الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
مع هذه المشاركة، نكون قد وصلنا إلى الجزء الأخير من “قصَّة الاقتصاد الكلِّي”. عرض الجزء الأوَّل الإسهامات النظريَّة المبكِّرة التي حفزها صدور كتاب “النظريَّة العامَّة للاستخدام والفائدة والنقود” للاقتصادي الكبيرجون مينارد كينز عام 1936. كما قدَّم جانبًا من جهود اقتصاديِّي تيَّار “التوليف الكلاسيكي المُحدث”، وما أضافوه إلى النظريَّة العامَّة من فرضيَّات ونماذج الاقتصاد الكلِّي القياسيَّة. في حين قدَّم الجزء الثاني إيجازًا لأبرز سجالات الاقتصاد الكلِّي، وعرض انتقادات المدرستين “النقديَّة” و” التوقُّعات العقلانيَّة” للفكر الكينزي، وتشكيكهما في سلامة فرضيَّات النظريَّة الكينزيَّة.
أمَّا الجزء الثالث، فقد تناول أهمَّ تطوُّرات الاقتصاد الكلِّي، وتفاصيل الجدال النظري الحاد بين المدرستين “الكلاسيكيَّة الحديثة” و”الكينزيَّة الجديدة” خلال عقدي الثمانينيَّات والتسعينيَّات.
عشيَّة الأزمة الماليَّة الكونيَّة 2007، كان الاقتصاد الكلِّي يعيش حالة توافق فكري، ويشهد تداخلًا واسعًا بين فرضيَّات الاتِّجاهين الاقتصاديَّين الرئيسين، واختفاء الحدود الفارقة بينهما. فبعد عقود من الرفض والتشكيك النظري، بدأت نماذج المدرسة الكلاسيكيَّة تستخدم فرضيَّة “عدم توازن الأسواق” المعتمدة من المدرسة الكينزيَّة الجديدة في تحليلاتها. بالمقابل، أقدم “الكينزيُّون” على توظيف فرضيَّات المدرسة “الكلاسيكيَّة الحديثة” في تفسيراتهم للعلاقات الاقتصاديَّة. كذلك، نجح خبراء الاقتصاد الكلِّي المخضرمون في خلق أرضيَّة فكريَّة مشتركة، والوصول إلى مواقف شبه موحَّدة إزاء أبرز جوانب الاقتصاد الكلِّي، لعلَّ أهمُّها:
أوَّلًا: الاتِّفاق على فعاليَّة السياسة الماليَّة وتأثيرها في مستوى النشاط الاقتصادي على المديين المنظوروالبعيد. وأنَّ عجز الميزانيَّة العامَّة يقود إلى زيادة الناتج المحلِّي الإجمالي على المدى المنظور، لكنَّه ينتج أيضًا عجزًا في الميزان التجاري، ويقود إلى انخفاض التراكم الرأسمالي، وحجم الإنتاج على الأمد البعيد.
ثانيًا: تأثير السياسة النقديَّة في الناتج المحلِّي الإجمالي على المدى المنظور، وانعدام تأثيرها في المدى البعيد. كذلك العلاقة بين ارتفاع معدَّل نموِّ عرض النقد وزيادة نسبة التضخُّم.
ثالثًا : تأثيرتغيُّرات الطلب الكلِّي في مستوى الناتج المحلِّي الإجمالي على المدى المنظور. فزيادة ثقة المستهلكين والمستثمرين في أداء الاقتصاد، وارتفاع عجز الميزانيَّة العامَّة ،وزيادة عرض النقد، عوامل تقود إلى زيادة كلٍّ من الناتج المحلِّي ومستوى الاستخدام.
رابعًا: نموُّ الناتج المحلِّي الإجمالي على المدى البعيد، يتوقَّف على كلٍّ من حجم التراكم الرأسمالي والتقدُّم التقني.
أمَّا الجوانب النظريَّة التي لم يفلح خبراء الاقتصاد الكلِّي في الوصول إلى موقف موحَّد بشأنها، فيمكن حصرها بنقطتين:
الأولى: تحديد، أو تعريف وقت المدى القصير؛ الوقت الذي تؤثِّر فيه تغيُّرات الطلب الكلِّي في مستوى الناتج المحلِّي الإجمالي .
والثانية: معاييرالسياسات الأكثر فعَّالية، أو الأكثرجدوى. والمفاضلة بين تبنِّي قواعد ثابتة، كزيادة عرض النقد بمعدَّل ثابت ومعلن، أو الالتزام بمبدأ توازن الميزاينيَّة، أم اتِّباع معاييرتصحيحيَّة أكثر مرونة، أو (سياسيات تقديريَّة- Discretionary policies) تبعًا لحالة الاقتصاد.
هذا التوافق الفكري، خلق لدى الاقتصاديِّين ثقة في صواب مسار الاقتصاد الكلِّي، وقدرته على توقُّع تقلُّبات الانتاج والسيطرة عليها. ما عزَّز هذه الثقة، انتعاش اقتصاد الولايات المتَّحدة الأمريكيَّة الذي أطلق عليه “مرحلة الاعتدال العظيم”، الناجم عن السياسات الاقتصاديَّة لإدارة الرئيس الأمريكي الأسبق “وليم كلنتون “، وانتقال تأثيره الإيجابي إلى اقتصاديَّات الدول المتقدِّمة الأُخرى. فالاداء الاستثنائي للاقتصاد الأمريكي خلال المدَّة 1993-2001 ونجاح سياسات الإدارة الأمريكيَّة في خلق فرص عمل هائلة، وارتفاع الدخل الأُسري، وتحقيق فائض في الميزانيَّة العامَّة، وخفض نسبة التضخُّم، وتحقيق معدَّلات نموِّ إيجابيَّة ومستقرَّة، أوحت للكثيرين من الاقتصاديِّين أنَّهم قد أدركوا أخيرُا طبيعة الأنظمة الاقتصاديَّة ومفاصلها. وبدء المصرفيُّون وخبراء الاقتصاد الكلِّي الحديث عن فهمًا جديدًا لآليَّات السياسة النقديَّة وتأثيرها في الطلب الكلِّي والناتج المحلِّي الإجمالي . وانتقدوا اقتصاديِّي مرحلة الستينيَّات والسبعينيَّات لاتِّباعهم نماذج خاطئة، وعدم فهم علاقة السياسات بالاقتصاد! كما سادت مشاعر لم تخلُ من تعالٍ لدى جمهرة من الاقتصاديِّين بأنهم قد استوعبوا استخدام أدوات السياسات الاقتصاديَّة، ولوَّحوا بقدراتهم على إدارة الاقتصاد المعاصر، وأنَّ الاقتصاديَّات قد تخلَّصت من أزمنة الركود بشكل نهائي، واعلنوا وفاة الدورات الاقتصاديَّة !
لكن هذه المواقف المؤدلجة والمبالغ في تفاؤلها وتقديراتها لم تدم طويلًا، وسرعان ما انهارت من جرَّاء صدمة الأزمة الماليَّة الكونيَّة، واتِّضاح الأثر المدمِّر للأسواق الماليَّة، والممارسات المصرفيَّة الخاطئة. فهرع “النقديُّون” وغيرهم من خبراء الاقتصاد الكلِّي؛ في مقدِّمتهم ( بِن بيرنانكي – Ben Bernanke)؛ رئيس المجلس الاحتياطي الفدرالي آنذاك إلى الحكومات طالبين تدخُّلها، وتحفيز آليَّات السياسة الماليَّة وزيادة الإنفاق العام. هذه المواقف فسَّـرت ضمنيًّا اعترافا في فشل السياسة النقديَّة.
الإنهيار المالي الكوني، وما تلاه من ركود اقتصادي عميق وطويل، دفع غالبيَّة الاقتصاديِّين المهتمِّين بالاقتصاد الكلِّي إلى اتِّخاذ مواقف دفاعيَّة لتبرير فشلهم في توقُّع الكارثة، وعدم اعترافهم بالأسباب الحقيقيَّة. واستغَّل مناهضو علم الاقتصاد والمشكِّكون في فرضيَّاته هذا الفشل الكبير، وقدَّموه دليلًا على صواب طروحاتهم!
من الخطأ القول إنَّ أحدًا لم يتوقَّع حدوث هذه الأزمة. فقد سبق أن حذَّرعدد من الاقتصاديِّين من الممارسات المصـرفيَّة والماليَّة الخاطئة، ومن مخاطر الارتفاع غيرالمنضبط في أسعار المساكن في الولايات المتحدة الامريكية ، وقدَّموا أدلَّة تاريخيَّة على حالات انتعاش اقتصادي آلت إلى كوارث اقتصاديَّة. منها “الكساد العظيم” الذي سبقته مرحلة نموٍّ كبير في الائتمان العقاري أيضًا. إلَّا أنَّ هذه التحذيرات لم تلقَ اهتمامًا. وغلب رأي السياسيِّين وقادة المؤسَّسات الماليَّة المستفيدين من الانتعاش المفرط والهشِّ.
المراجعات الأكاديميَّة اللاحقة، شخَّصت بدقَّة أسباب فشل خبراء الاقتصاد الكلِّي في توقُّع الأزمة، وعزتها إلى عدَّة عوامل، أهمُّها:
أوَّلًا: عدم إدراك الاقتصاديِّين وأصحاب القرار الاقتصادي مخاطر الانتعاش الاقتصادي المصحوب بالبطالة المترتِّبة عن سياسات معالجة أزمة 2001. بالإضافة إلى إهمالهم أهمِّيَّة الحفاظ على معدَّل استخدام مستقر، وخلق أكبر قدر ممكن من فرص العمل.
ثانيًا: الإبقاء على معدَّلات فائدة منخفضة لزمن طويل بذريعة كبح جماح التضخُّم.
ثالثًا: عدم تقييم مخاطر التوسُّع المفرط في الأسواق الماليَّة، وفقدان الرقابة الفعَّالة على القطاعين المالي والمصرفي.
لاخلاف في أنَّ السجال على أهمِّيَّة السياستين النقديَّة والماليَّة سيتجدَّد مستقبلًا. لكن بمسارات مختلفة، وبمفاهيم ونقاط اهتمام جديدة. فالمفاضلة، ستكون بين السياسات الهادفة إلى خلق استثمارات اقتصاديَّة حقيقيَّة وتأمين فرص عمل مستدامة، وسياسات هادفة إلى تحقيق الاستقرار المالي.
لقد شهدت المرحلة السابقة إخفاقاتٍ أكاديميَّةً مؤلمةً في حقل الاقتصاد الكلِّي، وفشل الاقتصاديِّين في إدراك طبيعة تفاعل السياسات مع الاقتصاد، وإغفلوا فرضيَّاته الأساسيَّة، وإهملوا حقيقة أنَّ رفاهية الإنسان تتقدَّم على جميع الأهداف الأُخرى . تجنُّب الإخفاقات يتطلَّب استيعاب الأسباب الحقيقيَّة للأزمات الاقتصاديَّة، وإعادة رسم خريطة الاقتصاد الكلِّي، ووضع السياسات المبنيَّة على أسس اقتصاديَّة سليمة بعيدة عن طموحات القرارالسياسي. والأهمُّ من كلِّ ذلك ، بناء اقتصاد وطني مضاد للصدمات، وتأسيس شبكات آمان اجتماعيَّة متينة.
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال