الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
ما قدَّمه اقتصاديو تيَّار “التوليف الكلاسيكي المُحدث” من فرضيَّات وإضافات جديدة إلى التحليل الكينزي، عزَّز ثقة الاقتصاديِّين في قدرة نماذج الاقتصاد الكلِّي على استشراف تقلُّبات الطلب المستقبليَّة والسيطرة عليها. هذه الثقة قوبلت بشكوك أقليَّة مؤثِّرة من الاقتصاديِّين بقيادة الأستاذ (ملتون فريدمان- Milton Friedman)، عرفت لاحقًا بـ (المدرسة النقديَّة – Monetarists ). وجَّهت هذه المجموعة انتقادت حادَّة للمدرسة الكينزيَّة ولأُطروحات “تيَّار التوليف الكلاسيكي” وتحليلاته. أكثرالانتقادات شدَّة، تلك التي ركَّزت على تبرير “الكينزيِّين” تدخُّل الحكومة في الاقتصاد، وقدرة السياسات الحكوميَّة على معالجة تحدِّيات الاقتصاد الكلَّي المعقَّدة!.
إلى جانب ذلك، أثار “النقديُّون” تساؤلاتٍ مشكِّكةً في إدراك الاقتصاديِّين مكوِّنات الاقتصاد الكلَّي، ومحدوديَّة معرفتهم بطبيعة التقلُّبات الاقتصاديَّة، وفي إمكانيَّاتهم على وضع سياسات قادرة على معالجة التباطيء الاقتصادي كذلك، والمحافظة على استقرار الطلب الكلِّي والسيطرة على مستويات الأسعار والإنتاج.
خلال عقد الستينيَّات من القرن المنصرم، هيمن سجال المدرستين “الكينزيًّة” و”النقديَّة” على النتاج الاقتصادي الأكاديمي، وتركز في ثلاثة محاور خلافيَّة أساسيَّة: مقارنة فعَّاليَّة السياستين النقديَّة والماليَّة، وتأثيرهما في الطلب والإنتاج، وسلامة نتائج (منحنى فيليبس- Phillips Curve) واستقراره. وكذلك دورالسياسات الحكوميَّة وتأثيرها في الاقتصاد بشكل عام.
انصبَّ الخلاف الأوَّل والأكثر أهميَّة واتِّساعًا على دور السياستين الماليَّة والنقديَّة، وأيُّهما أكثر قدرةً على تحفيز الطلب الكلِّي والإنتاج ؟ المدرسة الكينزيَّة التزمت السياسة الماليَّة آليَّةَ مُجابهة فعَّالة، ومؤثِّرة في الطلب الكلِّي، وفي مستوى الإنتاج. وتمسَّكت بقدرتها على تصحيح التقلُّبات الاقتصاديَّة بشكل سريع ، وبكونها أقوى تأثيرًا من السياسة النقديِّة. عدم فعاليَّة السياسة النقديَّة، وفقًا للكينزيِّين، ناجم عن ضعف تأثير سعرالفائدة في كلٍّ من الطلب الكلِّي والإنتاج.
في كتابهم القيِّم الذي يعدُّ وثيقة مهمَّة في تاريخ الفكر الاقتصادي ؛ (التاريخ النقدي للولايات المتَّحدة). “1867- 1960 – A monetary history of the united state “، الصادرسنة 1963، حللَّ (ملتون فريدمان)، و(آنا شوارتز-Anna Schwartz) العلاقة بين عرض النقد ومستوى الإنتاج، وبرهنا على وجود علاقة وثيقة بين تغيُّرات عرض النقد وتقلُّبات الإنتاج خلال المرحلة موضوع البحث، واعتمدا النتيجة التحليليَّة دليلًا على قوَّة السياسة النقديَة وفعاليَّتها. كما قدَّما تفسيرًا جديدًا للكساد العظيم، وأرجعاه إلى خطأ كبير في السياسة النقديَّة، نجم عن عزوف بنك الاحتياط الفدرالي عن زيادة القاعدة النقديَّة في إثر انهيارالنظام المصـرفي، وانخفاض عرض النقد.
هذه النتائج المغايرة لتحليل المدرسة الكينزيَّة وطروحاتها، وسَّعت نطاق السجال، وأفرزت جملةً من المواقف والتحدِّيات المضادَّة، وأنتجت بحوثًا متميِّزة ركَّزت على مقارنة فعاليَّة السياسة الماليَّة بالنقديَّة. إلَّا أنَّ الطرفين توصَّلا لاحقًا لهدنة فكريَّة، وأقرَّا بفعَّاليَّة كلا السياستين، وإِنْ بشكل غير واضحٍ! واتَّفقا على أنَّ الحلَّ الأمثل لمجابهة التقلُّبات الاقتصاديَّة يتطلَّب استخدام مزيج من آليَّات السياستين النقديَّة والماليًّة.
الخلاف الفكري الثاني بين المدرستين النقديَّة والكينزيَّة، انصبَّ على (منحنى فيليبس- Phillips Curve) الذي طوَّره الأستاذ النيوزلندي (وليام فيليبس – William Phillips ) سنة 1958، وبرهن من خلاله على وجود علاقة عكسيَّة بين مستوى الأجورالنقديَّة والبطالة. هذه العلاقة طُوَّرت لاحقًا من الأستاذين الكبيرين (بول سامويلسون – Paul Samuelson) و (روبرت سولو – Robert Solow) إلى علاقة عكسيَّة مباشرة بين نسبة التضخُّم ومعدَّل البطالة.
المدرسة الكينزيَّة، تبنَّت هذه العلاقة، وقدَّمت أدلَّة تحليليَّة على سلامتها النظريَّة، وعلى استقرار (المنحنى)، وبرهنت على فاعليَّتها في المديين؛ المنظور والبعيد. بالمقابل، تعرَّض (المنحنى) إلى نقد الكثيرمن الاقتصاديِّين المناهضين للفكر الكينزي، وأبرزهما الأستاذان “فريدمان” ، و (إدموند فيلبس – Edmond Phelps ) اللذان نشـرا دراسات مشكِّكة في قوَّة (المنحنى)، وبيَّنَا أنَّ علاقة (التبادل العكسي- Trade- off) المفترضة بين مستوى التضخُّم ومعدَّل البطالة نافذة فقط في المدى المنظور. وأنَّ (المنحنى) غير مستقرِّ في المدى الطويل. كما حذَّرا من مخاطر استغلال أصحاب القرار هذه العلاقة لدوافع سياسيَّة وشعبويَّة، وتخفيضهم معدَّل البطالة، وخلق فرص عمل للعاطلين بقبول نسبة تضخُّم مرتفعة.
أمَّا الخلاف النظري الأخير بين المدرستين، فيتعلَّق بموقف المدرسة النقديَّة “الآيديولوجي المشكِّك بدورالحكومة في الاقتصاد وأهداف سياساتها وفعَّاليَّتها بشكل عام. حجَّتهم، قامت على أنَّ ما يملكه الاقتصاديًّون ومخطِّطو السياسات من معلومات ودراية، لا تؤهِّلهم لاستشراف التقلُّبات المستقبليَّة في الطلب والانتاج، ولا تمكِّنهم من بناء نماذج اقتصاديَّة صائبة. لتفادي مخاطر السياسات الخاطئة على الاقتصاد، اقترح الأستاذ “فريدمان” أن تلتزم السياسات بقواعد ثابتة “Rules”؛ كتحديد معدَّل زيادة ثابت لعرض النقد. هذا الالتزام، كما قدَّمه الأستاذ “فريدمان” ربَّما لا يضمن استقرارًا اقتصاديًّا محكمًا. لكن من شأنه تقليل التقلُّبات الحادَّة في حجمي الطلب والإنتاج . الأستاذ “فريدمان” والمدرسة النقديَّة عارضا أيضًا اتباع السياسة النقديَّة التقديريَّة ” Discretionary Policy ” .
بحلول عقد السبعينيَّات من القرن المنصرم، خفَّت حدَّة المناكفات الفكريَّة بين المدرستين الكينزيَّة والنقديَّة، وبدا الاقتصاد الكلِّي أكثر نضجًا وقدرةً على تقديم قراءات مقبولة للأزمات الاقتصاديَّة، وعلى تصميم سياسات ناجعة لمجابهتها. لكن هذه الهدنة الفكريَّة لم تستمر طويلًا، فبعد مدَّة قصيرة من الهدوء الفكري النسبي، تعرَّض الاقتصاد الكلِّي الى استفزازين، أو تهديدين أثارا مقارعاتٍ فكريَّةً أشدَّ عنفًا وتعقيدًا عن سابقاتها.
التهديد الأوَّل، نجم عن تعرُّض غالبيَّة الاقتصاديَّات المتقدِّمة لمشكلة (البطالة التضخميَّة- stagflation)، وهي ظاهرة اقتصاديَّة غير مسبوقة، لم يتوقعَّها خبراء الاقتصاد الكلِّي. وتشير إلى تباطىء النموِّ الاقتصادي مع الزيادة المتواقتة للتضخُّم والبطالة اللَّتين أرجعها الاقتصاديُّون لاحقًا للتأثيرالسلبي لصدمة العرض في مستويات الأسعار والإنتاج. هذه الصدمة ” العرضيَّة” التي عجز عن رصدها وتوقُّعها أخصَّائِيُّو الاقتصاد الكلِّي، أنعكست سلبًا على سِمْعتهم، وأكَّدت مخاوف عجزهم عن توقُّع أسباب الأزمات، وتقلُّبات الطلب والإنتاج.
التهديد الثاني الذي تعرَّض له الاقتصاد الكلِّي ومفاهيمه الأساسيَّة كان ذا طبيعة نظريَّة، وصدرعن فريق من الاقتصاديِّين، أطلق عليه (مدرسة التوقُّعات العقلانية- Rational Expectations)، وكذلك “المدرسة الكلاسيكيَّة الحديثة “. تألَّف الفريق: من (روبرت لوكاس- – Robert Lucas) الحائز جائزة نوبل في العلوم الاقتصاديَّة عام 1995، و (توماس سارجنت – Thomas Sargent) الذي حاز الجائزة نفسها عام 2011، و (روبرت بارو – Robert Barro). هاجم “فرسان” مدرسة التوقُّعات العقلانيَّة الثلاثة الأسس النظريَّة للاقتصاد الكلِّي، وبيَّنوا ما اعتبروه وهنًا ونواقص وفشلَ تكهُّنات النماذج الاقتصاديَّة. كما انتقدوا بعنف الفرضيَّات الأساسيَّة للمدرسة الكينزيَّة لإهمالها تأثير التوقُّعات في سلوكيَّة الأفراد.
ترتكِّز منطلقات هذه المدرسة على دور التوقُّعات العقلانيَّة في الاقتصاد، وتأثيرها في نتائج السياسات الاقتصاديَّة. وتظهر أنَّ الأفراد يتَّخذون قراراتهم الاقتصاديَّة والماليَّة بناء على ثلاثة عوامل أساسيِّة: نتائج تجاربهم السابقة والمعلومات المتوفِّرة لديهم، ووعيهم العقلاني. أهميَّة دور التوقُّعات العقلانيَّة في منظور هذه المدرسة، لا ينحصـر في عمليَّة اتِّخاذ الأفراد قراراتهم، بل تأثيرها في مستويات الطلب والإنتاج المستقبليَّة. والأهمُّ في تقليلها من فعاليَّة سياسات إدارة الطلب.
هذه الفرضيَّات، نسفت أسس النظريَّة الكينزيَّة، ودعت لعدم التعويل على نماذج الاقتصاد الكلِّي الكينزيّة في رسم السياسات الاقتصاديَّة لافتقار بنيتها إلى التوقُّعات العقلانيَّة بشكل واضح. كذلك، لعدم صلاحيَّة النموذج الكينزي لتفسيرالفجوة بين مستوى الإنتاج الحقيقي والمستوى الطبيعي في المدى الطويل. نقد مدرسة التوقُّعات العقلانيَّة، أو ما عُرف بـ (نقد لوكاس- Lucas Critique ) لفرضيَّات المدرسة الكينزيَّة ركِّزً على إهمالها دورالتوقُّعات العقلانيَّة على سلوكيَّة الأفرد، وأثرها في تفاعل السياسات الماليَّة والنقديَّة مع الاقتصاد.
الانتشارالسريع لأفكارالتوقُّعات العقلانيَّة ونيلها القبول، يعودان إلى ما تضمَّنته من مغريات نظريَّة ورياضيَّة، وإلى أخطاء التعامل مع التوقُّعات في نماذج الاقتصاد الكلِّي، وإلى إخفاقات سياسات إدارة الطلب المتكرِّرة كذلك، وعدم نجاحها في السيطرة على معدَّلات البطالة والتضخُّم.
هذه المواقف المتصلِّبَة، أشعلت سجالًا فكريًّا جديدًا لم يخلُ من دوافع آيدولوجيَّة وعاطفيَّة، إلَّا أنَّ حدَّة السجال، فترت في منتصف ثمانينيَّات القرن الماضي، وبدأت جهود إدغام فرضيَّات مدرسة التوقُّعات العقلانيَّة بالنماذج الاقتصاديَّة والتحليل الاقتصادي الكلِّي.
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال