الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
على مر العقود الماضية مرت السعودية بأزمات اقتصادية حالها حال الكثير من الدول التي يتعرض اقتصادها إما لركود أو تأثر نتيجة ارتباط الأسواق العالمية أو بعض الأحداث السياسية، ورغم أن البلاد تعرضت لازمات مالية خلال العقود الماضية، إلا أن ابرزها كان حرب تحرير الكويت من الغزو العراقي عام 1990 ووقفت السعودية حينها بكامل قوتها المالية والسياسية، لإنهاء هذا الاحتلال.
وقتها أدارت السعودية ازمتها المالية والسياسية باحترافية، رغم وصول أسعار النفط الى مستويات عالية في الأسواق العالمية، إلا أنها مثل كل الحروب تستنزف ميزانية ضخمة وبلغت تكلفة الحرب والخسائر التي لحقت لإخراج صدام من الكويت حسب معلومات صحفية نحو ترليون دولار كان نصيب دول الخليج الحصة الأكبر في تمويلها، منها مصروفات مباشرة لنحو 600 الف جندي شاركوا في الحرب، والمساهمة في تمويل وقروض لبعض الدول وقتها.
كان الاقتصاد السعودي يعتمد بشكل رئيسي على مداخيل النفط، لان صناعاته وقتها كانت ضعيفة ولم تكن لديها بنية تحتية للكثير من الأنشطة الاقتصادية، تمكنت حينها خلال حرب تحرير الكويت وبعدها، من ضبط أدارتها الداخلية واحتياج مواطنيها ومشروعاتها، صحيح تأجل إعلان ميزانية الدولة لعامين إلا أن هذا الأمر لم يضع الحكومة أمام اضطراب مالي، او انها لجأت للاقتراض الخارجي، بل أنها تحملت الديون الداخلية على نفسها، ولم تتجه الى حلول مالية إلا من خلال السندات التي طرحتها حينها.
ورفضت المملكة أن تلجأ الى فرض الضرائب أو رفعها، على الرغم من أن مركزها المالي كان ضعيفا وربما لو فرضت بعض الرسوم وقتها قد يكون الأمر مقبولا، ومع ذلك استمرت في برامجها التنموية من بناء مساكن وتقديم قروض بدون فوائد، ولم تفرض رسوم لاستقدام أيدي عاملة وافدة من الخارج، وغيرها من الرسوم الأخرى.
الأزمات الاقتصادية العالمية والأحداث السياسية أعطت الحكومة المزيد من التجارب وطريقة إدارتها بطريقة احترافية، ولم تكن حرب الكويت وحدها التي أرهقت خزينة السعودية ، وهناك نحو خمس أو ست أحداث أخرى واجهتها السعودية باقتدار، رغم أنها لم تكن من الدول الصناعية أو لديها موارد أخرى للمال، فهي مثل كل البلدان النامية، تعتمد على استيراد احتياجاتها من الخارج، بل حتى أنها كانت تعتمد بشكل كبير على الأيدي العاملة الوافدة من جنسيات مختلفة، وعدد جامعاتها قليلة وأبناءها اتجهوا لإكمال دراستهم الجامعية، والتحصيل العلمي.
من الأزمات المالية التي مرت على السعودية ومعلقة في ذاكرة الكثير من السعودية انخفاض أسعار النفط في بداية الثمانينيات الميلادية وتحديدا عام 1986 حيث وصل سعر البرميل الى اقل من 10 دولارات وتراجعت إيراداتها من 82 مليار ريال الى 58 مليار ريال، وهذه الأزمة عدت على خير بفضل إصدار سندات خزينة لأول مرة وزيادة الرسوم الجمركية على الواردات، واستمرت سلسلة انهيار أسواق النفط فمثلا في عام 1994 اضطرت الحكومة السعودية الى رفع سعر البنزين ورسوم خط اشتراك الهاتف الجديد، وفرض رسوم على التأشيرات وتصاريح العمل، وهذه التدابير المالية ساهم في زيادة الإيرادات غير النفطية بمعدل 22 في المائة.
ولأن النفط هو اللاعب الرئيسي في الإصلاحات الاقتصادية التي شهدتها السعودية على مر العقود الماضية لعدم استقرارها، وتذبذب أسعارها فكان عام 1997 احد المحطات المهمة لإدارة الأزمات المالية للسعودية، بالفعل وصلت الأسعار نتيجة الخلاف القائم بين الدول المصدرة للنفط في أوبك الى فقدان برميل النفط 40 في المائة من أسعاره، واستمر حتى 1998 حيث وصل سعر البرميل الى 9 دولارات، وقتها اتخذت الحكومة المزيد من الإجراءات، فحولت قطاع الاتصالات الى شركة مساهمة، وضاعفت رسوم الخدمات من تأشيرة العمل وأيضا أسعار الوقود.
في الأزمة المالية العالمية التي وقعت في 2008 وانعكست بشكل مباشر على الكثير من الدول، وفقدت الناس وظائفها وانهارت العديد من الشركات الكبرى وخاصة المصارف العالمية، كان للسعودية تجربة مثيرة للاهتمام في إدارتها للازمة حيث اثبت الاقتصاد قدرته على تحمل الصدمات، واستطاعت أن تعبر الأزمة بثقة عالية وقبل 6 سنوات عاد النفط من جديد وقفز في المقعد الأمامي للأحداث الاقتصادية في العالم ووصل سعر برميل النفط الى مستويات منخفضة بلغت 50 دولار للبرميل، مما جعلها تلجا الى المزيد من الإصلاحات الاقتصادية، لتعزز الإيرادات الغير نفطية واتخذت قرارات جريئة من بينها رفع أسعار مشتقات النفط والكهرباء والمياه، وزيادة رسوم خدمات البلديات، واستحداث رسوم.
ومن يتابع تسلسل الأحداث الاقتصادية والسياسية التي شهدتها دول العالم وتأثرت منها السعودية بشكل مباشر أو تبعاتها، سوف يرى تطور إدارة الأزمات لدى الحكومة وتعاملها بطريقة مختلفة بحيث تستطيع أن تمتص هذه الأزمات دون اضطراب أو تأثير على برامجها التنموية.
واليوم حينما تتعامل القيادة السعودية مع جائحة كورونا وتبعاتها، فهي تتحرك وفق تجربتها الطويلة مع الأزمات الاقتصادية وأيضا بما يجعلها متوازنة، ويضعها في مصاف الدول المتقدمة في التعامل مع الأزمات وطرح الحلول لمشكلاتها التي تواجهها، فمثلا خلال الجائحة، واجهت السعودية مشكلتين في آن واحد، تراجع أسعار النفط في الأسواق العالمية، ومواجهتها مثل بقية العالم هذا الوباء، والذي كان سيقضي على الأخضر واليابس، من ناحية حصد عدد اكبر من المصابين لو أنها لم تتخذ التدابير الاحترازية بشكل عاجل.
وكانت الخطوة الأهم إغلاق الحرمين الشريفين ومنع دخول المعتمرين، واقامة الحج لعدد محدود للسعوديين والمقيمين من جنسيات متعددة في المملكة، ورغم الإجراءات الأخيرة التي اتخذتها قد قلصت من إيراداتها الغير نفطية، فهي اتجهت لأول مرة في تاريخ أزماتها الاقتصادية الى زيادة ضريبة القيمة المضافة ورفعتها بنسبة 200 في المائة، ولم يكن لديها حلول وسط، خاصة وان مشروعات مثل نيوم والبحر الأحمر وفتح مطارات جديدة وتشغيل قطارات تصل بين المدن وبرامج أخرى متعددة ضمن رؤية 2030، كل هذه كانت ستصاب بالشلل لو أنها لم تتخذ خطوة جريئة في إدارة المال خاصة وقت الأزمات.
وفي المقابل اصدر الملك سلمان توجيهاته باستمرار دعم العاملين السعوديين في منشآت القطاع الخاص المتأثرة مع إيقاف الغرامات الخاصة باستقدام العمالة و رفع الإيقاف مؤقتًا عن منشآت القطاع الخاص لتصحيح النشاط. احتساب توظيف “السعودي” في نطاقات بشكل فوري لكل المنشآت، رفع الإيقاف الخاص بحماية الأجور خلال الفترة الحالية، استمرارية الخدمة لعملاء الصفوة على مدار الساعة، تأجيل تحصيل الرسوم الجمركية على الواردات لمدة ثلاثين يومًا مقابل تقديم ضمان بنكي.
وقدمت مؤسسة النقد السعودي ضمن برنامج دعم تمويل القطاع الخاص حيث تجاوزت قيمتها 51 مليار ريال، واستفاد نحو مليون و200 ألف سعودي وأسرهم من خلال برنامج ساند ودعم الموظفين بلغت تكلفتها 9 مليارات ريال. بعض الإجراءات التي اتخذتها الحكومة قد يراها الكثيرون أنها مؤلمة وقاسية وكان بالإمكان اتخاذ إجراءات أخف، إنما في الحالات الحرجة وحينما تكون صحة المريض هي الأهم، فإن اتخاذ القرار الصعب هي الخطوة الأهم.
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال