الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
مع تشعُّب المشاكل الاجتماعيَّة وتفاقم حدَّة التحدِّيات الاقتصاديَّة، تصاعدت حاجة المجتمعات المعاصرة إلى إسهام المنظَّمات الاقتصاديَّة الإنسانيّة لقدرتها على تقليص الفجوة المتَّسعة بين محدوديَّة الموارد المتاحة للدولة وازدياد متطلَّبات المجتمع، وقابليَّتها لتقديم حلول فعَّالة للأزمات الاجتماعيَّة وخلق قيم اقتصاديَّة مضافة بكلف منخفضة.
المنظَّمات الاقتصاديَّة الإنسانيَّة المعاصرة كما وُصِفَت في مشاركة سابقة – كيان اجتماعي اقتصادي تنموي يسعى إلى تحقيق أهداف غير تجاريَّة أو ربحيَّة. ويتَّسم بمزيج من سمات المنشآت الخاصَّة والعامَّة وتربطه علاقات تبادليَّة بمكوِّنات الاقتصاد الأُخرى.
تجربة المنظَّمات الخيرية ، شهدت تحوُّلات جذريَّة في مفاهيمها ودورها المجتمعي خلال العقود الماضية، حيث يمكن تشخيص جيلين متميِّزين من المنظَّمات.
الجيل الأوَّل، مرحلة تأسيس المنظَّمات الخيريَّة انطلاقًا من مشاعر البرِّ والإحسان والالتزم بالقيم الدينيَّة والأخلاقيَّة. وتمحور نشاطها في تحقيق أهداف إنسانيَة نبيلة اقتصرت على: توفير خدمات الإغاثة وتخفيف معاناة الأفراد والأسر المتعسـِّرة ورفدهم بالمواد العينيَّة، وتقديم خدمات الرعاية الصحيَّة والتعليم بشكل محدود .
تجربة المنظمَّات الخيريَّة وأهدافها شهدا تحوُّلًا نوعيَّا خلال مرحلة الجيل الثاني، حيث انتقلا من الدورالتقليدي المقتصر على تقديم الخدمات الإنسانية إلى الإسهام الفاعل في برامج التنمية الاجتماعيَّة والاقتصاديَّة المستدامة. وتمكّنت المنظَّمات الاقتصاديَّة الإنسانيَّة من تحقيق إنجازات اجتماعيَّة واقتصاديَّة نوعيَّة في العديد من المجتمعات. وأسهمت في تعضيد التكافل الاجتماعي، وتعميم ثقافة المسؤوليَّة الاجتماعيَّة، وإعادة توزيع الثروة، وحماية البيئة. كما شاركت في تطوير رأس المال البشري عبر ما قدَّمته من دورات تدريبيَّة وتطويريَّة، وبرامج تمكين قدرات أفراد المجتمع ورفع إنتاجيَّتهم.
هذا الدور المتنامي للمنظَّمات الاقتصاديَّة الإنسانيّة في تطوير المنظومتين الاجتماعيَّة والاقتصاديَّة خلال الفترة المنصرمة، تعكسه مؤشِّرات الاقتصاد الكلِّي؛ أهمُّها نسبة إسهام المنظَّمات في الناتج المحلِّي الإجمالي، حيث يقدَّر معدلها في الدول المتقدِّمة بنسبة أربعة من المئة. في حين تصل تقديرها الى نسبة خمسة من المئة في الولايات المتَّحدة الأمريكيَّة، وإلى اثنتين من المئة في المملكة العربيَّة السعوديَّة .
صدمة جائحة كورونا وتداعياتها فرضت أعباءً آنيَّة كبيرة على عاتق المنظَّمات الاقتصاديَّة الإنسانيّة التي أسهمت في التصدِّي للجائحة وتخفيف آثارها الاجتماعيَّة والاقتصاديَّة، كما خلقت في الوقت ذاته تحدِّيات اقتصاديَّة واجتماعيَّة مستقبليَّة متعدِّدة ومعقَّدة من جراء تفاقم معدَّل البطالة والتوسُّع المخيف في نسب الفقر.
هذه التحدِّيات الآنيَّة والمستقبليَّة الصعبة، وارتفاع الطلب المجتمعي على خدمات المنظمَّات الاقتصاديَّة الإنسانيّة، يفرضان ضرورة إجراء تحوُّلات جذريَّة في مفاهيمها الأساسيَّة وفي طبيعة مهامها. وكذلك البحث عن صيغ مبتكرة تعزِّز موقعها الاجتماعي، وتوسّع مشاركتها في نموِّ الاقتصاد الوطني المستدام واستقراره.
ما هي آفاق التحول في دورالمنظَّمات الاقتصاديَّة الإنسانيّة؟ وما هي أهم تحدِّياتها المستقبليَّة؟.
وكيف يمكن تحوير دورالمنظَّمات الراهن لتغدو قوَّة اقتصاديَّة تنمويَّة مؤثِّرة، وأداة فاعلة في مواجهة التحدِّيات الاقتصاديَّة والاجتماعيَّة والإسهام المباشر في تحقيق التنمية المستدامة؟
تطوير دور استراتيجي أكثر فاعليَّة للمنظَّمات الاقتصاديَّة الإنسانيّة، يتطلَّب تغييرموقعها من “جهد مؤسَّسي” متمِّم لدور الدولة الاجتماعي إلى مكوِّن اقتصادي مؤثِّر وفاعل في دورة تكوين الدخل في الاقتصاد، من خلال تعميق انخراطها في الفعاليَّات الاقتصاديَّة، وزيادة اسهامها المباشر في تحفيز الاستثمار الوطني وزيادة حجم الاستخدام وتنمية الدخل الأُسري.
ولادة “الجيل الثالث” من المنظَّمات الاقتصاديَّة الإنسانيَّة، تتوقَّف على قابليَّة المنظَّمات لإحداث تغييرات هيكليَّة عميقة في تكوينها ومفاهيمها الإساسيَّة وأهدافها المركزيَّة، وإعادة توزيع مصادر تمويلها.
النقلة الأُولى نحو التحوُّل إلى منظومة “الجيل الثالث”، تكمن في ضرورة التركيز على تجفيف بؤرالفقر ومعالجة مصدريها الأساسين؛ البطالة وتدنِّي الدخل الفردي والأسري. رفع مستوى الاستخدام وتقليل معدَّل البطالة وزيادة معدل الدخل الفردي والأسري يجب تثبيتها أهدافًا مركزيَّة استراتيجيَّة للمنظمَّات دون إهمال الخدمات الاجتماعيَّة الأُخرى. تحقيق هذه الأهداف المركزيَّة، يتطلَّب إيجاد صيغ مبتكرة لخلق فرص عمل مجزية ودائمة من خلال الاستثمار المباشر، وإنشاء مشاريع اقتصاديَّة خاصَّة بالمنظَّمة، أو عبر استثمارات مشتركة مع المؤسسَّات الحكوميَّة والخاصَّة، أو مع منظَّمات اقتصاديَّة إنسانيَّة أُخرى محلِّية أو أجنبيَّة. نجاح خطط التمكين الاقتصادي للأفراد والأسر إلى جانب مكاسبه الاجتماعيَّة، يتيح للمنظمَّات إعادة توزيع نفقاتها، وتحقيق الاستخدام الأمثل لمواردها الماليَّة.
النقلة النوعيَّة الثانية نحو تكوين “الجيل الثالث” للمنظَّمات الاقتصاديَّة الإنسانيَّة، ترتبط في مفهوم الربحيَّة، ودور الأرباح في إدامة زخم نشاط المنظمات . توصف المنظَّمات الإنسانيَّة بكونها “غير ربحيَّة” تميزًا لها من المنشآت الخاصَّة “الربحيَّة”. ثمَّة نقطة مهمَّة تستحقُّ الإيضاح؛ هدف المنشأة الخاصَّة من ممارسة نشاطها وتحمُّلها المخاطر وفقًا لنظريَّة الاقتصاد الجزئي، تنحصـر في “تعظيم الربحيَّة “، وليس مجرَّد تحقيق أرباح. وهناك فرق واضح بين المفهومين. قيادات المنظَّمات الإنسانيَّة مطالبة بتجاوز قيود التسميات والتعاريف الشكليَّة، والسعي لتحقيق أرباح مقبولة، “ليس تعظيم ا لأرباح” مقابل ما تقدِّمه من خدمات نوعيَّة ذات قيمة اقتصاديَّة؛ كالخدمات الاستشاريَّة والتطويريَّة والخدمات الصحيَّة والتعليميَّة، على ألّاَ تكون الربحيَّة معيارًا أساسًا لتقييم أدائها.
حصول المنظَّمات على هامش ربح محدَّد لقاء استثماراتها، أو مقابل تقديمها خدمات معيَّنة، وعدم الاكتفاء بتحصيل أثمان تعادل كلفة تقديم الخدمة، يجب اعتمادها هدفا وسياقا ماليًّا ثابتًا لعدَّة دوافع؛ أهمُّها: تغطية الارتفاع المتواصل في نفقات التشغيل، وتعزيز إيرادات المنظَّمة ووضعها المالي، وتنمية رأس مال المنظَّمة. هذه العوامل الإيجابية للأرباح، تتيح للمنظَّمات توسيع حجم نشاطاتها وتنوُّعها.
أمَّا الحركة النوعيَّة الأساسيَّة الأخيرة المطلوب اتِّخاذها لانتقال المنظَّمات الاقتصاديَّة الإنسانيّة الى مرحلة “الجيل الثالث” والتي تشكِّل المهمَّة المستقبليَّة الأكثرتحدِّيًا لقياداتها، فتكمن في تعزيز الاستقلاليَّة الماليَّة وإعادة توزيع مصادرالتمويل. المنظَّمات الاقتصاديَّة الإنسانيّة، تستمدُّ إيراداتها من مصادر عديدة، أهمها: الدعم الحكومي المباشر وغير المباشر، ومن عوائد الخدمات المقدَّمة، وإسهام المؤسِّسين، وتبرُّعات الأفراد والشركات الخاصَّة الماليَّة والعينيَّة. الدعم المالي الحكومي يشكِّل المصدر الأكبرلإيرادات المنظَّمات ، حيث يبلغ المعدَّل العالمي لإسهام الإعانات الحكوميَّة في مجمل إيرادات المنظَّمات نسبة الثلاثين من المئة. وتبلغ النسبة في كلٍّ من الولايات المتّحدة الأمريكيَّة والمملكة المتَّحدة ثلاثة وثلاثين وأربعة وثلاثين من المئة على التوالي. وفي المملكة العربيَّة السعودية، تقدَّر النسبة بـسبعة وعشرين من المئة.
إيجاد مصادر تمويل جديدة إضافيَّة مبتكرة ودائمة، ورفع نسبة التمويل الذاتي الناجم عن عوائد نشاطات المنظَّمة، وتقليل مخاطر الاعتماد على الدعم الحكومي وإسهامات مؤسِّسـي المنظَّمة، تشكِّل تحدِّيات مستقبليَّة عصيبة لقيادات المنظَّمات الاقتصاديَّة الإنسانيَّة.
تقييم اداء المنظَّمات الاقتصاديَّة الإنسانيَّة وقياس أثرنشاطاتها مستقبلًا، يعتمد على نجاحها في زيادة حجم الاستخدام وتنمية الدخل الأُسري، وانخفاض الطلب على خدماتها التقليديَّة الإنسانيَّة، “الغذاء والدواء والكساء والسكن “. وكذلك قدرتها على توسيع مساحة مشاريعها واستثمارتها الخاصَّة، وتصعيد نشاط خدمات الرعاية الصحيَّة والتعليميَّة، والاستثمار في مشاريع الحفاظ على البيئة.
المرحلة التاريخيَّة الراهنة بكلِّ تعقيداتها وتحدِّياتها، تتيح لقيادات المنظَّمات الاقتصاديَّة الإنسانيَّة فرصة مراجعة أهدافها، وتشخيص أبعاد تحدِّياتها المستقبليَّة، وإقامة أُسس التحوّلات الاستراتيجيَّة الكفيلة بتقوية موقعها الاقتصادي، ونقلها من مساند لفعاليَّات الدولة الإنسانيَّة إلى قوَّة اقتصاديَّة تنمويَّة فاعلة، وكذلك تعزيز موقعها في شبكة الأمان الاجتماعيَّة الوطنيَّة.
لا جدال في أنَّ الانتقال إلى مرحلة الترسيخ الاسترتيجي لدور المنظَّمات الاقتصاديَّة الإنسانيّة مهمَّة صعبة ومتعدِّدة الأبعاد. فالتطوير في خضمِّ الأزمات الاقتصاديَّة الداهمة، ليس واجبًا هيِّنًا. في المهمَّات الاجتماعيَّة الكبرى، ليس المهمُّ ما يمكن إنجازه غدًا من مكتسبات فقط، بل الأهمُّ ما يمكن تحقيقه بعد عقد من الزمن من حلول دائمة تخفِّف ا لأعباء الإنسانيَّة وتزيل هموم الفقراء.
قبل أن نغادر هذه المساحة، لا بدَّ لي من تثبيت شكري وتقديري للمفكِّر الصديق الدكتور يوسف الحزيم، أمين عام مؤسَّسة العنود الخيريَّة، وأحد أبرز قادة العمل الخيري في الوطن العربي. وله يعود الفضل في كتابة هذه المشاركة. لقد كتب لي الدكتور الجليل بعد نشـر مشاركتي عن موضوع المنظَّمات الاقتصاديَّة الإنسانيَّة في صحيفة (مال الاقتصاديَّة) قبل أسابيع حاثًّا ومقترحًا عليَّ الكتابة مجدَّدًا في (عدد من المفاهيم المتعلِّقة بالنشاط الخيري). كما أودُّ أيضًا أن أقدِّم شكري وتقديري للعاملين والمتطوِّعين كافَّةً في المنظَّمات الخيريَّة النشطة في هذا الكوكب؛ مكففي دموع الأيتام، وزارعي البسمة في وجوه الفقراء على جهودهم المبدعة الخلَّاقة، وعلى جعلهم حياة الملايين من البشر أقلَّ قسوة.
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال