الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
بداية أود إيضاح المراد بالجرائم الاقتصادية، والذي يعتبر من المصطلحات الحديثة، ومن أوائل القوانين التي تناولته قانون (ضبط الجرائم الماسة بالتشريع الاقتصادي) الصادر في فرنسا عام 1945م. وهذا المصطلح -كغيره من المصطلحات المعاصرة- لا يكاد يوجد اتفاق بين القانونيين في تحديد نطاقه، ولكن بشكل عام يمكن القول بأن الجريمة الاقتصادية هي: كل فعل أو امتناع يُجرّمه القانون، ومن شأنه الإخلال بالنظام الاقتصادي والائتماني للدولة، أو بأهداف سياستها الاقتصادية أو مواردها.
ومن المتقرر في القانون الجنائي أن الركن المعنوي من أهم أركان الجريمة، والأصل والمبدأ العام هو أن عبء إثبات توافر هذا الركن بحق المتهم يقع على عاتق المدعي؛ إذ أن الأصل براءة ذمة المتهم وانتفاء وجود القصد الجنائي أو تلك النية لديه، ومن يدعي خلاف ذلك فإن الواجب عليها إثبات ذلك أمام المحكمة. هذا هو المبدأ العام في التشريعات الجنائية، ولكن ماذا عن الجرائم الاقتصادية؟ وهل يسري عليها هذا المبدأ العام أم لا؟.
الاتجاه الحديث يذهب إلى أن الجرائم الاقتصادية تتميز عما سواها من الجرائم بخطورتها العالية ومساسها بالاقتصاد الوطني، ونتائجها وآثارها الكبيرة؛ ولذا فإنها تتطلب إجراءات وقواعد قانونية مشددة تتناسب مع تلك الخطورة، ومن ذلك إقرار مبدأ خاص بها فيما يتصل بالركن المعنوي لهذه الجرائم، حيث يذهب أصحاب هذا الاتجاه إلى افتراض تحقق الركن المعنوي، بمعنى أنه بمجرد ارتكاب الجاني للركن المادي للجريمة الاقتصادية فإنه لا مجال للبحث في تحقق الركن المعنوي لدى المتهم ومدى توافر القصد لديه، بل يُفترض أنه قاصد لذلك الفعل، ولا حاجة لإثبات قصده ارتكابه، ولكن بإمكان المتهم نفي ذلك من خلال ما يُبرزه من أدله وبراهين، بمعنى أنَّ عبء إثبات عدم توافر الركن المعنوي يقع على عاتق المتهم، أي أن افتراض تحقق الركن المعنوي هو أمر يقبل إثبات العكس. وهناك اتجاه آخر يُقرر أن الجرائم الاقتصادية لا تختلف عمَا سواها من الجرائم، وبالتالي يجعلون عبء إثبات الركن المعنوي يقع على عاتق المدعي؛ إذ أن الأصل براءة ذمة المتهم.
وبالنظر إلى النظام السعودي، فإننا لا نجد نصاً نظامياً يتناول مصطلح الجرائم الاقتصادية، ولكن هناك بعض الأنظمة التي تُجرّم بعض الجرائم التي تدخل في نطاق الجرائم الاقتصادية ومنها نظام مكافحة غسل الأموال، والذي يُقرر أن الأصل هو عدم تحقق الركن المعنوي بحق المتهم، وأنه لابد من التحقق من وجوده؛ إذ ينص في المادة (الرابعة-2) على أنه: “يُتحقق من القصد أو العلم أو الغرض في ارتكاب جريمة غسل الأموال من خلال الظروف والملابسات الموضوعية والواقعية للقضية”. فنلحظ النص على أنه لابد من التحقق من القصد والعلم، ولم يكتف النظام بافتراض وجود ذلك لدى المتهم.
وأما ما يتصل بالقضاء في المملكة فقد صدرت عدد من القرارات من لجنة الاستئناف في منازعات الأوراق المالية، تقرر أن الركن المعنوي في الجرائم الاقتصادية (ولم تخصص جريمة بعينها) هو ركن مفترض وعلى المتهم أن يثبت عدم توافر هذا الركن أو إثبات قيام سبب يحول دون مسؤوليته عن ذلك الفعل المخالف، ومنها القرار رقم (2/ل.س/2017 لعام 1438هـ) وكذلك القرار رقم (1119/ل.س/2016 لعام 1438هـ)، وكذلك القرار رقم (1479/ل.س/2018 لعام 1439هـ).
ويبدو أن سبب الخلاف بين هذه الاتجاهات هو في زاوية الرؤية التي ينطلق منها كل اتجاه، حيث أن الاتجاه الأول يتجه إلى مراعاة الجانب المجتمعي، والحد من الجريمة بالنظر إلى الخطورة البالغة لهذه الجرائم الاقتصادية، وأهمية مكافحتها، وضمان عدم إفلات مرتكبيها من العقوبات المقررة، في حين يذهب الاتجاه الآخر إلى مراعاة القواعد والأصول العامة التي تقرر أن الأصل براءة ذمة المتهم، وكذلك عدم التوسع في الإدانة، وهذا هو ما سار عليه نظام مكافحة غسل الأموال السعودي. وأعتقد أن الاتجاه إلى افتراض الركن المعنوي قد يكون أكثر موائمة بشأن الجرائم المنسوبة إلى الشخصيات المعنوية، كالبنوك وغيرها من المؤسسات المالية.
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال