الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
بدأت فكرة أن وجود قطاع مالي متقدم في دولة ما يسهم إيجابا في النمو الاقتصادي لهذه الدول، والتي تزامنت مع ازدهار الأسواق المالية مع بداية التسعينات الميلادية، والتي تناولتها العديد من الدراسات الأكاديمية، التي تبرهن وجود علاقة طردية بين حجم القطاع المالي وبين النمو الاقتصادي، فكلما ارتفعت معدلات نمو الأسواق المالية، عد ذلك كمؤشر يتنبأ به على نمو الناتج المحلي الإجمالي GDP.
إلا أنه بعد الأزمة المالية العالمية، والتي حدثت في 2008، ظهرت دراسات تفند أهمية نمو الأسواق المالية، ملقية الضوء على حقيقة أن الدول الأكثر تضررا كانت معدلات نمو قطاعها المالي كبيرة جدا متجاوزة بذلك اقتصادها المحلي، وأن نمو الأسواق المالية مهم إلى حد ما، فإذا تجاوزت معدلات نمو أسواق المال معدلات نمو الاقتصاد، فإن ذلك يعد مؤشر خطر على السلامة المالية، توزيع الموارد الاقتصادية وسبب في حدوث الأزمات المالية.
كما ازدادت الدراسات الأكاديمية المتعددة الاختصاصات ” interdisciplinary studies “لدراسة أسواق المال وتأثيرها على الاقتصاد والمجتمعات وعلى سلوك الأفراد، والتي كانت في الماضي مقتصرة على تخصصات المالية والاقتصاد.
أصبح تحليل أسواق المال وتأثيرها من اختصاص عدة اختصاصات كالقانون، علم الاجتماع والنفس وغيرها، والتي تتطرق لتحليل ما يحدث في الأسواق بنظرة أكثر شمولية، مؤكدة بذلك على حقيقة أن القطاع المالي لا يمكن أن يكون بمعزل، وأنه جزء لا يتجزأ من الاقتصاد والمجتمع، وأن كل ما يحدث فيه يمس أفراد المجتمع، الاقتصاد المحلي والدولي ككل.
أحد أهم نتائج هذه الدراسات إلقاء الضوء على ظاهرةFinancialization أو ما يطلق عليه التحول من الرأسمالية الصناعية إلى الرأسمالية المالية.
والتي تعني عملية زيادة حجم وتأثير المؤسسات المالية والأسواق في تشغيل الاقتصادات المحلية والدولية، بالإضافة إلى تزايد دور الدوافع المالية المحركة للشركات المدرجة، المؤسسات والأسواق المالية، والتي كانت أحد مسببات الأزمات والفضائح المالية.
فمؤخرا بلغت القيمة السوقية لسبعة أسهم فقط في السوق الأمريكي مؤخرا 39% من الناتج المحلي الإجمالي فيما بلغت القيمة السوقية للسوق الأمريكي 178%مقارنة بالناتج المحلي الإجمالي الأمريكي، كما تجاوزت القيمة السوقية لأسهم شركة أبل Apple الناتج المحلي الإجمالي لدولة كندا.
فما هو الذي نعنيه بالنمو الاقتصادي ممثلا بالناتج المحلي الإجمالي، وما هي معدلات نمو الأسواق المالية ولماذا من الضرورة التمييز بينهما؟
يعرف الناتج المحلي الإجمالي بقياس القيمة السوقية لكل ما ينتجه الأفراد والشركات في دولة ما خلال فترة زمنية معينة، في حين أن فكرة الأسواق المالية، والتي تكسبها صفتها النظامية بأنها وسيلة نقل الأموال من الجهات ذات الفائض المالي ” مشاركي السوق” إلى الجهات التي تحتاج إلى تمويل ” الشركات المدرجة” عن طريق تقسيمها إلى حصص مساهمة كأوراق مالية بالتسعير العادل عند الطرح الأولي لتصبح بعد ذلك قابلة للتداول بسعر العرض والطلب وفقا لسياسات المشاركين إما بالتحوط أو المضاربة.
فالدراسات المتعددة الاختصاصات تعنى بتكييف الأسواق نظاميا تكييفا صحيحا والتركيز على وظيفة الأسواق الأساس وهي كونها وسيلة تمويل للشركات المدرجة في السوق وأداة استثمار لمشاركي السوق.
فعند التطرق لحقيقة وجود أسواق المال، لابد من التركيز على العوائد الاجتماعية للقطاع المالي، فالقطاع المالي عوائده الاجتماعية أقل عند مقارنته بالقطاعات الإنتاجية كالصناعة والتعدين من حيث توفير فرص العمل والمنتجات وغيرها. كما أن هناك مخاوف بأن وجود قطاع مالي كبير يستحوذ على الموارد المالية من القطاعات الإنتاجية في الاقتصاد، وبالتالي التأثير على كفاءة توزيع الموارد المالية في الاقتصاد، والذي قد يسبب البطالة وضعف الشركات غير المالية مقارنة بالشركات المالية لعدم قدرتها على التداول المالي.
ومن ناحية أخرى، فإن ازدياد أهمية ارتفاع قيمة السهم بالنسبة للشركات، قد تسبب ضغوط مالية تؤدي إلى تغييرات في استراتيجية الشركات وحوكمتها، لمواءمة الحوافز الإدارية مع مصالح المساهمين، بالإضافة إلى التحول من السعي نحو فرص النمو المتمثلة في فرص استثمارية مستقبلية، إلى السعي نحو مصالح المساهمين عن طريق تقليص الحجم وتوزيعه، مثالها مؤخرا قيام بعض الشركات الأمريكية التي حصلت على الدعم الفيدرالي والمتعلق بأزمة الوباء كوفيد 19 بشراء حصصها وحصص أخرى في الأسواق الدولية بدلا من سياسة الاحتفاظ والاستثمار ذات التأثير في النمو الاقتصادي.
كما يمتد تأثير هذه الظاهرة إلى القطاع المصرفي، الذي سيكون لاعب رئيسي في التداول المالي لتحقيق الأرباح بدلا من الإقراض والاقتراض، بالإضافة إلى كثرة الاندماج أو الاستحواذ بين البنوك لأسباب متعلقة بقيمة أسهم هذه البنوك، دون الأخذ بالاعتبار قلة عدد البنوك في بعض الدول، وأهميتها لقطاع الشركات المتوسطة والناشئة بالإضافة إلى قطاع الأفراد.
وأخيرا، صحيح أن دور أسواق رأس المال يشمل على تسهيل زيادة رأس المال للشركات والاستثمار وإدارة المخاطر كما أن أسواق رأس المال توفر تقييمًا للشركة وأصولها، بالإضافة إلى أن تمويل أسواق رأس المال يتميز عن التمويل البنكي بأنه يعد منصة مثالية للتطوير الأسرع لأفكار الأعمال وأنشطة المخاطرة الريادية، إلا أن الأسواق المالية جزء من الاقتصاد، ولنجاح الأسواق تنظيميا ولتحقيق السلامة المالية لابد التعامل معه على هذا الأساس.
وأختم باستنتاج بنك التسويات الدولي The Bank For International Settlements في آثار نمو القطاع المالي على الاقتصاد الحقيقي وخلص إلى أن نمو النظام المالي هو في الواقع عبء على نمو الإنتاجية، وهذا يعني أن الازدهار المالي لا يصاحبه دائمًا نمو وتطور في الاقتصاد الحقيقي.
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال