الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
ترتبط الاقتصاديَّات الوطنيَّة بالعالم الخارجي بشبكة علاقات معقَّدة ومتعدِّدة الأبعاد، وبحلقات متداخلة من عمليَّات التبادل الاقتصادي والمالي والتجاري. درجة انفتاح الاقتصاد وسعة شبكة علاقاته هما ضرورة لتنمية الاقتصاد واستقراره، ومؤشِّر إلى تطوُّره.
العلاقات الاقتصاديَّة والماليَّة والاستثماريَّة، والانفتاح على الأسواق الماليَّة العالميَّة مع كلِّ ما تحمله من مكاسب وقيم مضافة، هي من جانب آخر، تعرِّض الاقتصاد الوطني إلى مخاطر الأزمات التي تنتاب الاقتصاديَّات القياديَّة، وتقلُّبات الأسواق الماليةَّ المفاجئة، وتداعياتها المكلفة.
تأثيرالصدمات الخارجية المفاجئة في الاقتصاد الوطني يتباين تبعًا لبنية الاقتصاد وقوَّته وقدراته الماليَّة، وإمكاناته الاقتصاديَّة، وحجم تجارته الخارجيَّة، ودرجة انفتاحه على الأسواق الماليَّة العالميَّة. إلى جانب درجة تأثُّر دخله القومي بتغيُّرات الطلب العالمي على السلع والخدمات. فالأنظمة الاقتصاديَّة الأكثر متجارةً وانفتاحًا ماليَّا على الاقتصاد العالمي، تبقى الأكثر عرضةً لتبعات الصدمات الخارجيَّة.
لا يوجد اتِّفاق بين الاقتصاديِّين والخبراء الماليِّين على أسباب الأزمات الاقتصاديَّة العالميَّة. فهناك عدَّة فرضيَّات تفسِّر الأسباب الجذريَّة للهزَّات الاقتصاديَّة العالميَّة. لكن مراجعة سجل الأزمات السابقة تقودنا إلى التقاط حقيقتين أساسيَّتين:
الأُولى؛ أغلب الأزمات والصدمات الحادَّة والمؤثّرة التي تعرَّض لها الاقتصاد العالمي منذ عشـرينيَّات القرن الماضي، كانت “أمريكيَّة المنشأ”.
فالاختلالات الهيكيليَّة في الاقتصاد القيادي الأكبروالأقوى، أنتجت كوارث عابرة للقارَّات، وألحقت أضرارًا باقتصاديَّات غالبيَّة الدول.
والثانية؛ الأزمات الاقتصاديَّة الكونيَّة لا تولد مقطوعة الجذور، بل وليدة أزمات سابقة. المؤسَّسات الماليَّة والاقتصاديَّة الأمريكيَّة قد أخفقت في تشخيص فجوات نظامها المالي التي سبَّبت أزمة “فقاعة الإنترنت 2000 -2001 “، ولم تعالج تبعاتها بشكل حاسم. وواصلت إهمال الفرضيَّات الأساسيَّة لعلم الاقتصاد، وتغافلت عن النموِّ غير المتوازن في أسواقها الماليَّة، وعمليات المضاربة المفرطة، وغيرها من السياسات الخاطئة التي مهَّدت لأزمة لاحقة أكثر سعة وتعقيدًا.
الأزمة الماليَّة الكونيَة سنة 2008، بدأت كمشكلة في سوق الائتمان العقاري الثانوي في الولايات المتَّحدة الأمريكيَّة، نجمت عن استمرار بنك الاحتياطي الفدرالي في سياسة سعر الفائدة المنخفض، وارتفاع مستوى الاستهلاك العقاري بشكل مفرط وغير متوازن. ثمَّ اتَّسعت محدثةً تصدُّعاتٍ عميقةً في جدران الاقتصاد العالمي، وآلت إلى انهيار أسواق ماليَّة ومؤسَّسات مصرفيَّة عالميَّة، وانكماش اقتصادي واسع، ما يزال عديدٌ من الدول يعاني من تبعاته.
هل يمكن بناء اقتصاد وطني منيع قادرعلى مقاومة الصدمات الاقتصاديَّة والماليَّة الخارجية المفاجئة، وتخفيف تبعاتها، وتقليل خسائرها؟
من المؤكَّد أنَّ تحقيق المناعة المطلقة وإقامة جدران اقتصاديَّة واقية هدف بالغ الصعوبة، إن لم يكن مستحيلَ التحقيق، وخطوة لا تخدم متطلّبات نموَّ الاقتصاد الوطني واستقراره. إلَّا أنَّ بناء نظام اقتصادي قادرعلى الصمود والاستمراريَّة، وعلى معالجة تأثير صدمات الأزمات الخارجيَّة غير المتوقَّعة بأقلَّ قدر من الخسائر، هدف قابل للتحقيق إذا توفَّرت مقوِّمات النجاح ومستلزماته.
الأزمات الاقتصاديَّة والماليَّة العالميَّة، تنشأ من مشكلة ماليَّة أو اختلال هيكلي في اقتصاد واحدة أو مجموعة من الدول القياديَّة بشكل يؤثِّر في المحرِّكات الأساسيَّة للاقتصاد، ويسبِّب تراجع الطلب الكلِّي ومعدَّلات الانتاج فيها. هذه التغييرات، تنتج ارتداداتٍ عالميَّةً، وتنتقل إلى اقتصاديّات الدول الأُخرى عبر علاقات التبادل التجاري والمعاملات الماليَّة والاستثمار الأجنبي المباشر، وغيرها من الوسائل.
تبعات هذه المتغيِّرات الخارجيَّة السلبيَّة على الاقتصاديَّات الوطنيَّة متعدّدة ومتشعِّبة، وتشمل قطاعات الاقتصاد وأنشطته كافَّةً. ويمكن إيجازها بالتأثيرات الأساسيَّة التالية: انخفاض التدفُّقات الماليَّة الخارجيَّة، وتراجع الاستثمار الأجنبي المباشر، وتقلُّص الطلب على الصادرات، وتراجع الطلب الكلِّي على السلع والخدمات، وانخفاض معدَّلات الإنتاج ، وتفاقم البطالة، وزيادة الإنفاق الحكومي، وانخفاض عائد الضرائب، وعجز الميزانيَّة العموميَّة، وارتفاع حجم الدين العام. المجموع المتراكم من هذه التغييرات السلبيَّة، يقود إلى انخفاض الناتج المحلِّي الإجمالي، وركود الاقتصاد أو انكماشه.
ما هي آليَّات تعزيز مناعة الاقتصاد الوطني، وتقليل تبعات الصدمات الاقتصاديَّة والماليَّة الخارجيَّة المفاجئة ؟
لنبدأ بالقول: لا يوجد نموذج اقتصادي، أو حزمة محدَّدة من السياسات والآليَّات التي قد يحول اعتمادها دون تعرُّض الاقتصاد الوطني إلى تأثيرات الصدمات الخارجيَّة المفاجئة، أو تقليل حجم تبعاتها السلبيَّة. طرح نموذج “الحل الواحد” ذي الآليَّات المحدَّدة مسبقًا “وصفة جاهزة”، يعدُّ تبسيطًا لمشكلة تداعيات الأزمات الخارجيَّة وعجز في إدراك أبعادها.
من المسلَّم به، أنَّ الاقتصاد القوي والمتطوِّر أكثر قدرة على التعامل مع الأزمات الخارجيَّة، والسيطرة على تداعياتها، وتقليل كُلفها الاقتصاديَّة والاجتماعيَّة، بما يمتلكه من مقوّمات وامكانات اقتصاديَّة وماليَّة، وإدارة اقتصاديَّة ناجحة، ومؤسّسات تنفيذيَّة كفوءة.
احتواء الصدمات الاقتصاديَّة الخارجيَّة غير المتوقَّعة، وتقليل خسائرها، يقتضي بناء اقتصاد مرن ومتنوِّع الموارد قائم على الابتكار والمعرفة، وذات قطاعات فاعلة ومتطوِّرة، ويمتلك عناصرالقدرة على الاستمراريَّة. كما يتطلَّب إنشاء منظومة اقتصاديَّة فعَّالة تضمُّ مجموعة كبيرة من مقوِّمات النجاح وعناصره التي لا تتَّسع مساحة هذه المشاركة لتغطيتها. لكن يمكن عرض موجز لأهمِّ مفاصلها:
أوَّلًا؛ وجود إدارة فعَّالة لسياسات الاقتصاد الكلِّي، تسهم في تطوير هيكل الاقتصاد وتعزِّز نموَّه واستقراره.
سياسة ماليَّة؛ تعمل كأداة داعمة لعمليَّة النموِّ والاستقرار الاقتصادي. وتسهم في تعزيز قدرة الاقتصاد الوطني على الثبات أمام الأزمات الخارجيَّة وتجاوزها من خلال وضع ميزانيَّات محفِّزة قائمة على إنفاق عقلاني وانضباط مالي، ونظام ضريبي كفوء وعادل، وتجنِّب عجز الميزانيَّة والسيطرة على الدين العام، بالإضافة إلى تعزيز البنية التحتيَّة للقطاع المالي ، ودعم تطوير أسواق ماليَّة نشطة. وينبغي وضع سياسة احترازيَّة محافظة خلال أوقات الرخاء، وتحقيق مخزون مالي يساعد على إنجاز مشاريع عامَّة في أثناء حدوث الأزمات.
سياسة نقديَّة؛ بأهداف مكمِّلة للسياسة الماليَّة، وهيكل أسعار فائدة متوازنة يخدم تطوُّر الاقتصاد واستقراره، إلى جانب تطوير جهاز مصرفي حديث وفاعل يحفِّز الاستثمار الوطني ويدعمه.
استراتيجيَّة استخدام؛ تطمح لتفعيل تحقيق الاستخدام الشامل لقوَّة العمل، وتحقيق معدَّل بطالة طبيعي – “Natural Rate Of Unemployment”. كما ينبغي تحديد هدف رفع مستوى الدخل الفردي والأسري كواحد من أهمِّ أهداف استراتيجيَّة الاستخدام.
التجارة الخارجيَّة؛ وضع خطَّة طموحة لزيادة الصادرات، وإيجاد أسواق بديلة للسلع والمنتجات الوطنيَّة، بالإضافة إلى ترشيد الاستيرادات.
الاستثمار ؛ دراسة مخاطر الاستثمارت الخارجيَّة في ضوء التوقُّعات المستقبليَّة للاقتصاد العالمي، وتشجيع الاستثمار الأجنبي المباشر، وتوزيع مخاطر الاستثمار الحكومي في المشاريع العملاقة بالمشاركة مع القطاع الخاص، إلى جانب التركيز على الاستثمار في المشاريع الوطنيَّة ذات القيمة المضافة، والمنافع الجنبيَّة غير المباشرة على الاقتصاد الوطني ” “Spillover effects.
ثانيًا، تنويع مصادر الدخل القومي والتقليل المبرمج للاعتماد على إيرادات صناعات المواد الأوَّليَّة “الصناعات النفطيَّة “، وخفض نسبة إسهاماتها في الناتج المحلي الإجمالي .
ثالثاً: تطوير القطاعين الصناعي والزراعي وفق استراتيجيَّة “إحلال الإستيرادات “، وزيادة طاقاتهما الإنتاجيَّة ، وضمان قدرتهما على استمراريَّة الإنتاج، وخدمة الاقتصاد الوطني إذا ما تعرَّض لصدمات اقتصاديَّة خارجيَّة .
رابعًا، تطوير شبكة الأمان الاجتماعي وتعزيز دورها ودعم قدراتها. كما ينبغي تطوير برامج الدعم المجتنعي لحماية الأفراد والأسر خلال الركود الاقتصادي، وضمان حصولهم على حدٍّ أدنى من الدخل. بناء شبكة آمنة، يتطلَّب أيضًا تفعيل دور المنظَّمات الاقتصاديَّة الإنسانيَّة وتسهيل مهامها، وتحفيز القطاع الخاص لتوسيع مسؤوليَّاته المجتمعيَّة.
خامسًا، زيادة الاستثمار في رأس المال البشري الوطني، وتهيئة الأطقم الوطنيَّة المختصَّة، وتطوير المؤسَّسات التعليميَّة، وتعميم ثقافة المبادرة والريادة والابتكار، واستثمار الكفاءات الوطنيَّة، وتوسيع مشاركتهم في مهام تخطيط برامج التحوُّلات الاقتصاديَّة والاجتماعيَّة وتنفيذها .
سادسًا، تعزيز مقوَّمات الأمن الغذائي، والوصول إلى الاكتفاء الذاتي من إنتاج المحاصيل الزراعيَّة الأساسيَّة، والتوسُع في الصناعات الغذائيَّة النوعيَّة.
سابعًا، تطوير القطاع الصحّي، وبناءِ منظومةٍ صحيَّة على أسس ومفاهيمَ صحيَّةٍ مبتكرة جديدةٍ، وضمان استمراريَّة جودة خدمات الرعاية الصحيَّة العامَّة والخاصَّة.
ثامنًا، رفع إسهام القطاع الخاص في الاقتصاد الوطني، الشركات المتوسِّطة والصغيرة خاصًّةً.
تاسعًا، تطوير البنى التحتيَّة والهياكل الارتكازيَّة، وتوسيع شبكات الخدمات التوصيليَّة- (اللوجستيَّة) وتحديثها.
تلخيصًا لما تقدَّم، فالاختلالات العميقة والمتجذِّرة في هيكل الاقتصاد العالمي، وفي بنية الاقتصاديَّات القياديَّة، قد تجعل احتمال تعرُّض الاقتصاديَّات الوطنيَّة إلى صدمات اقتصاديَّة وماليَّة مستقبلًا حقيقة تكاد تكون شبه حتميَّة. علاقات الدول الاقتصاديَّة والتجاريَّة الثنائيَّة ومتعدِّدة الأطراف، وانفتاحها على الأسواق الماليَّة العالميَّة، تعرِّض اقتصادها إلى مخاطر الأزمات الكونيَّة، وإلى تقلُّبات الأسواق الماليَّة المفاجئة.
التحدِّي الأكبر، يكمن في تفاعل الأزمات الاقتصاديَّة الكونيَّة بشكل سريع ومعقَّد، ممَّا يصعب التنبُّؤ بها، واتِّخاذ إجراءات استباقيَّة لتجنُّب تداعياتها .
تحقيق المناعة المطلقة من الصدمات المفاجئَّة، كما بيَّنَّا هدف بالغ الصعوبة، وخطوة غير مرغوبة اقتصاديًا، إلَّا أنَّ بناء نظام اقتصادي قادرعلى مواجهة الصدمات المفاجئة، ومعالجة تأثيرها بأقلِّ قدر من الخسائر، هدف قابل للتحقيق إذا توفَّرت عناصر النجاح .
المربَّع الأوَّل في استراتيجيَّة احتواء الصدمات الاقتصاديَّةِ الخارجيَّة غير المتوقَّعة، يكمن في بناء اقتصاد مرن متنوِّع الموارد، وقائم على الابتكار والمعرفة، وذات قطاعات فاعلة ومتطوِّرة، ويمتلك عناصر القدرة على الاستمراريَّة مواجهة الصدمات. تحقيق ذلك يتطلَّب إحداث منظومة اقتصاديَّة دفاعيَّة قادرة على الاستشراف والمتابعة بآليَّات مواجهة، تشرف على قيادتها هيئة مركزيَّة محدودة مؤلَّفة من إخصَّائيّين وخبراء وطنيِّين .
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال