الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
في المقالة السابقة، تم تسليط الضوء كيف يتحول الفساد من تصرف فردي الى ثقافة مؤسسية رابط المقال فضلا أضغط هنا. ولتبسيط الفكرة، افترضنا وجود مؤسسة حديثة لا تحتوي على اي ثقافة مسبقة، تم تشغيلها بقادة و موظفين جدد، والمشكلة تبدأ بالحدوث عند وجود قائد فاسد نتيجة لما يكون تحت يديه من سلطات وميزانيات ضخمة، أو انه قادم من مؤسسة مشبعة بثقافة الفساد والتي أثرت على معدل المبادئ الاخلاقية العامة التي يفترض ان يتحلى بها، وهذا يعني ان بذرة الفساد وجدت الان في المؤسسة، ومن هنا يبدأ التأثير على المرؤوسين كمرحلة اولى لتطبيع الفساد. وعندما يبدأ التأثير، يبدأ إيجاد التبريرات لارتكاب تصرفات يشوبها التحايل والتلاعب بأدوات المؤسسة النظامية والادارية لتحقيق مصالح الشخصية. تعتبر هذه المرحلة جدا مهمة لكل من يعمل في تصميم لوائح الحوكمة أو المراجعة الداخلية، او المتخصصين في البحث الجنائي و المحققين وهي معرفة لماذا هؤلاء العاملين يتورطون باعمال التلاعب و الاحتيال، وماهي نظرتهم الحقيقية لهذه الافعال وماهي الاسباب التي يتذرعون بها مما تجعل انتهاجهم لمثل هذه الأعمال غير مُجرم في نظرهم.
غالباً ما ينصب تركيز المختصين في مجال الحوكمة و المشرعين عند تشريع اللوائح الى وضع قواعد قانونية دقيقة تختص بالرقابة والمسائلة والمراجعة الداخلية و مواد قانونية تتناول مسألة تعارض المصالح والشفافية وغيرها من المسائل المهمة في هذا الجانب. لكن يبقى التساؤل الدائم لماذا لا نتمكن من الوصول للنتيجة التي نتمناها عند تشريع مثل هذه الانظمة؟ مناقشة هذا التساؤل يطول و إجابته ليست اكيدة، لكن هناك جزء من الاجابة الصحيحة لهذا التساؤل الا وهو “think like a crook”والتي تعني يجب علينا التفكير مثلما يفكر المتحايل لسد الخلل وبالتالي معرفة كيف يتصرف وكيف يبرر لنفسه تصرفاته وكيف يستخدم خبرته العملية والاجتماعية للتلاعب بما بين يديه من انظمة وميزانيات من دون الشعور بأنه ارتكب جريمة. وهذا يعني البحث في الحجج التي يتبناها المتلاعب لتبرير موقفه سواء اتجاه نفسه او اتجاه من يحقق معه.
فعلى سبيل المثال، إنكار المسئولية ذنب التلاعب من خلال اعتبار الفعل المُرتكب هو الخيار الوحيد لإنجاز مهمة معينة وفقا لظروفه، كأن يكون الدافع للتلاعب هو كونه عبداً مأموراً، او بسبب ضائقة مالية يعانيها، او ان هذا مايفعله الجميع، لذلك اين المشكلة في ارتكاب مثل هذا الفعل؟ تسبيب آخر قد يتبناه المتلاعب عبر انكار الاذى المترتب على فعله، بمعنى لو ارتكب الموظف تصرف ينطوي عليه شبهة فساد، فالمعيار الذي يردعه عن التلاعب هو التساؤل حول من سيتضرر؟ إذا كان المتضرر غير مرئي بالنسبة له فهذا مبرر قوي لاستمراره في مخالفة قواعد الحوكمة والنزاهة والمسائلة. قد تكون الاسباب المتذرع بها ان الفعل بحد ذاته غير مُجرم قانونياً، او ان ارتكابهم لمثل هذه الأفعال كانت بسبب الولاء لجماعته والتي ستعود عليه بمكسب اجتماعي عالي واحيانا مكسب مادي، احيانا اخرى الشعور العام في المؤسسة بأن التجاوزات التي تنطوي على احتيال أو تلاعب هي ليست مخالفة نظامية، وإنما هي عبارة عن روتين يومي لإجراءات العمل، وغيرها من الأسباب التي يطول الحديث عنها.
السؤال، لماذا هذه المبررات مهمة؟ من وجهة نظر الباحثين في مجال التحقيق الجنائي او الاجتماع و النفس، ان التركيز على معرفة مثل هذه المبررات تجعلنا ننظر الى الموضوع من زاوية المتلاعب والتي توضح لنا جذور المشكلة الا وهي عدم تحقيق الأهداف المُخطط للوصول لها. ومن نظرة قانونية، معرفة من هذه المبررات تمكننا من استخدام النظريات الاقتصادية في كتابة استراتيجية تسد الثغرات القانونية وترفع نسبة تحقيق الهدف من كتابة لائحة حوكمة لمؤسسة معينة او أي تشريع قانوني لتنظيم مسألة متعلقة بالفساد. فعلى سبيل المثال، عند معرفة المبررات التي تجعل هؤلاء العاملين في عين أنفسهم غير مذنبين، يمكننا تطبيق نظرية Cost-benefit calculation ،التي تمكن المشرع من معرفه مالذي سيكسبه المخالف للقاعدة القانونية ومالذي سيخسره فعلا. فاحيانا، العقوبة المشددة لاتعني انها ستكون رادعة اذا كان مكسب هذا الشخص من مخالفة القاعدة مرتفع، وإنما يجب دراسة الحالة المراد معالجتها تشريعيا من نواحي مختلفة سواء كان ذلك اجتماعيا و نفسيا و ثقافيا وإقتصاديا.
اضافة الى ذلك، ففي مرحلة التسبيب، تبدأ العلاقات بين أفراد المؤسسة تتكون وتتداخل لتصل لمرحلة التعقيد، ونتيجة
لذلك التداخل،يتكون مايطلق علية بجامعات الضغط (lobbying) أو ما يطلق عليه في ثقافتنا “شلل” تساعد بعضها البعض في إيجاد وسائل للتملص من المسئولية القانونية و الاجتماعية وبالتالي تتكون لدينا ما يسمى بجرائم الياقات البيضاء والتي تعني الجرائم المنظمة الغير عنيفة والتي ترتكب من قبل أصحاب النفوذ ومساعديهم من أجل تحقيق مصالح شخصية و مالية. في مثل هذا النوع من الجرائم، يصعب غالبا معرفة المتهم الحقيقي لأنه وفقا “مشكلة الوكالة” التي تنشأ نتيجة تفويض الوكيل للموكل صلاحيات معينة لإتمام عمل ما، فإن كثير من المسئوليات تم تفويضها لموظف آخر وبالتالي، عند التحقيق سوف يتم لوم افراد اخرين من ضمن الأفراد المكونين لهذا اللوبي.
لذلك، عند الوصول لمرحلة تكون اللوبيات التي تحيل ذنب مخالفة التشريع لافراد اخرين، فهنا نصل الى مرحلة انتقالية في مسألة تطبيع الفساد في المؤسسات، حيث اننا ننتقل من مرحلة التركيز على الفرد المسبب للفساد الى مرحلة معقدا جدا وهي مرحلة التركيز المؤسسة التي اجتاحها طوفان الفساد. وهذا ما سيتم الحديث عنه في المقالة القادمة بإذن الله.
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال