الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
بعد عقد من الرفض والنقد، والتشكيك في سلامتها النظريَّة وصواب تحليلاتها، بدأ اهتمام الاقتصاديِّين التدريجي في فرضيَّات “مدرسة التوقُّعات العقلانيَّة”، وانكبَّ عدد من أساتذة الاقتصاد الكلِّي على تحليل أثر فرضيَّة “التوقُّع العقلاني” في قرارات الاستهلاك والاستثمار، واختبار دورها في تحديد متغيِّرات الاقتصاد الأساسيَّة كالأسعاروالأجور، وكذلك مراجعة تفسيرها لتقلبات سوقيِّ السلع والعمل في المديَينِ المنظور والبعيد.
هذا التعامل مع فرضيَّة “التوقُّعات العقلانيَّة” لم يكن قبولًا مطلقًا أوجزئيَّا في طروحات المدرسة الكلاسيكيَّة الجديدة، بل اختبارًا تحليليَّا لنفاذ فرضيَّاتها. هذه الجهود انتجت إسهاماتٍ فكريَّة رائعةً، تعدُّ علاماتٍ مميَّزةً في تاريخ الاقتصاد الكلَّي. وفي مقدّمة ما حقَّقته هذه الاختبارات، نظريَّة ( المسار العشوائي للاستهلاك”- Random Walk of Consumption Theory” التي صاغها الأستاذ (روبرت هول– (Robert Hall واعتمدت فرضيَّة (التوقُّع العقلاني) في تحديد مستوى الاستهلاك الفردي. ووفقًا للنظريَّة؛ لا يمكن التكهُّن وتحديد الاستهلاك المستقبلي حتَّى إذا امتلك المستهلكون توقعُّاتٍ عقلانيَّةً. وسبب ذلك، يعود الى أنَّ المستهلكين يغيَّرون حجم استهلاكهم فقط في حال حدوث تغيًّرات مستقبليَّة في أحد محدِّدات الاستهلاك؛ كالدخل الفردي. ولأنَّ تقدير هذه التغيُّرات المستقبليَّة أمر صعب، فالأفضل اعتماد الاستهلاك العام الحالي لتقدير استهلاك العام المقبل.
إلى جانب تحديد أثر التوقُّعات العقلانيَّة في قرارالاستهلاك الفردي، أُجْرِيَتْ أبحاثٌ متميِّزة لقياس أثر التوقُّعات في مستويات الأسعار والأجور ومعدَّل البطالة. كان أبرزها مشاركات الأستاذين (ستانلي فيشر- Stanley Fischer ) و (جون تيلير –(John Tayler اللذين قدَّما دراسات تناولت العلاقة بين تغيُّرات الأسعار والأجور والتغيُّرات في معدَّل البطالة في حالة افتراض عقلانيَّة التوقُّعات. كما قدَّما تفسيرا مهمًّا للعلاقة بين تغييرعرض النقد وتغير الأسعار والأجور. وبرهنا على أنَّ مستويات الأسعار والأجور لا تتغيَّر بشكل متزامن مع توقُّعات تغييرعرض النقد، بل تتغيَّر بشكل بطيء ومتقطِّع، وغير مرتبط زمنيًّا بتغيُّرات عرض النقد.
مع بداية عقد التسعينيَّات، بات واضحًا عمق تأثير فرضيَّات مدرسة التوقُّعات العقلانيَّة، وما أحدثته من تغييرات جذريَّة في هيكل الاقتصاد الكلِّي. واتَّضح نجاحها في فرض مفهوم (النظرة المستقبليَّة -Forward looking Behavior) في التحليل الاقتصادي. كما بات واضحًا انحسار حلقات الاختلافات النظريَّة والتحليليَّة الفرعيَّة، وهيمنة ثلاثة تيَّارات نظريَّة أساسيَّة على (جدول- أجندة) الاقتصاد الكلِّي: المدرسة الكلاسيكيَّة الجديدة والفكر الكينزي الحديث، بالإضافة إلى نظريَّات النموِّ الحديثة.
اهتمام اقتصاديِّي “المدرسة الكلاسيكيَّة الجديدة” بقيادة الأستاذ ( إدوارد بريسكوت –Edward Prescott )، انصبًّ خلال هذه المرحلة على تطوير فرضيَّات خاصَّة بتحليل أسباب التقلُّبات الاقتصاديَّة عرفت بـ ( نظريَّة الدورات الاقصاديَّة الحقيقيَّة-Real Business Cycle Theory ). قدَّمت هذه النظريَّة تحليلًا مبتكرًا لتفسيرالفجوة بين مستوى (الإنتاج الطبيعي” المخطَّط” – ” (Natural level of “outputوالمستوى الفعلي للإنتاج. ما يؤخذ على هذه النظريًّة أنَّها قدَّمت تفسيرًا مبهمًا لتقلُّبات الإنتاج، وعزتها إلى التقدُّم التقني. كما أنَّ التطوُّرات الاقتصاديَّة اللاحقة، برهنت عدم دقَّة تفسير هذه النظريَّة لتقلُّبات الإنتاج ، إلَّا أنَّها برغم ذلك، قدَّمت طرق بحثٍ مبتكرة، ونماذج رياضيَّة متقدِّمة لحلِّ التحدِّيات الاقتصاديَّة المعقَّدة.
إلى جانب ما قدَّمته المدرسة الكلاسيكيَّة الحديثة من إسهامات قيَّمة، شهدت المرحلة إحياء البحث في نظريَّات النموِّ الاقتصادي التي فتر الاهتمام بها خلال العقدين السابقين ، بعد التقدُّم الذي حققَّته نظريَّتا النموِّ الاقتصادي اللتين صاغهما البروفسيور (روبرت سولو- Robert Solo). أهمُّ ما قُدِّمَ في هذا الحقل، (نظريَّة النموِّ الجديدة -New Growth Theory) التي قدَّمها الأستاذان( روبرت لوكاس – Robert Lucas و بول رومير –Paul Romer). ترتكز الفكرة الأساس للنظريَّة على دور (التقنية – التكنلوجيا) التي قدَّمتها محدِّدًا أساسًا ثالثًا من محدِّدات النموِّ الاقتصادي إلى جانب عنصريِّ العمل ورأس المال. وإلى جانب إبراز دور التقنية، عالجت النظريَّة أهمِّيَّة معيار (العائد المتزايد على السعة- Increasing returns to scale) الذي يحدِّد العلاقة بين كميَّة الزيادة في أحد عناصرالإنتاج وكمِّيَّة الزيادة في الإنتاج .هذه الفرضيَّات المهمَّة ونتائجها التحليليَّة حفزت المزيد من الدراسات المتعلِّقة بأثرالتقنيات في النموِّ، كدور (البحث والتطوير – Development Research and )، وكذلك تبعات التقدُّم التقني على مستوى الاستخدام ومعدَّلات البطالة. أبرز المساهمين في هذا النشاط البحثي الأستاذان (فيليب آكيون-Philippe Aghion و بيتيرهاويت-Peter Howitt ) اللذان طوَّرا مفهوم “عمليَّة التدمير الخلًّاق ” الذي ينصُّ على أنَّ إنتاج سلع جديدة وعرضها في السوق يلغيان أهمِّيَّة السلع القديمة، ويخفضان الطلب عليها. وسبق للاقتصادي الكبير (جوزيف شومبتير–Joseph Schumpeter ) أن عرضه في ثلاثينيَّات القرن العشرين المنصرم.
الحيِّز الأوسع والأهمُّ في مسار تطوُّر نظريَّات الاقتصاد الكلِّي المعاصر، استحوذه “اقتصاديُّو المدرسة الكينزيَّة الحديثة” لما قدَّموه من إضافات نظريَّة وتحليليَّة أسهمت في إيجاد تفسيرات وإعطاء حلول لمشاكل الاقتصاد الكلِّي المتشعِّبة والمعقَّدة. “الكينزيُّون الجدد”، أو (الاقتصاد الكينزيُّ الحديث- Keynesian Economics New)؛ مدرسة فكريَّة في الاقتصاد الكلّي المعاصر، تكوَّنت من اقتصاديِّين تقاسموا مفاهيم مشتركة، وانبثقت ردَّ فعل على فرضيَّات المدرسة الكلاسيكيَّة الجديدة، أو “مدرسة التوقُّعات العقلانيَّة”، وأدخلت تغييراتٍ جذريَّةً على الفرضيَّات الكينزيَّة الأساسيةَّ وطوَّرتها.
أحد أهمِّ أوجه الخلاف بين المدرستين، يكمن في مدى مرونة الأسعار والأجور، وسرعة استجابتهما للمتغيِّرات والصدمات الاقتصاديَّة. الكلاسيكيُّون الجدد، اعتمدوا مرونة الأسعار والأجور، وتمسَّكوا بقدرة الأسعار السـريعة على تحقيق توازن السوق؛ “تعادل العرض والطلب”. بالمقابل، شكَّك الكينزيُّون الجدد في قدرة آليَّة الأسعارعلى تحقيق توازن الأسواق. وانتقدوا النظريَّة الكلاسيكيَّة لعدم تقديمها تفسيرًا مقبولًا للتقلُّبات الاقتصاديَّة في المدى المنظور.
خلال عقد التسعيينيَّات، قدَّمت (المدرسة الكينزيَّة الجديدة) إسهاماتٍ نظريَّةً وتطبيقيَّة جادَّةً، وركَّزت على تفسير أسباب اختلال الأسواق، وعدم مرونة الأسعار والأجور، وقدَّمت عدَّة تفسيرات لأ سباب انخفاض الاستخدام وارتفاع معدَّل البطالة. أحد أهمَّ نظرِّيات تحديد الأجورفي أسواق العمل التي قدَّمتها هذه المدرسة (نظريَّة الأجورالكفوءة- Efficiency Wages Theory) والتي صاغها الأستاذ جورج اكرلوف – George Akerlof)، التي قدَّمت تفسيرًا جديدًا للبطالة، وأسباب فشل سوق العمل على تحقيق التصحيح الذاتي، وتوازن السوق. دفع المنشأة أجور مرتفعة، وفقًا للنظريَّة، يقود إلى رفع إنتاجيَّة العاملين، وتجعلهم أكثر حماسة للعمل، وتحفزًّهم على زيادة الإنتاج. كما أنَّها تساعد إدارة المنشأة على استقطاب الكفاءات البشريَّة المنتجة. هذه النتائج الإيجابيَّة لدفع اجور مرتفعة تفسِّر ثبات مستوى الأجور بسبب عزوف منشآت كثيرة عن خفض أجور عامليها برغم وجود فائض في عرض العمل، خشية تدهور الإنتاجيَّة وانخفاض الربحيَّة. منتقدو النظريَّة أشاروا إلى أنَّ دفع المنشآت أجور مرتفعة تزيد عن معدِّل الأجور السائدة في السوق “الأجر التوازني”، يسبِّب زيادة معدَّل (البطالة القسريَّة- Involuntary Unemployment ).
الجهود البحثيَّة الأُخرى “للمدرسة الكينزيَّة الحديثة”، ركَّزت على إيجاد تفسيرات لاستمرار الفجوة بين مستوى الإنتاج الطبيعي وحجم الإنتاج الفعلي لمدَّة طويلة، وعلى بحث أسباب عدم اتِّخاذ قرارات آنيَّة سريعة لتغييرمستويات الأسعار والأجور لردم الفجوة! وأكثر تحديدًا؛ على أسباب عدم اتِّخاذ قرارت تحديد الأسعار والأجور بشكل متزامن، وكذلك بحث مبرِّرات عدم تعديل الأسعار بشكل مستمرِّ ومنتظم؟
الأستاذان (جورج آكرلوف – George Akerlof وغريغوري مانكيو -Gregory Mankiw )، قدَّما أجوبة شاملة عن الإشكالات المذكورة، تضمَّنتها فرضيَّة ذكيَّة ومنطقيَّة، عرفت بـ (نموذج لائحة الأسعار-(Menu Cost Model التي عزيا بها أسباب عدم تزامن قرارات تحديد الأجوروالأسعار، وعدم تعديل الأسعار بشكل منتظم ومستمرِّ إلى الكُلف المترتِّبة عن تغيير أسعار السلع والخدمات التي تقدِّمها المنشآت . هذه الكلف تدفع المنشآت لتغيير أسعار منتجاتها بشكل متقطِّع، لكن ليس باستمرارٍ أو شكل منتظم.
تعرَّض هذا النموذج، كما هو متوقَّع إلى عدَّة انتقادات؛ لعلَّ أهمُّها: أنًّ كلف تغيير الأسعار ضئيلة. لذلك لا يمكن الاعتماد على تفسير هذا النموذج لحالات التباطؤ الاقتصادي ذات الكلف الاجتماعيَّة العالية.
مع اجتياز الاقتصاد الكلَّي بوَّابة القرن الجديد، تضاءلت الخلافات النظريًّة، وتلاشت الحدود بين التيَّارات الرئيسة الثلاثة، ولم تعد ثمَّة علامات فكريَّة فارقة تميِّز طروحات المدرسة الكلاسيكيَّة من المدرسة الكينزيَّة، فساد الخمول الفكري حتَّى جاءت ضربة الإيقاظ المرعب من الأزمة الماليَّة الكونيَّة سنة 2007، معلنة فشل الاقتصاديِّين المخضـرمين، وخبراء الاقتصاد الكلِّي ونماذجهم في توقُّع الازمة . وبدات مدافع الاتِّهامات تطلق نيرانها من جديد، وتجدد الصراع على فعاليَّة السياستين النقديَّة والماليَّة.
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال