الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
سبق وأن كتبت مقالا عن الموهبة هنا في مال، وتحدثت عن بعض وأهم مشاكل الاستثمار في الموهبة في المملكة. ومهما كتبنا عن هذا الموضوع فلن نفيه حقه من الأهمية، فالمواهب في كافة المجالات الحياتية هي الثروة الحقيقية لأي أمة من الأمم.
كل الاستثمارات تستغرق وقتا للحصول على عوائد مجزية، حتى يمكن تسميتها صناعة وثروة. لكن يظل الاستثمار في المواهب أكثر المجالات استغراقا للوقت، حيث يمتد لسنوات طويلة. كما يجب أن تشارك في ذلك الاستثمار عدة جهات حتى تصبح صناعة قادرة على الاستمرار والنمو والتحول لثروة. كما أن الاستثمار في المواهب يتحرك بشكل خفي وغير واضح المعالم على كافة مستوياته ويصعب قياس نجاحه بدقة عالية إلا بعد زمن طويل وربما بعد تحوله لصناعة. الأسباب الثلاثة السابقة جعلت معظم دول العالم تفشل في الاستثمار في مواهبها وتتركها للأفراد، وللمصادفة. لذلك قلة من دول العالم يمكن القول إن المواهب فيها صناعة وثروة.
في المملكة تجارب الاستثمار في المواهب بدأت منذ عدة سنوات، ورغم أنه في عمر الزمن ليست بالطويلة، لكن لم تظهر حتى الآن نتائج مشجعة يمكن التعويل عليها بالقول إننا يمكن أن نعتمد على ثروة المواهب السعودية وإحلالها محل النفط بحيث يصبح لدينا شركات بحجم أبل وأمازون وفيسبوك وأوبر.
يمر الاستثمار في المواهب بثلاث مستويات هي: الاكتشاف، والصقل، والإنتاج. وفي جميع المراحل الثلاث تعاني المواهب السعودية من مشاكل حقيقية وعميقة تجعل تحولها إلى ثروة أمرا مازال بعيد المنال.
على مستوى الاكتشاف لا تزال معظم الأسر السعودية غير قادرة لسبب أول لأخر على معرفة مواهب أبناءها. وعلى مستوى التعليم العام وهو الأهم، كشف المواهب محدود بمجال واحد فقط وهو القدرات الذهنية التحليلية. عدا ذلك كشف المواهب معدوم تماما. فهو غائب عن كشف المواهب في القيادة، والفنون بمختلف مجالاتها، والرياضة بكافة أنواعها، والثقافة والآداب، والمهارات اليدوية والتصنيعية، وغيرها من المواهب التي لا يعلم عنها أحد ما لم تكشفها المصادفة.
وبما أن المستوى الأول غائب عن معظم المواهب، فإن المستوى الثاني ضعيف جدا. فلا توجد جهات تعمل على كشف المواهب وتنميتها على سبيل الصناعة والاستثمار. والتعليم تنحصر جهوده (البسيطة) في كشف المواهب في التفكير الناقد والتحليلي. وجهوده في تنمية تلك الموهبة رغم وجود ما يسمى بمدارس الموهبة لا تتجاوز بعض البرامج النظرية العقيمة التي يفترض أن تكون ضمن المناهج لجميع الطلاب أصلا، مثل التفكير الناقد، وحل المشكلات وما شابه. ومسابقات كشف المواهب عن طريق الابتكارات، تعتمد كليا على الجهود الفردية لأسرة الموهوب. ولا توجد جهات محددة أيا كانت، قادرة على تقديم الدعم المعرفي والفني والدعم اللوجستي للموهوب لتنمية أفكاره بشكل علمي. ولا توجد قاعدة بيانات للبرامج والأعمال والمنجزات السابقة بحيث لا تكرر الأفكار والأخطاء، ويكون العمل تكامليا.
والمحاضن الموجودة في بعض الجامعات تعاني من إشكاليتين، أولا الالتحاق بها صعب ومعقد. وتعتمد المحاضن على الموهبة الجاهزة تماما والتي لديها فكرة العمل المحددة، ولا تعمل على صقل الموهبة للوصول بها إلى الأفكار والمنجزات. والإشكالية الثانية ضعف إمكانيات الجامعات المادية والعلمية والبنية التحتية لتحويل الأفكار العظيمة إلى منتجات، وليست لديها شراكات مع جهات خارجية قادرة على ذلك.
المستوى الثالث وهو تحول الموهبة إلى صناعة وثروة. وهذا المستوى مرتبط بكل قطاعات الاقتصاد، وكل جوانب الحياة في المجتمع. كالمصانع، والشركات، والأندية الرياضية، والاعلام، وغيرها وصولا إلى المستهلك. والنجاح الفردي والمحدود لا يعول عليه، ولا يمثل تحولا في استثمار المواهب. بل لابد من وجود عددا كبيرا من المواهب الناجحة في كل مجال من المجالات. بحيث تمثل تلك المواهب القاعدة الأساسية في مجالها. وفي تلك الحالة تصبح المواهب صناعة يمكن الاعتماد عليها وتسميتها ثروة يستغنى بها عن الثروات الطبيعية.
وهذا المستوى غير موجود مطلقا. فلا توجد لدينا صناعة حقيقية في أي مجال من المجالات عدا النفط. ونعتمد كليا على ما نستورده من الخارج، حتى في الإدارة والإعلام والرياضة.
المستقبل للثروة البشرية، ولا أقصد الثروة البشرية الخام، بل ثروة الموهبة المجهزة للإنتاج. والدول التي ستنجح في استخراج ثرواتها البشرية واستثمارها، سوف تتصدر دول العالم. أمريكا، الصين، الهند بالترتيب في المقدمة بدون منافسة في مجال استثمار المواهب.
الهند مثلا مدارس الرياضيات فيها جعلت من صناعتي البرمجة والإدارة المالية، صناعتين لا يمكن منافستها مطلقا من أي دولة في العالم، وجميع الشركات التقنية والمالية حول العالم تعتمد على المواهب الهندية في هاذين المجالين اعتمادا أساسيا. هكذا يمكن تسمية الموهبة صناعة.
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال