الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
عندما يتعامل النظام مع قواعد الإثبات فإنَّ الأمر يحتاج إلى أعلى درجات الحيطة والحذر؛ حيث إنَّ الإثبات هو كلمة الفصل في الكثير من المنازعات التي تكون فيها حقيقة الوقائع غامضةً أمام القاضي، فيَرْجَع إلى قواعد الإثبات التي تفرض قبول أو رفض الكثير من الأدلة بغضِّ النظر عن المنطق.
كثيراً ما يقترن الإثبات في المسائل المدنية بالكتابة على سبيل المثال، وهنا تبدو حُجَّة من يحاول مواجهة الدليل الكتابي بإفادة الشهود حُجَّةً ضعيفةً، رغم أنَّ الحق قد يكون على لسان الشاهد أكثر منه على الورق، ولكن نظام الإثبات مستقرٌّ على احترام الأدلة الكتابية أكثر من الشفهية نظراً لوضوح تفاصيلها ودِقَّة بياناتها الظاهرة أمام القاضي.
أمَّا في المسائل التجارية فإنَّ الأمر يختلف جذرياً؛ حيث يعقد التجَّار الصفقات فيما بينهم لمرات عديدة خلال اليوم الواحد، فقد يشتري التاجر بائع التجزئة من موزع الجملة كميات كبيرة من البضائع على دفعات خلال عدد من الساعات، وذلك لأسباب عديدة منها:
– اشتداد الطلب في السوق في الوقت الذي لا يوجد رأس مال كبير لدى تاجر التجزئة بما يكفي للتخزين في مواجهة الطلب الكبير،
قد لا يقبل موزع الجملة أن يفتح لتاجر التجزئة خطَّاً ائتمانياً حتى يُرسل له البضائع بالدين.
– وكذلك قد تختلف أسعار بعض البضائع خلال اليوم الواحد فيضطر الموزع إلى بيع أجزاء من الكميات التي في المخازن خوفاً من ارتفاع أسعارها الأمر الذي سيؤدي إلى خسارته لجزء من قيمة البضائع المباعة بالسعر القديم المنخفض.
كل هذه الأسباب تدفع التجار وفق الأعراف والظروف السائدة فيما بينهم إلى اعتماد سياسة الصفقات المتتابعة دون النظر لعددها بل بالنظر إلى الرسملة النهائية في آخر اليوم بحيث يفصل التاجر بين رأسماله الذي بدأ فيه يومه وبين هامش الربح الذي حقَّقه.
هذا الواقع التجاري يدفع نظام الإثبات إلى عدم فرض قواعد شكلية صارمة في إثبات التعاملات التجارية، فإذا كان الإثبات في الكتابة إلزامياً فسوف يؤدي هذا الأمر إمَّا إلى إبطاء حركة التجارة، أو إلى عدم التزام التجار بقواعد النظام لانفصالها عن الواقع.
بناءً عليه، يسمح النظام التجاري بإثبات الالتزامات التجارية بين التجار عبر جميع وسائل الإثبات، ومن ضمنها الدفاتر التجارية والشهود.
ولكن نظام المحاكم التجارية الجديد لعام 1441 هـ قد منح نظام الإثبات مرونةً أكبر، حيث نصَّت المادة 6 من هذا النظام على السماح للتجار بـ: “الاتفاق على إجراءات مُحدَّدة للترافع وما يتَّصل به”؛ وهو ما يشمل أي اتفاق يخصُّ المرافعات ومنها قواعد الإثبات.
بالتالي، فقد أصبحت مرونة قواعد الإثبات التجارية شبه مطلقة أمام المحاكم التجارية الأمر الذي يسمح للتجار بالاتفاق على إثبات التزاماتهم تجاه بعضهم بعضاً عبر الكتابة أو بشهادة الشهود أو بموجب الدفاتر التجارية أو بأي أسلوب آخر يتوافق مع تجارتهم دون تقييد.
فقد تكون طبيعة التجارة غير سريعة من حيث تتالي الصفقات مثل تجارة المجوهرات، أو قد يكون موسم التجارة في حالة ركود مثل تجارة القرطاسية بين مواسم افتتاح المدارس والجامعات، كل هذه الظروف تفرض نوعاً من الانخفاض في وتيرة التعاملات التجارية، الأمر الذي قد يدفع بعض التجار إلى اختيار أسلوب الإثبات الكتابي التقليدي في معاملاتهم.
أمَّا إذا عادت التجارة لازدهارها، ورجع موسم الطلب الكبير عليها، فهنا يمكن للتجار إعادة الاتفاق على أسلوب الإثبات بالدفاتر التجارية أو بالشهود أو بغيرها من وسائل الإثبات.
ولكن قاعدة وسائل الإثبات الاتفاقية وفق نظام المحاكم التجارية الجديد، تشترط شرطَيْنِ اثنَيْنِ لتطبيقها (م/6):
1- عدم الإخلال بالنظام العام؛ فلا يجوز أن يتمَّ الاتفاق على أسلوب إثبات يتضمَّن قواعد تُخالِف القواعد الإلزامية النظامية، وهذا الشرط يجب أن يخضع لوجود قواعد آمرة لا جدل أو شك في مخالفة اتفاق التجار لها؛ كأن يشترط التجار تحليف الشهود المسلمين على غير القرآن الكريم قبل الإدلاء بشهادتهم.
2- عدم الإخلال بقواعد العدالة؛ فلا يحق لأحد التجار أن يستغل نفوذه واستحواذه على نوعية معينة من البضائع عبر فرض قواعد إثبات جائرة على التاجر الآخر؛ كأن يتفق تاجر الجملة على حقه بإثبات الاتفاق في مواجهة تاجر التجزئة بجميع وسائل الإثبات، فيما لا يحق لتاجر التجزئة إثبات ذات الاتفاق في مواجهة تاجر الجملة إلا بعقد مكتوب أو بعقد موثق، الأمر الذي يتَّضح منه عدم عدالة قواعد الإثبات الاتفاقية ووجود استغلال وانتهاك لقواعد العدالة. لكن تقدير انتهاك قاعدة الإثبات التي اتفق عليها التجار لقواعد العدالة يبقى خاضعاً لتقدير القاضي.
وفي الختام، تبدو مرونة قواعد الإثبات ضرورية لمواكبة ظروف التجارة المتغيرة التي تفرض على التجار إيجاد أشكال مختلفة للاتفاقات بما يراعي السرعة والثقة في إجراء التعاملات التجارية، إلاَّ أنَّ الاستناد على تقدير القاضي لمسألة مدى انتهاك الاتفاق على قواعد الإثبات لمبادئ العدالة قد يؤدي إلى الاختلاف في تفسير قواعد العدالة بين المحاكم أو عدم تقدير الواقع التجاري الذي يتمتَّع بخصوصية كبيرة بين مجتمع التجار.
بناءً عليه، نقترح أن يلجأ القاضي بشكل دائم للخبراء من فئة التجار بعد أن يتأكَّد من عدم وجود علاقة أو مصلحة مباشرة أو غير مباشرة للخبراء التجار في موضوع النزاع التجاري أو مع أطرافه؛ حتى يعرف القاضي تمام المعرفة أنَّ قواعد الإثبات الاتفاقية لا تحتوي على ظلم كبير للتاجر ذو المركز المالي الضعيف وفق أعراف التجارة، التي كثيراً ما تختلف جذرياً عن أعراف الناس العاديين وعن مفهومهم الثابت نحو العدالة.
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال