الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
ليس هذا المقال الأول الذي اتطرق فيه لاقتصاديات السوشيال ميديا والعلاقة بين وزارة التجارة ووزارة الإعلام لتنظيم سوق الإعلانات عبر مواقع التواصل الاجتماعي وكنت قد ناقشته عام 2017 من خلال مقال: “اقتصاد السوشيولوجيا الخفي” لمتابعة المقال فضلا أضغط هنا.
اليوم وقد انفجرت قضية مشاهير السوشيال ميديا وتحديدا في الكويت المتهمين بعملية غسيل الأموال اعود لتخصيص القول في مثل هذا النوع من الجرائم، وكيف من الممكن حل هذه المشكلة.
هناك دلائل ومؤشرات تدل على وجود شبهة غسيل اموال منها: مظاهر الثراء المفاجئ من دون ميراث أو مشروعات ناجحة، ملكيات مفاجئة في الأسهم والعقار ما بين فترة وأخرى .. ثم الاختفاء، أيضاً مشروعات صغيرة تقوم بحملة إعلانات غير منطقية، ونشاط غير طبيعي في سوق العقار يصاحبه عمليات نصب بالمليارات، ازدياد إعلانات من يطلق عليهم “الفاشينستات” مع امتلاك شركات برؤوس اموال ضخمة، ازدهار سوق تجارة الإقامات لأصحاب الرخص الوهمية، ارتفاع مخالفات مكاتب الصرافة من خلال تحويل غير شرعي للأموال، دخول مستثمرين مغمورين بأموال ضخمة في البورصة، غياب عناصر المُنافسة والربح في السوق.
يجب أن نضع في عين الإعتبار أن جريمة غسيل الأموال لا تختلف كثيراَ عن الجريمة الإلكترونية فهما وجهان لعملة واحدة، ومما لا شك فيه أن استخدام التقنية الحديثة فى جرائم غسيل الأموال أمر بالغ الخطورة، وذلك لارتباط عمليات غسيل الأموال بكافة أشكال الجريمة المنظمة كتجارة السلاح، المخدرات، المتاجرة بالآثار، الرشوة، اختلاس المال العام، النصب والاحتيال، البغاء وغيرها بالإضافة إلى ارتباط جرائم غسيل الأموال بدعم التنظيمات الإرهابية بصورة مباشرة، كما أنها باتت تهدد الاستقرار الاقتصادى على مستوى العالم وهى ترتبط بأنشطة غير مشروعة وعمليات مشبوهة يتحقق منها دخول طائلة تؤثر سلباً على الإقتصاد المحلي والعالمي.
ومن اثاره السلبية الضغط على النقد الأجنبي باجراء تحويلات مصرفية كبيرة والتأثير على أسعار الصرف مما يؤدي الى ضياع حقوق الدولة من الضرائب والرسوم واجبارها على الاستدانة بالاضافة الى تفشي الفساد وانعدام المساواة في توزيع الدخل القومي وارتفاع معدلات التضخم مما يزيد من الاضطرابات الاجتماعية.
وحسب تقديرات صندوق النقد الدولي أن انشطة غسيل الاموال تتراوح ما بين 2-5% من الناتج المحلي الاجمالي العالمي اي ان قيمتها تتجاوز تريلونات الدولارات فجرائم غسيل الأموال ليست جرائم أولية وإنما هى فى حقيقة الأمر جرائم تابعة، وهى من أكثر الجرائم تطوراً وارتباطا بالتقنية الحديثة، ففى الماضى كان الأمر يقتصر على إنشاء مشروع وهمى وضخ العوائد الغير مشروعة بصورة منتظمة، وكانت هناك دلالات يمكن استنباط قرينة غسيل الأموال منها مثل انتظام الشركات حديثة النشأة فى كافة تعاملاتها الضريبية ونموذجية حساباتها، وعدم تناسب دخل المشروع مع طبيعة إنتاجه، أو استمرار العمل بالمشروع رغم تحقيقه لخسائر مطردة، بالإضافة إلى رصد المضاربات غير الطبيعية فى البورصات أو التوسع المفاجئ فى شراء العقارات غير المسجلة.
ومع فتح ملفات مشاهير التواصل الاجتماعي الباحثين عن المال والثراء السريع واستغلال شهرتهم لأعمال غير مشروعه من خلال المواقع التي أصبحت غطاء لهذه الممارسات وتحت مصطلح الـ “Sold Out” ، كان من المتوقع أن تفتح تلك الملفات مع غياب وجود ضوابط فعالة للجوانب المالية والإجرائية المرتبطة بفئة بدأت تشكل قطاعاً مهماً في مجتمعاتنا العربية والخليجية بشكل خاص، كما ان الإجراءات المعلن عنها تجاه بعض المشاهير إجراءات احترازية لم تأخذ الصفة القطعية بعد ولكنها قد تأخذ هذه الصفة في المستقبل مع ثبوت التهم ضد المتورطين بهذه الجرائم، ومن المتوقع أن تتسع الدائرة لمشاهير آخرين وإلى شركات وبنوك وجهات تمويليه قد تكون قصرت في أداء واجبها الرقابي على حسابات الأشخاص أو المنشآت المرتبطة بهذا الجانب وهو جانب خطير لأن مسؤولية التقصير قد لا تطال تلك الجهات بشكل عام ولكن قد تطال المسؤولين العاملين في تلك الجهات، إذا ما ثبت وجود تقصير جوهري في تنفيذ إجراءات الوقاية الخاصة بمكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب او مصالح شخصية.
ومع ذلك تبقى الفئة المشتبه بها بغسيل الأموال، فئة قليلة مقابل مئات المشاهير الذين يمارسون أعمالهم بنزاهة وأمانة إلا أنه في غياب الضوابط الفعّالة للتعاملات المالية فإن المشكلة لا تقف عند المشاهير فقط ولكنها تمتد إلى من قد يستغل قدرتهم على التأثير الاجتماعي والإعلامي من خلال التسويق لعمليات مرتبطة بالاحتيال وغسل أو غيرهما من القضايا الأمنية الخطيرة، وخصوصاً أن التداخل الخليجي كبير في الجانب الثقافي والإعلامي.
وعلى سبيل المثال؛ يقوم حساب أحد مشاهير الخليج بشكل متكرر من الإعلان عن استثمارات مرتبطة بالعملات الرقمية وهي استثمارات وهمية تقدم للمتابعين على أنها حقيقية، ومثال آخر ما يقوم به أحد المشاهير الآخرين بالإعلان عن سداد المديونيات غير النظامية بشكل متكرر بشكل مخالف للأنظمة وهو ما يعكس جهل هذه الفئة بالأنظمة وضعف وعيه المالي والمهني الإعلامي وهو ما ينطبق على أغلب مشاهير التواصل الاجتماعي فهم لا يدركون خطورة وحساسية ما يقومون به وربما لا يستطيعون التمييز إذا ما قامت جهة باستغلالهم مع عدم توفر أنظمة وبروتوكولات للتحقق من أن الجهات التي يتعاملون معها حقيقية وليست جهة مشبوهة.
ومن أساليب غسيل الأموال شراء بضاعة معينة بأسعار متعارف عليها ليتم عرضها بأسعار مبالغ بها تتجاوز قيمتها 300%، فيبادر أحد أعضاء شبكة غسل الأموال بشرائها ودفع قيمتها مقابل أموال محرمة قبل تقاضي حصته من المبلغ، والجزء الأكبر يذهب للمغسل.
ومن الطرق الأخرى لغسيل الأموال أيضاً إنشاء مواقع تجارة إلكترونية والاستعانة بشخصيات عامة للترويج لها وعرض بضاعة معينة عبر تلك الشخصية، وبعد ساعة أو أقل يعلن انتهاء البضاعة بسبب الإقبال الكبير من المشترين، وبالتالي إيداع أموال طائلة بمبرر التجارة، وهي ما يعرف بـ«سولد أوت».
ومن أبرز أنشطة غسل الأموال شراء عقارات واستئجارها بشكل كامل بزعم الاستثمار وتأجيرها، الأمر الذي يسمح بإيداع أموال بعقود غير صحيحة، وتم ضبط حالة كهذه في دولة خليجية، إذ اتضح للأجهزة الأمنية أن أغلب العقارات المملوكة لمتورطين في غسل الأموال خالية من السكان رغم وجود عقود بتأجيرها.
ايضاً اقتناء الاشياء الثمينة مثل المجوهرات القطع الفنية واليخوت وغيرها ذلك لان بائعو هذه المقتنيات يقبلون الدفع نقدا ودون طرح اي أسئلة عن مصدر هذه الأموال وبهذا تكون الاصول تحت ايديهم وبعيدا عن اعين السلطات المالية ويستطيعون تحويلها الى سيولة بسهولة
ومن اشكالها ايضاً النزاعات القضائية الوهمية ويتم خلالها التوصل الى تسوية لتسوية النزاع والدفع للشركة أو الشخص المتضرر او الحكم لصالحه واضفاء الصفة الشرعية على الاموال الدفوعة له.
غسيل الأموال له ثلاث مراحل اساسية: اولها مرحلة الايداع وهي الايداع في بعض البنوك او المؤسسات المالية الخاصة أو استبدالها بعملات أجنبية اخرى او شراء يخوت او عقارات او غيرها ليسهل بيعها والتصرف بها وهي أخطر مرحلة، تليها التمويه اي تحويل الاموال من بنك الى آخر ليصعب تتبع مصدرها، واخيراً مرحلة الاندماج وهي دمج الاموال المغسولة في الدورة الاقتصادية لتظهر وكأنها ناتج أرباح عملية تجارية.
وتعد مرحلة الإيداع للأموال من المراحل الصعبة للمتورطين في غسل الأموال كون أنظمة البنوك تحدد معايير للإيداع ما يجعلها عرضة للاكتشاف، فيلجأ المتورطون للتمويه عبر مزاعم الاستثمار والتجارة وفتح محلات تجارية لإضفاء شرعية على عمليات الإيداع، وتلجأ الرؤوس الكبيرة لإيجاد مصادر تساعدها في التبرير، وهو ما كشف عنه مؤخراً وتورط به مشاهير في منصات التواصل الاجتماعي، والهدف من هذه المراحل جعل تتبع مصدر تلك الأموال غير المشروعة أمراً صعباً.
إن نظام مكافحة غسل الأموال صدر بموجب مرسوم في 5/2/1439هـ، ليحل محل نظام مكافحة غسل الأموال الصادر في 11/05/1433. ويُعدُّ جرم غسل الأموال من الجرائم الكبيرة الموجبة للتوقيف، إذ تتعامل الأجهزة المعنية بشكلٍ صارم مع كل من يشرع أو يقوم بإخفاء أصل حقيقة الأموال المكتسبة أو الناتجة عن أفعال مجرَّمة بموجب الشرع أو الأنظمة، مثل الاتجار غير المشروع بالمخدرات والأسلحة وجرائم تزييف العملات وغيرها من الجرائم، علماً أن المال المراد إخفاء أصل حقيقته (غسله) ليس مقصوراً على النقد، بل يشمل الأصول والممتلكات والموارد الاقتصادية أياً كانت قيمتها أو نوعها أو طريقة امتلاكها، ويطلق على تلك الأموال بالمتحصلات في حال نشوئها بشكل مباشر أو غير مباشر من ارتكاب جريمة أصلية.
السعودية سنَّت عقوبات مغلظة على مرتكبي غسل الأموال، والإدانة بهذه الجريمة تعرض صاحبها لغرامة مالية تصل إلى 7 ملايين ريال والسجن لمدة تصل إلى 15 سنة أو بكلتا العقوبتين، ويمنع السعودي المحكوم عليه بعقوبة السجن في جريمة غسل الأموال من السفر خارج المملكة مدة مماثلة لمدة السجن المحكوم عليه بها، ويبعد غير السعودي المحكوم عليه في جريمة غسل الأموال عن المملكة بعد تنفيذ العقوبة.
ختاماً؛ اليوم أصبحت حوكمة التجارة الإلكترونية والمنصات أمر لابد منه من خلال فرض تشريعات حوكمة رقمية على تلك المواقع او ميثاق حوكمة استرشادي مع تطبيق معايير المحاسبة والرقابه والشفافية، و يجب على الشركات أن تحاسب المشاهير على اظهار منتجاتهم دون مقابل ودون الموافقة المسبقة، لأن صمتها عنهم وإن كانت مستفيدة يعد مساهمة في صنع صورة وهمية بأن ظهور المنتج يكون بمقابل مادي.
فظهور قائمة تضم عدداً من مشاهير التواصل الاجتماعي يدق ناقوس الخطر على كثير ممن عرفوا على تلك المنصات، فقد بدأ الكشف عن خيوط تلك القضية من شرق آسيا ووصلت إلى الخليج ووضعت علامات استفهام حول مدى مشروعية الأموال التي جمعها هؤلاء المشاهير.
الحل في الاتحاد والتنظيم وإيجاد قوانين وسياسات تتفق عليها دول الخليج وتمديدها بشكل قانوني للدول الصديقة للتعاون في هذا المجال. من خلال ربط الإعلانات بطلبات تقدم لوزارة التجارة ومن ثم لوزارة الإعلام وهي الرقيب المعني بالجانب المعنوي والأخلاقي، فلا يمكن أن تدعم الشركات المنحرفين أخلاقيا والذين يروجون لعادات سلبية، ولا يمكن للفاسدين استغلال عشوائية الإعلان لدى المشاهير لغسيل الأموال، سواء من خلال تقديم الهدايا غالية الثمن والشقق الفاخرة في مختلف الدول.
الجرائم في ظاهرها مغلفة بالملمح الاقتصادي وفي باطنها ومضمونها مخاطر أمنية مروعة تؤثر على الاقتصاد فضعف الوعي المهني له ابعاد سلبية كبيرة.
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال