مجدية لوقاية المكاتب ومقارِّ العمل.وقد تفرض على مؤسَّسات القطاع العام والشركات الخاصَّة أعباء ماليَّة غير مبرَّرة ، او تؤثِّر في فعاليَّتها ووضعها المالي في مناخ تنافسي صعب.
جلَّ ما طرح من تقارير ودراسات، أغفلت احتساب كلف الحلول الوقائيَّة المقترحة وتبعاتها الماليَّة. وتغافلت بشكل انتقائي عن تأثيراتها في أداء العاملين وانتاجيَّتهم. فمناخ الشك والخوف والقلق من سلامة المكاتب وصحَّة العاملين فيها، والتحسُّب من عوامل مجهولة، قد يقتل الإبداع، ويعرقل الأداء، ويخفض الانتاجيَّة.
من الضرورة بمكان إثبات أنَّ هذه المشاركة، لا تقلِّل من قيمة المعايير الوقائيَّة الصحيَّة، ولا تدعو إلى التغاضي عنها. حماية صحَّة المجتمع أولويَّة يجب تأمينها بصرف النظر عن الكلف الاقتصاديَّة. اهتمامنا هنا ينصبُّ على جدوى السياقات الوقائيَّة المكتبيَّة. الجائحة – كما هو ثابت – لم تنجم بسبب غياب المعايير الصحيَّة الوقائيَّة في المكاتب ومقارِّ العمل . كما أنَّ سياقات الوقاية المقترحة لا تحصِّن المكاتب من تهديدات الأوبئة، ولا تحمي العاملين من تداعياتها.
كما أشرنا في مشاركة سابقة، ثمَّة مسلَّمة علميَّة يجب مراعاتها عند التخطيطَ الُمحتَسبَ للطوارئِ، وتصميمَ برنامجٍ فعَّال للحدِّ من تأثيراتها بأقلَّ خسائر بشريَّة واقتصاديَّة. تكمن المسلَّمة في أنَّ الأوبئة والجوائح حقيقة مأساويَّة ملازمة للحياة في هذا الكوكب. وأنَّ المجتمعَ الآمنِ صحيًّا والوقايةُ المطلقةُ من مخاطرِ الأوبئةِ والجوائح أهدافٌ لا يمكن تحقيقُهُا.
مراعاةُ هذهِ المسلَّمةِ، تساعد في الوصول إلى قراراتِ صائبة توازنٍ بينَ حجمِ المخاطرِالمستقبليَّة وكلف الوقاية وتجنُّبِ هَدرِالمواردِ الاقتصاديَّة والبشريَّة في مُقْبِل مواسمِ الأوبئةِ والجوائح.
إنشاء منظومة وقائيَّة مكتبية بعد زوال تهديد الجائحة وانحسارها، يتعارض مع مبدأ التوزيع الأمثل للموارد الاقتصاديَّة والبشرية المتاحة. ويقود إلى هدرالموارد الماليَّة المحدودة، لاسيَّما في مرحلة ما بعد الأزمة الراهنة.
حماية المجتمع من تهديدات الأوبئة وتقليل خسائرها الماديَّة والبشريَّة يتطلَّبان تعميم الإرشاد الصحي الوقائي العام ، وتعزيزمعايير وثقافة المناعة الفرديَّة والمجتمعيَّة .
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال