الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
تحقيق التوازن بين دورالقطاعين العامِّ والخاص، وتحديد الأنشطة الاقتصاديَّة الملائمة لكلٍّ منهما والتفاعل الإيجابي بينهما، تعدُّ أحد أهمِّ تحدِّيات الاقتصاد الحديث. للحكومات دور مهمٌّ في تحقيق التوازن وتسهيل التبادل بين مكوِّنات الاقتصاد الأساسيَّة المتنافسة ذات الأهداف المتباينة والمصالح الاقتصاديَّة المتقاطعة.
خلال العقود المنصرمة الثلاثة، خطط غالبيَّة الدول النامية والصاعدة، وبرامج تنمية وإعادة الهيكلة الاقتصاديَّة، ركَّزت على انسحاب الدولة من الفعاليَّات الاقتصاديَّة، وتوقُّفها عن عرض السلع العامَّة، وتخلِّيها عن ملكيَّة المنشآت الخدمية ، واعتمدتها أهدافًا أساسيَّة في برامج إصلاح الاقتصاد وتنميته.
تاريخيًّا، الحركة المضادة لملكيَّة الدولة للمنشآت الاقتصاديَّة ، ومطالبات تحويل ملكيتَّها الى القطاع الخاص؛ “الخصخصة”، انطلقت مع انتخاب “مارغريت ثاتشـر” رئيسةَ لمجلس وزراء بريطانيا في بداية الثمانينيَّات من القرن الماضي، وإقرارها على تصفية الملكيَّة العامَّة لدوافع آيديولوجيَّة أكثر من كونها اقتصاديَّة، وكجزء من صراع حزبها “المحافظين” مع الحركات العماليَّة والنقابيَّة المعادية الناشطة في منشآت القطاع العام الكبيرة.
التيّار” الثاتشري ” المطالب بتصفية الملكيَّة العامَّة سرعان ما انضمَّت له حكومات عديد من دول أمريكا اللاتينيَّة وآسيا، وحكومات دول أروبَّا الشرقيَّة لاحقًا إثر انهيار المنظومة الاشتراكيَّة، التي وجدت في برامج الخصخصة خيارًا إصلاحيًّا تنمويَّا، بعد فشل تجربة اقتصاد التخطيط المركزي. نطاق التيَّار اتِّسع بعد تبنِّي المؤسسَّات الاقتصاديَّة الدوليَّة “صندوق النقد الدولي والبنك الدولي”، ومكاتب الاستشارات الاقتصاديَّة والماليَّة الكبرى منطلقاته . “وصفات” إعادة هيكلة الاقتصاد التي تقترحها المؤسَّسات المذكورة تركِّز بشكل كبير على اعتماد برامج “الخصخصة” وتخلِّي الحكومات عن التدخُّل في الأنشطة الاقتصاديَّة، كأحد أهمِّ مستلزمات إصلاح الاقتصاديَّات الوطنيَّة وتنميتها.
تعتمد مراجع مطالَّبات تفتيت الملكيَّة العامَّة للمنشآت الاقتصاديَّة الفكريَّة على طروحات علم الاقتصاد المحافظ التي تحصر دور الدولة الاقتصادي في خلق البيئة المؤسسيَّة المشجِّعة للمنافسة والابتكار، وتثبيت حقوق الملكيَّة الفرديَّة وحمايتها، والحدِّ من التشريعات الماليَّة والقانونيَّة المعيقة للاستثمار، وتخفيض الرسوم والضـرائب الحكوميَّة، وتسهيل ممارسة القطاع الخاص نشاطاته الإنتاجيَّة والخدميَّة. ضعف هذه الأطروحة، يكمن في انتفاء الأدلَّة التحليليَّة. فما من دولة، أو تجربة تنمويَّة تمكَّنت من الانتقال من حالة التخلُّف الاقتصادي والفقر إلى حالة التطوُّر والغنى اعتمادًا على هذه الأطروحة، ومن دون إسهام الدولة ومنشآتها الاقتصاديَّة المباشروالواسع في الاقتصاد .
استراتيجيَّات “الخصخصة”، ومطالبات التخلِّي عن الملكيَّة العامَّة تمحورت في مجموعة متداخلة من المبرِّرات الاقتصاديَّة والماليَّة التي استندت على ما يمكن وصفه “العبء الاستراتيجي الاقتصادي للملكيَّة العامَّة”. هذا العبء ينشأ – كما يطرح دعاة الخصخصة – عن تدخُّل السلطة الحكوميَّة وتأثيرها في قرارات إدارة المنشآت الاقتصاديَّة العامَّة، وكذلك بسبب انعدام آليَّات التحفيز الوظيفي، وعدم كفاءة الأداء وانخفاض حجم الإنتاج وجودتة، وتدني معدَّلات الإنتاجيَّة وغيرها من سمات التعثُّر الإداري والإنتاجي في المنشآت العامَّة ، والتي تفرز أعباء ماليَّة ناتجة عن دعم الدولة وتغطية خسائرها الماليةَّ، ودعم أسعارمنتجاتها التي تفتقر إلى الميزة التنافسيَّة.
الملكيَّة العامَّة وهيمنتها على مفاصل الاقتصاد الوطني – استنادا إلى دعاة تصفية الملكيَّة العامَّة – تحول دون نموِّ الاستثمارات الخاصة وتعيق المنافسة والابتكار، وتأسيس أسواق ماليَّة نشطة، وجذب الاستثمارات الخارجيَّة المباشرة. هذا العبء الاقتصادي الاستراتيجي المتأتِّي عن الملكيَّة العامَّة، يؤدي إلى اختلالات بنيويَّة وإلى تدنِّي كفاء الأداء المؤسَّسي، وانخفاض معدَّلات الإنتاجيَّة في كافة القطاعات، مما يعيق قدرة الاقتصاد على النموِّ والاستقرار.
حلُّ هذه الاختلالات الهيكليَّة المعيقة للنموِّ والتقدُّم الاقتصادي والاجتماعي وفقًا لطروحات الخصخصة، يكمن في تهميش الملكيَّة العامَّة. فتحويل ملكيَّة الشـركات العامَّة إلى القطاع الخاص، يقود إلى تحسُّن كفاءة الأداء المؤسَّـسي وارتفاع معدَّلات الإنتاجيَّة، وتوسيع قاعدة الملكيَّة الخاصَّة، وتحفيز الاستثمار الخاصِّ وجذب رؤوس الأموال الأجنبيَّة و تطوير الأسواق الماليَّة المحلِّيَّة، إلى جانب تقليل الأعباء الماليَّة الحكوميَّة، وتخفيف الضغط على الميزانيَّة العامَّة،وتوجيه الموارد الحكوميَّة إلى الاستثمارات الأكثر جدوى.
هذه الطروحات المغرية، والتبريرات التي تبدو منطقيَّة وصلبة نظريًّا، ربَّما لن تصمد إزاء التحليل النقدي، وتعاني من عدَّة فجوات:
أوَّلًا، انتفاء الأدلَّة التحليليَّة على تفوُّق أداء القطاع الخاص على كفاءة أداء القطاع الحكومي بشكل مطلق. ثمَّة الكثير من الشركات العامَّة المتميَّزة في أدائها، ومعدَّل انتاجيَّتها المرتفع وربحيَّتها، مقابل ذلك هناك كمٌّ هائلٌ من تجارب فشل الشركات الخاصَّة. كما أنَّ إسقاط معايير تقييم أداء المنشآت الخاصَّة على القطاع العام إجراء خاطيء بسبب تباين أهداف القطاعين. مصلحة القطارت البريطانيَّة مثلًا، سبق أن شملتها قرارات (خصخصة ثاتشـر)، لكنَّها – بعد فشل ادارتها الخاصة-أعيدت لاحقًا إلى إدارة الملكيَّة العامَّة. نموذج آخر، قطاع الرعاية الصحيَّة في الولايات المتَّحدة الأمريكيَّة الذي يسيطر القطاع الخاص على الجزء الأكبر منه، يعاني من أزمات بنيويَّة عميقة وأداءه العام ضعيف ممماثلة بالدول المتقدِّمة الأُخرى التي ترتفع فيها نسبة مساهمة القطاع العام في تقديم الرعاية الصحيَّة. معدل كلفة الفرد الواحد الصحيَّة في الولايات المتَّحدة يفوق قريناتها من الدول المتقدَّمة بنسبة أربعين من المئة، مقابل حصول الفرد على خدمات أقلَّ شموليَّة وأدنى جودة ونوعيَّة.
ثانيًا، الإخفاق في إدارة برامج الخصخصة، قد يحوِّل ” العبء الاستراتيجي” للملكيَّة العامَّة إلى “عبء اجتماعي واقتصادي” ذات تبعات ماليَّة واجتماعيَّة مكلفة ومعقَّدة. الكثير من تجارب “الخصخصة” فشلت في تحقيق الأهداف المتوخاة من تحويل الملكيَّة العامَّة، وأفرزت تحدِّيات كبيرة، أبرزها عدم توازن سوق العمل، وارتفاع نسبة البطالة ممَّا زاد من أعباء الميزانيَّة العامَّة، وعرقل نمو الاقتصاد واستقراره.
ثالثًا، القطاع العام لا يشكِّل عائقًا أمام توسُّع نشاط القطاع الخاص، وقيام أسواق ماليَّة محليَّة فعَّالة. تجربة الدول الإسكندنافيَّة ودول أخرى تقدِّم الأدلَّة على إمكانيَّة بناء اقتصاد متقدِّم قائم على التوازن بين القطاعين العام والخاص، ويسهم كلاهما في خدمة المجتمع ورفاهيَّته.
رابعًا: الإخفاق الإداري في المنشآت الاقتصاديَّة العامَّة لا يبرِّر التخلُص منها، وتصفية دورالقطاع العام في النشاط الاقتصادي وتنمية المجتمع. كثير من تلك المعضلات الإداريَّة قابل للحلِّ والإصلاح. كما أنَّ تصفية الملكيَّة العامَّة لا تعدُّ ضمانة لإصلاح الاقتصاد وتطوُّره. كثير من اقتصاديَّات دول أمريكا اللاتينيَّة؛ الأرجنتين خاصَّة، تعرَّضت إلى أزمات اقتصاديَّة هيكليَّة عميقة، ومشاكل اجتماعيَّة معقَّدة إثر”خصخصة” منشآت القطاع العام.
لا خلاف في أنَّ برامج تحويل الملكيَّة العامَّة عمليَّة معقَّدة تحمل قدرًا كبيرًا من مخاطر ماليَّة واجتماعيَّة، وأنَّ نجاحها يعتمد على وضوح الأهداف والسياقات المنظِّمة لإجراءات نقل الملكيَّة. “العبء الاستراتيجي للملكيَّة العامَّة” قابل للتحوُّل إلى “عبء اقتصادي واجتماعي” ثقيل إذا لم يتم اعتماد معايير واضحة، وضوابط تحول دون خسارة أصول الشركات الحكوميَّة نسب كبيرة من قيمتها السوقية . غياب المعايير الفعالة وعدم تطبيق أسس الرقابة الحسابيَّة، وانعدام الشفافيَّة وأسس الحوكمة المؤسسية ، قد يفرز نتائج اقتصاديَّة واجتماعيَّة معاكسة لأهداف برامج الخصخصة، اخطرها زيادة معدَّلات الفقر وتهميش الطبقة الوسطى واتساع فجوة التفاوت الاجتماعيي والاقتصادي .
هل هناك نماذج بديلة لتفعيل دورمنشآت الملكيَّة العامَّة والاستفادة من إمكانيَّاتها في تحقيق النموِّ الاقتصادي أكثر جدوى من خيارالتصفية الشاملة؟
ثمَّة عدَّة خيارات وحلول بديلة للخصخصة الكاملة تستحقُّ التوقُّف والمراجعة. تبنِّي إحداها قد يتيح للحكومة تحقيق جانب من أهدافها، وتخفيف أعباءها الإداريَّة والماليَّة، وتقليل المخاطر، والاستفادة من تجربة القطاع الخاص، وتقليل التأثيرات السلبيَّة لنقل الملكيَّة العامَّة في المجتمع،إلى جانب مزايا الاحتفاظ بجزء من ملكيَّة المنشآت والحصول على موارد ماليَّة مستدامة . تحديد البديل الأفضل من بين الخيارات المتاحة، قرار سياسي يعتمد على طبيعة أهداف الحكومة واستراتيجيتها الاقتصاديَّة، ونمط الاقتصاد المستقبلي المنشود. يمكن بإيجاز، عرض خيارات أربعة كبدائل من “خصخصة” الملكيَّة العامَّة الكاملة:
1- إعادة تحديد الأهداف، وهيكلة المنظومة الإداريّة ؛ تحديد مؤشِّرات ومعايير أداء واضحة وثابتة، وإعادة هيكلة المنظومات الإدارية، وإنشاء مجلس إدارة يضمُّ خبرات وطنيَّة من القطاع الخاص، ومجلس رقابي يشـرف على سياسات مجلس الإدارة ومتابعة تنفيذ قراراته. على سبيل المثال، بادرت الحكومة النيوزلندية في منتصف الثمانينيَّات من القرن المنصرم بإعادة هيكلة منظومات الشركات المملوكة للدولة، وأعادت تحديد أهدافها ومسؤوليَّاتها، وركَّزت على مؤشر الربحيَّة، فنجحت في نقل ميزانيَّات الشركات من وضع الخسارة إلى تحقيق أرباح .
2- التحويل الجزئي للملكيَّة العامَّة؛ تحدِّد الدولة نسبة الملكيَّة العامَّة المراد الاحتفاظ بها، وتطرح المتبقّي من حصص رأس المال إلى اكتتاب الأفراد والمؤسَّسات الماليَّة والاقتصاديَّة المحلِّيَّة، وتشكِّل شركة مختلطة بإدراة مشتركة.
3- التحويل المتدرِّج؛ تحويل ملكية المنشآ العامَّة تدريجيًّا إلى الاستثمار الخاص، وفق برنامج زمني محدّد وبنسب متصاعدة، أو متنازلة.
4- عقودالاستثمار والإدارة المشتركة؛ تأسيس علاقة شراكة استراتيجيَّة ثلاثيَّة؛ الدولة، مستثمر أو مجموعة مستثمرين محلِّيين، أو أجانب، وشركات إدارية ذات خبرات في إدارة منشآت المنافع العامَّة.
تبنِّي أحد الخيارات، يتيح للدولة تحقيق الإصلاح الاقتصادي المنشود، وتجنيب الاقتصاد والمجتمع مخاطر الصدمات المحتملة للتحويل السريع للملكية العامَّة. سجل الخصخصة، يقدِّم مزيجًا من تجارب النجاح والفشل. لقد تمكَّن عدد من دول أمريكا الجنوبية التي خصخصت القطاع العام من تحقيق نتائج نسبية ملموسة وقصيرة الامد منها ؛ زيادة حجم الإستثمارات، ورفع معدَّلات الإنتاجيَّة وتنمية الدخل الفردي وتوسيع الأسواق الماليَّة وتقليص عجز الميزانيَّة وزيادة الناتج المحلِّي الإجمالي. لكنَّها أخفقت في بناء اقتصاد متطوِّر ونموِّ مستدام. بالمقابل، أفرزت برامج الخصخصة نتائج اقتصاديَّة واجتماعيَّة كارثيَّة في عديد من الدول التي تبنَّتها خيارًا تنمويًّا وإصلاحيًّا.
إدارة برامج تحويل ملكيَّة المنشآت الاقتصاديَّة العامَّة عمليَّة معقَّدة ومتشعبَّة وتحمل مخاطر عدَّة. تحقيق أهدافها يعتمد على توفير مقوِّمات النجاح وعناصره. أهمُّها توفُّر القدرات المؤسَّسيَّة المنفِّذة والمتابعة، وإشراك الإمكانيَّات الوطنيَّة في كلِّ مراحل البرامج ومفاصلها. وا لأهم من كلِّ ذلك، عدم التسرُّع والتأكُّد من وتثبيت آليَّات ماليَّة وقانونيَّة تضمن حقوق الدولة، وتحقِّق أكبرعائد مالي.
إذا كان تحويل ملكيَّة المنشآت العامَّة إلى القطاع الخاص خيارًا حكوميًّا استراتيجيًّا محسومًا، ويشمل كلِّ القطاعات ، فهناك ضرورات وطنيَّة حيويَّة تقتضي إبقاء سيطرة الدولة على نشاطين حيوين ؛ توفير خدمات الصحَّة العامَّة لضمان الأمن الصحِّي للدولة، ونشاط التعليم بمستوياته من أجل حماية الأمن الفكري للمجتمع.
يبقى السؤال الصعب الباحث عن أجوبة منطقيَّة وعمليَّة: هل يقدِّم تحويل ملكيَّة المنشآت الاقتصاديَّة العامَّة حلًّا لمشاكل الدولة الاقتصاديَّة، ويسهم في بناء الاقتصاد المتطوِّرالمستدام؟
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال