الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
يمرَّ المجتمع الإنساني عبر مرحلة تشهد تحولُّات اقتصاديَّة واجتماعيَّة متسارعة تحتلُّ فيها تطبيقات الذكاء المصنَّع والتقنيات الرقميَّة موقعًا مؤثّرًا، وتمارس دورًا حاسمًا في إعادة توزيع مهام المكوِّنات الاقتصاديَّة الأساسيَّة، وتكوين أنماط جديدة من علاقات الإنتاج. هذه (الثورة الخوارزميَّة) إذا ما تواصل زخمها، ستحدث تغييراتٍ مجتمعيَّةً جذريَّةً قد تفرز اضطراباتٍ اقتصاديَّةً واجتماعيَّةً معقَّدةً خلال العقدين المقبلين.
تغييرات هيكليَّة بهذا الحجم والاتِّساع والتأثير، لا بدَّ من أن تسبِّب قلقًا من انعكاساتها على مختلف جوانب الحياة والعلاقات الإنسانيَّة. و تثير مخاوف من تداعياتها على القطاعات الاقتصاديَّة، وتهدِّد مستقبل عديد من الأنشطة والأسواق، وسوق العمل خاصَّة.
مشاعر الخوف والقلق، تطوَّرت مؤخَّرًا إلى سجال اقتصادي وتقني متأجِّج في التوسُّع المكثَّف والمتسارع في توظيف تطبيقات الذكاء المصنَّع في الأنشطة الاجتماعيَّة والاقتصاديَّة. محاور السجال لا تنصبُّ على أهميَّة التطوُّر التقني، أو جدوى استخدام الذكاء المصنَّع وضروراته. بل تركِّز على تهديداته جوانب حياتيَّة مهمَّة منها: الأمن المجتمعي والقضاء والخصوصيَّة الشخصيَّة وسوق العمل.
التحذير من تهديد هيمنة التقنيات الرقميَّة والذكاء المصنَّع على المجتمعات، ليس وليد المرحلة الراهنة، بل سبق أن حذَّر من تبعاتها العديد من الباحثين والمختصِّين قبل عقود.
في كتابه “Computer Aspects of Technological change,Automation, and Economic Progress” الصادر سنة 1966، حذَّر (Paul Armer ) من اعتماد المجتمعات المستقبليَّة الواسع على التقنيات الرقميَّة، وكشف مخاطر ذلك على جوانب حياتيَّة مهمَّة منها: الأمن المجتمعي والخصوصيَّة الشخصيَّة والتأثير في قرارات الرأي العام ونتائج الانتخابات والقضاء والقضايا الجنائيَّة. كما حذَّرالكاتب أيضًا من مخاطرها على سوق العمل.
التطوُّرالتقني وإسهام تطبيقات الذكاء المصنَّع في مفاصل الحياة ومفرداتها، غدت مسلَّمات حياتيَّةً، ولازمة أساسيَّة لتطوُّر المجتمعات، ومواجهة متطلَّبات الحياة المعاصرة بالغة التعقيد. أهميَّة دور (التقنيات الخوارزميَّة) تزداد في الدول قليلة السكَّان، أو الدول ذات معدَّلات نموٍّ سكَّاني منخفضة، حيث يتحوَّل إلى ضرورة حيوَّية، ونموذج تنموي يوظِّف المنصَّات الرقميَّة بديلًا فعَّالًا لتسهيل إدارة مؤسَّسات الدولة و المجتمع، وإنجاز الفعَّاليَّات الاقتصاديَّة دون تحمُّل مخاطر تهدِّد توازن التركيبة السكَّانيَّة لتلك الدول وهويَّاتها القوميَّة.
لا خلاف على قدرة التطبيقات (الخوارزميَّة) والتحوُّلات الرقميَّة على تحقيق نقلات نوعيَّة في جوانب مهمَّة من الفعَّالياَّت الانتاجيَّة والاستهلاكيَّة، ومجال البحث العلمي، وخدمات الرعاية الصحيَّة والتعليم. لكنَّها مرشَّحة أيضًا لخلق إرباك اقتصادي عارم، وبطالة متفاقمة إذا لم يتم وضع معايير تنظِّم استخداماتها، ولوائح تحول دون تداعياتها.
الاستخدام، أحد القطاعات التي يتوقَّع أن تشهد تغييرات سريعة واضطرابات كبيرةً نتيجة التوسُّعين الأفقي والعمودي في توظيف تطبيقات الذكاء المصنَّع، وما تشكِّله من تهديد جاد على مستقبل الوظائف البشـريَّة. معطيات أسواق العمل خلال السنوات القليلة الماضية، ونجاح (التقنيات الخوارزميَّة) في تقليص فرص العمل البشري، تقدِّم لنا أدلَّة تحليليَّة على تراجع إسهام العنصر البشري في مهام إنتاجيَّة وخِدميَّة كثيرة ، واختفاء مراكز وظيفيَّة عديدة أُخرى في السنوات المقبلة.
المماثلة بين احتلال (التقنيات الخوارزميَّة) سوق العمل، وما حققَّته الثورة الصناعيَّة في أواخر القرن الثامن عشر، مماثلة خاطئة وغير موفَّقة، بسبب تباين طبيعة كلٍّ من الحركتين ونتائجهما وأهدافهما. أنتجت الثورة الصناعيَّة الآلات ومعدَّات ذات طبيعة تكامليَّة، سهَّلت للعاملين إنجاز مهامهم، وزيادة إنتاجيتهم، وتحقيق وفرة فيه. في تلك العلاقة، كان عنصر العمل صاحب القرار والمسيِّر للآلة الإنتاجيَّة والطرف المستفيد. وعلى خلاف (التحوُّل الخوارزمي) الراهن ذي الطبيعة الإحلاليَّة الطاردة، والبديلة من القوى البشريَّة العاملة، حيث تحلِّل “الروبوتات ” البيانات وتدرس الاحتمالات وتتِّخذ القرارت، وفقًا لمعادلات (خوارزميَّة) ورياضيّة أُخرى متقدَّمة، ومن ثمَّ عرض النتائج للعنصر البشري لغرض المراجعة والتنفيذ.
(التقنيات الخوارزميَّة)، ليست كما هو شائع؛ محض معدَّات مبرمجة وفق خطوات محدَّدة من قبل بشرٍ، بل هي نظمٌ متطوِّرة قائمة على أسس رياضة متقدِّمة وقادرة على تحليل كمٍّ هائل من البيانات، وإجراء عدد كبير من الحسابات بسرعة فائقة، وإيجاد الحلول والبدائل، واتِّخاذ القرارات، وتقديمها للعنصر البشري. دور التقنيات لم يعد تسهيل أداء مهام داخل الوظيفة، بل غدا الوظيفة نفسها.
اقبال المؤسَّسات العامَّة والمنشآت الخاصَّة على استخدام تطبيقات الذكاء المصنَّع لدواعي الكفاءة وتخفيض النفقات، والاستغناء عن عدد هائل من الوظائف، إلى جانب الأدلَّة التحليليَّة والمنطقيَّة الأُخرى، يعزِّز أسباب القلق من مخاطر إحلال الذكاء المصنَّع بديلًا من القوى البشريَّة في غالبيَّة الأنشطة الاقتصاديَّة مستقبلًا. وهذا بدوره يؤدِّي إلى تفشِّـي البطالة، وما يترتَّب عنها من مشاكل وأزمات اقتصاديَّة واجتماعيَّة، قد يكون حلُّها أكبرمن طاقة الحكومات والأنظمة الاجتماعيَّة .
خلال العقود الثلاثة الماضية، صدرت بحوث ودراسات وكتب تناولت مخاطر الأَتمتة والتقنيات الرقميَّة على سوق العمل، وقدَّم عدد منها تقديراتٍ كميَّة لمخاطرها. في مشاركتهما القيَّمة قدَّر ” Fray and Osborne 2013 ” أنَّ سبعة وأربعين من المئة من العاملين في الولايات المتَّحدة الأمريكيَّة يشغلون مهنا معرَّضة لخطرالأتمتة في العقدين القادمين. في حين أشار تقرير معدٌّ من “Arntz, Gregory, and Zierahn ” صدر عام 2016، عن منظَّمة التعاون الاقتصادي والتنمية “OECD” إلى أنَّ تسعة من المئة من الوظائف في الدول الأعضاء الواحد والعشرين مهدَّدة من إحلال الذكاء المصنَّع.
وأصدرت مؤسَّسة “أُكسفورد إيكونومست- Oxford Economist” عام 2019 دراسة أشارت فيها إلى احتمال خسارة العاملين في القطاعات الصناعيَّة المختلفة في العالم أكثر من ثلاثين مليون وظيفة بحلول عام 2030. وهذا قد يؤدِّي إلى تخفيض إسهام العمالة البشريَّة في تلك القطاعات بنسبة 8.5%.
في الصين؛ الدولة الأكثر استخدامًا لتطبيقات الذكاء المصنَّع “والريبوتات”، توقَّع تقرير صدرعام 2018 عن مؤسَّسة دراسات التنمية الصينيَّة المعنون ” استثمار رأس المال البشري في عصر الذكاء الاصطناعي” أن تقضي التقنيات الرقميَّة على نحو خُمسْ فرص العمل في قطاع الصناعات التحويليَّة في الصين بحلول عام 2030. وأنَّ ما يقارب مئة مليون عامل سيضطرون إلى تغيير مهنهم! كما أشارت صحيفة (جلوبال تايمز- Global Times) في تقرير لها إلى أنَّ التقنيات قد تهدِّد سبعين من المئة من المهن على المدى الطويل في الصين. وتوقَّع التقرير أن يفقد ثلاثة وعشـرون من المئة من العاملين في القطاع المالي، وسبعة وعشرون من المئة في قطاع البنوك، وواحد وعشـرون من قطاع التأمين، وظائفهم في غضون سنوات قليلة.
الخطر الأكبر (لتقنيات الخوارزميَّة) لا يقتصر على تقليصها فرص العمل، وخلق “بطالة تقنية ” واسعة حصـرًا ، بل إلغاء مصادر دخل شريحة واسعة من العاملين… وما يترتَّب عن ذلك من تبعات اقتصاديَّة واجتماعيَّة مدمِّرة. فالسنوات الأخيرة شهدت تراجعًا كبيرًا في حصَّة العمالة من الدخل القومي، مماثلة بحصَّة رأس المال، ومن عائدات النمو الاقتصادي في كثير من الدول.
هذه التحذيرات الجادَّة من مخاطر الذكاء المصنَّع والتحوُّلات الرقميَّة على الاستخدام، ومستقبل سوق العمل، يقابلها مواقف كثيرة مشكِّكة في تأثيرها السلبي، ونافية مخاطرها على مستقبل سوق العمل، وداعية إلى التوسُّع في استخدام الذكاء المصنَّع لزيادة الإنتاجيَّة وتعزيز النموالاقتصادي. جلُّ هذه المواقف، صدر عن شركات البرمجة الرقميَّة ومنتجي آلات التقنية والمكاتب الاستشاريَّة. ما يثير الانتباه والتسائل، إنَّ الدراسات الداعمة لتطبيقات الذكاء المصنَّع، وعروض تسويقها تتكتَّم عن تبعاتها السلبيَّة على سوق العمل، وتتغافل عن آثارها الاجتماعيَّة والاقتصاديَّة الباهظة ومخاطرها على الاستقرار الاجتماعي .
التشكيك في تهديد التحولات الرقميَّة والذكاء المصنَّع، يمكن إيجازه في ثلاثة مواقف أساسيَّة:
الأوَّل، التوسع في توظيف التقنيات الرقميَّة والذكاء المصنَّع، يقود إلى زيادة معدَّلات الإنتاج، ويسهم في نموَّ الاقتصاد، وزيادة الطلب على العمل. هذه المواقف، اقتصرت على الطرح النظري، ولم تقدِّم أدلَّة أحصائيَّة تدعم طروحاتها. ولم تفسِّر استبدال التقنيات الرقميَّة بالعنصرالبشري في كثير من القطاعات.
الثاني، يعترف بعض دعاة التوسُّع في توظيف التقنيات بأنَّ تطبيقات الذكاء المصنَّع تسبَّبت في فقدان وظائف بأنماط العمل التقليديَّة، والمهن متوسِّطة المهارات. لكنَّها خلقت وظائف أكثر تطوُّرًا ومهام عمل جديدة، دون تقديم مماثلة بين نسب الوظائف المفقودة والمكتسبة، أو أدلَّة عمليَّة وتجريبيَّة تدعم صحَّة طروحاتهم.
الثالث، الذكاء المصنَّع، ينتج تقسيم عمل أكثر فعَّاليَّة من التقسيم الراهن، حيث تنجز التقنيات الرقميَّة المهام التقليديَّة، وتتيح للإنسان التركيز على إنجاز مهام تتطلَّب مهارات القيادة والابتكار. هذه الدعوات، تنقصها الدقَّة والأدلَّة الثبوتيَّة أيضًا. فمهام التقنيات الرقميَّة – كما ذكرنا أعلاه – تتعدَّى الجانب التقليدي والمهن البسيطة.
قد يكون الوصول إلى تقديرات كميَّة دقيقة لتأثير الذكاء المصنَّع في سوق العمل أمرًا ليس بالسهل في هذه المرحلة، لكن توقُّعات التغييرات المستقبليَّة المستندة على بيانات المرحلتين السابقتين والراهنة تشير إلى مخاطر كبيرة محتملة.
ثمَّة حاجة ماسَّة لحوار وطني موسَّع من المؤسَّسات الرسميَّة والمنظَّمات الاقتصاديَّة الإنسانيَّة والجامعات، ومراكز الأبحاث ووسائل الإعلام لدراسة التبعات الاقتصاديَّة والاجتماعيَّة للذكاء المنصنَّع، وبحث تهديداته، والخروج برؤية مستقبليَّة متوازنة، تخدم برامج التنمية الوطنيَّة، وتقلِّل الأضرار المتوقَّعة على القوى العاملة. تحقيق ذلك، يتطلَّب تجنُّب المشاعر الحماسيَّة المؤيِّدة والمضادَّة (للتقنيات الخوارزميَّة)، والتركيز على المفاصل ا لأساسيَّة للتطوُّرات التقنية الراهنة والمستقبليَّة، وتشخيص أخطارها الاقتصاديَّة والاجتماعيَّة ودراسة سبل معالجتها.
في التحوُّلات الاجتماعيَّة الكبرى؛ تلك التي تشكِّل تهديدًا للمجتمع والاقتصاد الوطني خاصَّة، غالبًا ما تبادر المؤسَّسات الرسميَّة إلى صياغة لوائح تنظيميَّة تحمي مصالح أفراد المجتمع. المطلوب تقييم علمي لمخاطر التقنيات على سوق العمل، والبدء في إعداد شبكات أمان اجتماعيَّة فعَّالة كأحد خيارات معالجة تداعيات الذكاء المصنَّع. حماية سوق العمل، يتطلَّب مواقف حاسمة لرسم الحدود بين توسُّع (الخوارزميَّات) وحقوق العاملين ومصالحهم .
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال