الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
تحدِّيات الأزمة الإنسانيَّة الراهنة تتيح للمنشآت الخاصَّة فرص مراجعة مسؤوليَّاتها الاجتماعيَّة، وتعزيز مواقعها كمُكوِنً مؤثِّرً في المنظومة الاقتصاديَّة والاجتماعيَّة الوطنيَّة، والإسهام الفعَّال في تجاوز الصدمة الاقتصاديَّة وتطوير دور حيويٍّ داعم لاقتصاد مجتمعاتها.
العقود الأربعة الماضية، شهدت تطوُّرًا في نظريَّة المنشأة، وتحوُّلًا في أهدافها والتزاماتها الأخلاقيَّة المجتمعيَّة. المنشأة المعاصرة لم تعد مجرَّد كيان يهدف إلى تعظيم الأرباح من خلال عرض سلع وخدمات بأسعار مجزية، وبأقلِّ الكلف! بل غدا العديد منها مكوِّنًا “اقتصاديًّا أخلاقيًّا” فاعلًا في المنظومة الاقتصاديَّة، ومشاركًا موثِّرًا في إنشاء البنية الاجتماعيَّة اللازمة لتحقيق النموِّ الاقتصادي. دور المنشأة الخاصَّة وأهميَّتها وإسهامها في النشاط الاجتماعي – الاقتصادي ارتفع بشكل كبير إثر تراجع العديد من الدول عن مسؤوليَّاتها بتوفير السلع العامَّة؛ “المنافع العامَّة ” كالصحَّة والتعليم، لدوافع آيديولوجيَّة واقتصاديَّة.
مسؤوليَّات المنشأة الخاصَّة ، لم تعد مقتصرة كما حدَّدتها النظريَّة الاقتصاديَّة المحافظة، على الواجبات التقليديَّة المتمثِّلة بتسديد أجور العاملين فيها، وتوفير السلع والخدمات للمستهلكين بنوعيَّة جيَّدة وأسعار تحدِّدها آليَّة السوق، وتسديد الضرائب الحكوميَّة التي يستخدم
جزء منها لتمويل السلع العامَّة. مسؤوليَّات المنشأة تجاوزت هذا التعريف الانعزالي الضيَّق لتشمل مهامًا اجتماعيَّة واسعة متنوِّعة.
تكمن المسؤوليَّة الاجتماعيَّة للمنشأة في مبادرات طوعيَّة ناجمة عن دوافع اقتصاديَّة وأخلاقيَّة، تعبَّر فيها المنشاة عن فهم دورها كأحد مكوِّنات الاقتصاد والمجتمع الأساس، وليس كيانًا منعزلًا خارجًا عن المنظومة الاجتماعيَّة. لذا، فأهداف المسؤوليَّة الاجتماعيَّة وفعاليَّتها، يجب ان تندرج في رؤية المنشأة واستراتيجيَتها وخططها الماليَّة التي يمكن تنفيذها بعدَّة صيغ، أهمُّها: توفير الأمن الوظيفي للعاملين فيها، ورعايتهم وتأمين حاجاتهم الأساسيَّة، ومراعاة مصالح المستهلكين وتجنُب استغلالهم: كذلك، خلق فرص عمل وتقليل البطالة، والمشاركة في توفير المنافع العامَّة، والإسهام الفاعل في تطوير المجتمع، وتحقيق نموِّه الاقتصادي. أَنّ التركيز على الجانب الاقتصادي لمسؤولية المنشاة ، لا يحجِّم بالضرورة أهميَّة دورها الإنساني، وقيمة عطائها الخيري .
توأمة الدورالاقتصادي والدور الاجتماعي للمنشأة بنشاطات المسؤوليَّة الاجتماعيَّة، تتيح للمنشأة تقديم قيم مضافة إلى الاقتصاد الوطني، ودعم شبكة الأمان الاجتماعيَّة، إلى جانب استثمارهذا الدور في تعزيز موقعها في السوق، وزيادة قدراتها ونموها وتحقيق أهدافها الربحيَّة من خلال إعادة تدوير نسبة من صافي الأرباح السنويَّة في تمويل فعاليَّات المسؤوليَّة الاقتصاديَّة الاجتماعيَّة .
التوازن بين متطلَّبات كفاءة الموارد الماليَّة ومحدوديَّتها، وكلف فعاليَّات المسؤوليَّة الاجتماعيَّة خلال مراحل الركود والانكماش الاقتصادي خاصَّةً، معضلة تواجه إدارات المنشآت الخاصَّة الملتزمة بتنمية المجتمع، ودعم الاقتصاد الوطني. المسؤوليَّة الاجتماعيَّة، لا شكَّ لها كلفها الماليَّة. لكن، بالمقابل تدرِّ فوائد ومكاسب اقتصاديَّة مباشرة وغير مباشرة. فالانفاق على الفعاليَّات الإنسانيَّة ليس هدرًا ماليًّا، بل استثمار ينتج منافع متبادلة؛ أهمُّها: رفع انتاجيَّة العاملين وتحسين أدائهم ، تعزيز ثقة المستهلكين بالمنشأة ومنتجاتها، وتعميق ولائهم، وتقوية الميزة التنافسيَّة للمنشأة، وزيادة أرباحها. كما أنَّها تقدِّم منافع اجتماعيَّة ذات قيم اقتصاديَّة يجب مراعاتها عند مقارنة منافع المسؤوليَّات الاجتماعيَّة بكلفها .
كيف تتمكَّن المنشآت الخاصَّة من الإسهام الفاعل في تجاوز الأزمة الاقتصاديَّة الراهنة، ودعم خطَّة تسـريع الانتعاش الاقتصادي، وبناء اقتصاد وطني متطوِّر مستقر؟
تداعيات الصدمة الاقتصاديَّة الراهنة، طالت المنشآت الخاصَّة أسوة بغيرها من وحدات الاقتصاد الوطني ومكوِّناته، إلَّا أنَّ الكثير منها ما يزال يملك موارد وقدرات ماليَّة تمكِّنه من أداء دور إيجابي دعمًا لجهود الانتعاش الاقتصادي، وإسهامًا في المبادرات المجمتعيَّة كضرورة تقتضيها مصلحة المنشأة قبل أن تكون واجبات وطنيَّة نبيلة! فالوضع المالي للمنشأة وديمومتها مرتبط بشكل وثيق بقوَة الاقتصاد الوطني واستقراره. كما أنَّ تحسُّن الأداء الاقتصادي يقوِّي ثقة المستهلكين والمستثمرين على حدٍّ سواء، ويحفز الطلب الاستهلاكي والاستثماري على سلع المنشآت الخاصَّة وخدماتها.
طبيعة إسهام المنشأة وحجمه في برامج دعم الاقتصاد الوطني، تعتمدان على متغيِّرات عدَّة، أهمُّها الوضع المالي للمنشأة. فالمنشآت ذات القدرات الماليَّة، تتمكَّن من الإسهام في برامج تجاوز الأزمة من خلال اتِّخاذ إجراءات تدعم الاقتصاد الوطني، وأهمُّها:
أوَّلًا: تحقيق الاستقرار الوظيفي داخل المنشأة، والحفاظ على حجم الاستخدام الراهن، وتجنُب تسـريح العاملين، أوخفض أجورهم قدر الإمكان. وكذلك العمل على إعادة المسرِّحين منهم في أقرب فرصة مواتية. المنشآت مطالبة أيضًا بتجنُّب إحلال التقنيات الرقميَّة عوضًا عن القوى البشريَّة، وحماية العاملين من المنافسة غير المتكافئة الضارَّة من التقنيات الرقميَّة بذريعة خفض النفقات التشغيليَّة.
ثانيًا: حماية العملاء والمستهلكين، ودعم قوَّتهم الشـرائيَّة، وعرض سلع وخدمات جيَّدة، والمحافظة على مستوى الأسعار.
ثالثًا: المشاركة في تمويل برامج الإعانات الاجتماعيَّة الحكوميَّة، ودعم مبادرات المنظَّمات الخيريَّة، والتوسع في تقديم خدمات الصحَّة والتعليم بشكل غير مباشر من خلال المنظَّمات غير الربحيَّة. وكذلك الإسهام في تقوية شبكة الضمان الاجتماعي.
رابعًا: زيادة الإنفاق الاستثماري، والتوسُّع في خلق فرص عمل، والدخول في شراكة مع الدولة لإنجاز مشاريع تنمويَّة استراتيجيَّة في قطاعات حيويَّة كالإسكان خاصَّة .
خامسًا: دعم المنشآت الصغيرة والمتوسِّطة وتبنِّي المبادرات والابتكارات، وتوفير الدعم المالي لاصحاب المشاريع الصغيرة الواعدة.
سادسًا: توفير زمالات دراسيَّة لطلبة الجامعات والمعاهد، وتوفيرفرص التدريب العملي لهم وللعاطلين عن العمل. كذلك الإسهام في تمكين العنصر النسائيَّ وتطوير قدراتهن المهنيَّة، وإعدادهنَّ لدخول سوق العمل.
سابعًا: عقد شراكات مع المنظَمات الاقتصاديَّة الإنسانيَّة لتمويل مشاريع السكن وتنفيذها وتوفيرها لذوي الدخول المتدنيَّة.
مع ارتفاع عدد المنشآت الملتزمة بتنفيذ المسؤوليَّة الاجتماعيَّة، وازياد الوعي بهذا المفهوم، إلَّا أنَّنا ما نزال نلحظ ضعفًا في ثقافة مجتمع الاعمال بهذا المفهوم، وفي فوائدة الإيجابيَّة للمنشأة والمجتمع.
تعميق ثقافة المسؤوليَّة الاجتماعيَّة، وتصحيح المفاهيم الخاطئة، وزيادة وعي المنشآت الخاصَّة بأهميَّة هذا النمط من المسؤوليَّة وفوائدها، يتطلَّب حملة مكثَّفة تشارك فيها المنظَّمات الخيريَّة غير الربحيَّة، وغرف التجارة والصناعة، والمؤسَّسات الإعلاميَة وأجهزة الدولة.
تأسيسًا على ما تقدَّم، مع تشعُّب المشاكل الاجتماعيَّة وتفاقم حدَّة التحدِّيات الاقتصاديَّة، تصاعدت حاجة المجتمعات المعاصرة إلى إسهام المنشآت الخاصَّة لتوفير المنافع العامةَّ، والإسهام الفاعل في تطوير البنية الاجتماعيَّة وتحقيق التنميَّة الاقتصاديَّة المستدامة.
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال