الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
خلال الأيام القليلة الماضية، تواردت لنا الأخبار عن شركتين مساهمتين في السوق السعودي عن اكتشاف حالات تلاعب واختلاس مالي بملايين الريالات خلال ثلاث سنوات. في الواقع، تعتبر مثل هذه الاخبار مقلقة سواء على الصعيد القانوني والرقابي و الاقتصادي، إذ كيف لشركات كبرى مؤثرة على اقتصاد الدولة، وبها عدد كبير من الموظفين أن يحدث فيها مثل هذا التلاعب بعيدا عن مرأى الرقابة الداخلية للشركات؟ فلو حدث فيها افلاس بسبب هذه الأفعال المشينة – لا سمح الله – سيترتب عليها آثار سلبية على جميع الأصعدة.
بعيدا عن هاتين الواقعتين، هل السبب في عمليات الفساد داخل الشركات والمؤسسات يعود الى ضعف قوانين الرقابة الداخلية؟ أم أن القوانين ذاتها تخدم مصالح شخصية؟ ام النظام الرقابي يحتاج الى اعادة هيكلة؟ الكثير من الأسئلة تطرح في هذا المجال والكثير من المقترحات توضع على طاولة الحلول و التي تساهم بعض منها في تحسين الوضع الى حد ما كتطوير أدوات الحوكمة على سبيل المثال. لكن المعضلة، أن المشكلة لا تزال قائمة وهي تكرار ممارسات الفساد بكافة أشكالها. بمعنى اخر، حتى لو تم تغيير الأفراد الذين يشغلون الوظائف، سيأتي موظفين اخرين يكررون نفس الممارسات، اذا اين هي المشكلة الحقيقية؟
خلال دراستي لموضوع الفساد، توصلت لنتيجة لعبت دور في تغيير نظرتي الى ديناميكية مكافحة الفساد، خاصة أن بدايتي كانت منصبة على التركيز على الجانب القانوني والتشريعي فقط. وجدت ان الانظمة القانونية مهما بلغت قوتها، لا يمكن أن تؤتي نتائجها المرجوة إذا كانت ثقافة الفساد تنخر أجزاء المؤسسة ذاتها، وهذا ما يمكننا أن نطلق عليه مصطلح “تطبيع الفساد في المؤسسات” حكوميةً كانت أو خاصة. فالقانون يبقى حروفاً على ورق، إذا لم يتم تطبيقه من قبل الافراد، وهذا لا يعني ان الحل هو جلب أفراد معروفين بنزاهتهم لشغل المراكز الحساسة المسؤولة عن تطبيق هذه القوانين، لأنهم في النهاية سيتم تطبيع الفساد في تصرفاتهم حتى لو كانوا ضد أعمال الفساد، فهم في نهاية المطاف جزء من المؤسسة، والإنسان “كائن يتكون من خليط معقد من المشاعر والدوافع والرغبات” وبالتالي يتأثر بالبيئة المحيطة من ناحية، ومن ناحية اخرى يستحيل معرفة مدى نزاهة الإنسان إذا لم يوضع على المحك. وهذا يستجلب مقولة تشانكيا ” رئيس وزراء امبراطور موريا في الهند”، حيث قال انه ” من المستحيل أن يمتنع الإنسان عن تذوق العسل الذي وضِع على لسانه”. قد لا اتفق مع تشانكيا بكلمة المستحيل، ولكن أُعيد صياغة جملته بقول ” ليس من السهل على الإنسان الامتناع عن تذوق العسل الذي وضِع على لسانه”. فالنتيجة النهائية التي توصلت لها هي أنه لا نستطيع الاعتماد فقط على وجود قوانين قوية، ولا على وجود عاملين معروفين بالنزاهة، لمنع الفساد في المؤسسات. لكن بالإمكان التعرف على أسلوب تطبيع الفساد في المؤسسة لتمكين هؤلاء العاملين النزيهين من تطبيق القوانين بشكل فاعل يقلل من معدل التلاعب بكافة اشكاله، بعيداً عن التأثر بثقافة المؤسسة.
لنتخيل معاً، ان لدينا مؤسسة حديثة الإنشاء، بمعنى أنها مادة خام، سيوضع لها قوانين وسيُعين فيها موظفين بمراكز مختلفة. الى الان لا يوجد أي نوع من أنواع التصرفات سواء تصرفات نزيهة او تصرفات فاسدة. هذا يعني ان تطبيع الفساد لو كان سيحدث، فهو لازال يمارس على الصعيد الفردي وهذي يعني المشكلة لازالت في درجاتها الدنيا ولم تصل الى مرحلة من التعقيد التي يصعب معها حل القضايا. المشكلة هنا ان الافراد العاملين، قد يكونون قادمين من مؤسسات تعاني من الفساد وبالتالي ينقلون هذه الثقافة الى المؤسسة الحديثة، خاصة أصحاب المراكز العليا و الحساسة، وهذا يعني ان هؤلاء القادة لهذه المؤسسة الذين يملكون سلطة اتخاذ القرار، سيؤثرون على العاملين تحت سلطتهم، بالايجاب او بالسلب. فلنفرض أن احد هؤلاء القادة قادم من مؤسسة متشبعة بثقافة الفساد، مما يعني أنه لا يجهله اساليب التأثير الملتوية على الموظفين ولا أساليب التلاعب. قائد واحد، قد يؤثر على عدد من العاملين لمساعدته في تحقيق مصالحه الشخصية مقابل أن ينتفع هؤلاء الأفراد من هذه المساعدة. ومصطلح “ينتفع” هنا لا يعني فقط الانتفاع المالي الفاحش، ولكن يعني المحافظة على وظيفته التي تعيله، او الحصول على ترقية، او عدم التدقيق في أعماله، والدوافع تختلف عند كل موظف، وغالبا القائد يكون لديه من الخبرة الكافية لمعرفة دوافع العاملين لديه للسكوت عن التجاوزات أو التعاون معه لإتمامها. العملية هذه تكون بين قائد واحد و ثلاثة موظفين فقط. لكن هذه المؤسسة ستقوم بتعيين موظفين اكثر، اما لكثرة الاعمال او لتسرب بعض الموظفين، مما يعني ان الموظفين الجدد سيتأثرون من تصرفات هؤلاء الذين على رأس العمل. وسيبدأ التأثير منذ أول يوم، سواء كان ذلك خلال التدريب للموظف الجديد او ان الموظف الجديد لدية الخبرة الكافية للعمل، فجميعهم سيكونون في مرحلة الملاحظة لأعمال أفراد المؤسسة، وبطبيعة الحال، وبشكل تلقائي، سيتطبعون بالجو العام للتصرفات، وهذا ما ينتج عنه العمل الجماعي او العقل الجمعي.
ختاما، الفكره هنا، ان تطبيع الفساد على المستوى الفردي يعني ان الفرد العامل في المؤسسة يعتقد أنه هو من اتخذ القرار بعيدا أي تأثير خارجي، لكنه في الواقع الإنسان مهما بلغت مستوى ثقافته و وعيه، يتأثر بمن حوله، وهذا نوع من انواع تأثير القوى الناعمة، حيث ان الموظف يرى أنه بتجاهل عمليات التلاعب او تصرفات الفساد او حتى ارتكابه للفساد شئ طبيعي وجزءاً من أسلوب التعايش مع ثقافة المكان، خاصةً إذا كان هذا الموظف لدية ما يخسره في حال اعتراضه و وقوفه في وجه هذه الثقافة.
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال