الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
بالرغم من أثر أزمة كورونا الشديد على الاقتصاد، الا أن هذا الأثر أثبت أنه أشد على سيكولوجية البشر، بسبب فكرة الاقتصاد الجديد، كما يُسَوّق لها على منصات الإعلام خاصة شبكات التواصل الاجتماعي، دون تعريف ما هو هذا الاقتصاد الجديد، مما جعل الغالبية في حالة قلق من اقتصاد ما بعد الجائحة.
الكثير يعتقد أن الاقتصاد يتمحور حول الأموال والاستثمارات والمؤسسات الضخمة، بينما الاقتصاد فضاء أضخم من هذه الأدوات الاقتصادية، فهو علم واسع متعلق – في الأساس – بالإنسان سواء في كونه الفردي أو الجمعي، وتعامله مع الموارد سواء في حالة الندرة أو الوفرة. لذلك، الاقتصاد هو هو، لن يسلخ جلده بعد الجائحة، ولكن الإشارات تدل على أنه سيغير مزاجه.
والسؤال هنا: ما هو المقصود بالمزاج الذي سيتغير، وكيف سيكون شكل اقتصاد العالم بعد كورونا؟
من خلال نظرة سريعة، سنجد أن فيروس كورونا وضع الاقتصاد بمزاجه الحالي القائم على النفط على حافة كارثية، فعلى سبيل المثال، رأينا الانهيار في أسعار السلع مثل النفط الذي لم يعد يرغبه أحد، وصناعات كبرى قائمة عليه مثل المواصلات الذي تخوفت البشرية منه وتجنبته، ومرتبطة به مثل السياحة التي أصبحت تُرهب الناس واستغنت عنه في لحظة، وأيضا تهاوي سريع في أسواق الأوراق المالية، إلا فيما يتعلق بالابتكارات في التقنية والبحث العلمي خاصة في الرعاية الصحية، ورأينا الارتفاعات المذهلة فيها.
لذلك، دول العالم التي تتشارك في تعاطي أعمال الاقتصاد، مثل الإنتاج والاستهلاك والاستثمار، ستدخل نفق النزاع حول مسألة التمكن من الابتكار وما هو متعلق به مثل الصناعة والخدمات والكينونات الاقتصادية صغيرة الحجم، فمردودات الاقتصاد وبناء الثروات – أثناء الجائحة – أثبتت أنها لا تصنع ميزات تنافسية الا اذا الابتكار – وما يرتبط به – هو القاعدة لها.
وهذا ما يفسر سلوك المنظومة الأوروبية حاليا – على سبيل المثال – التي لن تتنازل عن نموذجها الاقتصادي المتباين بين الرأسمالية الخلوقة والاشتراكية المهذبة، ولكن ستركز جُل اهتماماتها على الابتكار ودعم البحث العلمي وريادة الأعمال والمنشآت الصغيرة والمتوسطة وبسخاء، وهذا بالضرورة سيجعل القارة العجوز تعيد النظر في الكثير من تشريعاتها الداعمة لهذا التوجه من جديد، وقد بدأت بالفعل.
أما الولايات المتحدة فلن تتنازل عن نموذجها الاقتصادي الرأسمالي التي تفتخر به، وإن كان يحتاج لإعادة النظر فيه بعد أن اهتزت – وبعنف – عروش كيانات اقتصادية كبرى فيه، خاصة أن أغلب صناعتها ليست فيها اليوم، والإدارة الأمريكية الحالية تدرك ذلك، مما جعلها تعمل على إعادة مجدها، ولكن هذا يتطلب من الولايات الامريكية مواجهة الصين – وهي واقعة لا محالة – في ملفات التجارة العالمية والملكية الفكرية والصناعة، وستنازع الصين عيانا، وستكون مستعدة لتحمل تبعات مواجهة صعبة في سبيل استعادة مجدها.
أما تشكيلة دول العالم النامية – المبحرة في قارب واحد نحو احتمالية الانكفاء الذاتي – ستواجه ضغوط لتغيرات مفصلية في وضعها الداخلي، فبسبب الركود الاقتصادي الذي سيكون أعمق بكثير من المتوقع – حسب تصريح صندوق النقد الدولي قبل أيام – هذه الدول ليس أمامها سوى مزيد من التعديلات القاسية في أدائها الاقتصادي من خلال سياسات خفض الإنفاق تمشيا مع انخفاض الدخل فيها، وفي نفس الوقت العمل وبتسارع عالي على بناء احتياجاتها وثرواتها، من خلال تنمية الابتكار فيها وكم عالي من المنشآت سريعة الحركة وخفيفة التكاليف.
جائحة كورونا ستترك ندبات على وجوه دول العالم كلها وبلا استثناء. ولكن، غالبية الدول ستتخذ قرارات بوتيرة سريعة للغاية، وبدون وقت طويل في التفكير بسبب ما ستحتاجه بعد أزمة كورونا، وهذا سينعكس على إيجادها لمسارات عمل جديدة تماما في سياساتها وتشريعاتها، حتى تكون اقتصاداتها أكثر كفاءة، ومتواجدة على الخارطة الاقتصادية، وقد أبدى البنك الدولي استعداده لمساعدة الدول النامية في هذا التوجه، فغير ان مرحلة التعافي قد لن تكون قبل المرحلة ما بين عامي 2021 – 2022، الا أن المستقبل ربما يعدنا بحمل الكثير من المفاجئات في طياته، وبالرغم أنه من الصعب معرفة ما سيحصل مستقبلا، إلا أن الأكيد هو أن عالم ما قبل كورونا لن يكون مثل ما سيأتي بعده.
الكورونا كانت صدمة عنيفة، سرعت قرار إبدال مزاج الاقتصاد العالمي – الذي كان مخطط له بالفعل أن يتغير – من اعتماده التقليدي على النفط الى الاتجاه الجاد الى الابتكار، وبالرغم من أن السيد الان جرينسبان – الرئيس السابق لمجلس الاحتياطي الاتحادي الأمريكي – قد صرح قبل 12 عاما من أن طفرة النفط ستستمر للأبد، إلا أن العالم عايش كيف عمقت ازمة الكورونا الضرورة الملجئة الى الاعتماد على طفرة الابتكار – ومتعلقاته – والذي لم يعد مطلب رفاهية ولكن احتياج ديمومة في المستقبل.
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال