الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
تخضع المشتريات الحكومية لتطوير مستمر، وفي السنوات الأخيرة نالت نصيب الأسد من التحديث والإنفاق ، تمثل ذلك في إنشاء عدة كيانات رقابية وتطويرية ، إضافة إلى تحديث نظام المشتريات والمنافسات الحكومية ، الذي خرج بالمشتريات من الأفق التقليدي ليمنحها مساحات نظامية كبيرة تستوعب أفضل الممارسات والنماذج العصرية الفعالة للمشتريات.
رغم أن النظام الجديد رفع الكثير من القيود النظامية وأهتم إلى حد كبير بتوازن العلاقة بين المقاولين والإدارات الحكومية إلا إنه ما زال عاجزا عن إخراج عقود المشتريات والمشاريع من الأطر الإدارية ، فالنظام ما زال يصنفها عقودا إدارية بكل ما يترتب على هذا الوصف من آثار تنعكس على الجوانب المهنية والمالية والقضائية. عقود المشتريات في الواقع عقود تجارية حتى وإن كان القطاع العام طرفا فيها . ذلك لأن هذه العقود تنظم علاقة بين صاحب صنعة وعميل على أساس تجاري ، فقطاع الأعمال يقدم خدماته ومنتجاته لجهة الإدارة بمقابل مالي وبمفهوم ربحي. وضعها في التصنيف الفعلي كعقود تجارية يسقط عنها حمولة مثقلة ، كبلتها ورفعت مخاطرها وقيدت إجراءاتها.
لست بصدد بحث الفروقات بين العقود الإدارية والعقود التجارية من ناحية قانونية ، ولكنني أنظر لها من نحاية آثارها على العملية الشرائية للخدمات والمشاريع و الإستحواذ على الأصول الرأسمالية. من الآثار المترتبة على هذا التصنيف (عقود إدارية) إخضاعها للأنظمة الإدارية ومنها ولاية المحكمة الإدارية وهي البعيدة عن العمل التجاري بأعرافه وقواعده المهنية والقضائية ، وكذلك ارتباطها بمفهوم المصلحة العامة كسلطة مطلقة. إخضاع هذه العقود للمفهوم الإداري ، بما في ذلك الإجراءات القضائية ، يبقى الموردين في القبضة النظامية حتى مع توزان النظام ويضعهم أمام مخاطر محتملة ، وهذا بلا شك ينعكس على التكلفة الكلية للأعمال والخدمات المعروضة كمقابل للمخاطر المحتملة ، وربما الحتمية.
التوصيف الإداري – نظاما وثقافة – أناط هذه العقود بالإدارة القانونية ، فالإدارات القانونية لدى الجهات الحكومية هي التي تتولى إدارة عقود المشتريات من الإعداد للتنفيذ للإغلاق. الإدارات القانونية – يا أيها الذين آمنوا – لا علاقة لها بالعمل التجاري ولا العمل الهندسي ، ويظل دورها منصبا على رعاية الإجراءات الإدارية والحدود النظامية. إسناد عقود المشتريات للإدارات القانونية نتج عنه إغفال الجانب المهني والعملي في تلك العقود وهو خلل منهجي كبير يكبد القطاع العام الكثير من الخسائر بشكل مباشر اوغير مباشر. إيماننا بأنها عقود تجارية ذات طبيعة مهنية يعزز ثقتنا في الإدارات التجارية ذات المهارات الهندسية القادرة على إدارة هذه العقود بمدخلاتها ومخرجاتها الهندسية.
النمط الإداري الحالي لا يعطي مرونة كافية لعمل فريق المشتريات لتكريس الممارسة التجارية بمفهومها الشامل وفق معطيات سوقية وعملية. فريق المشتريات بثقافته وكوادره الحالية يكتفي بالدور الإداري الإجرائي من منطلقات نظامية صرفة. هذه المنهجية والثقافة الراسختين لا تعطيان اعتبارا للمفاهيم التجارية والهندسية والممارسات الفعلية من واقع البيئة العملية ، فالنظام هو الهاجس الأول لدى هذه الإدارات ، إذا علمنا أن درجات النجاح في هذه الثقافة تقاس بمدى تقيد هذه الأعمال بالضوابط النظامية. هذه الثقافة لا تسقط الممارسات المهنية الصحية فحسب ولكنها أيضا غيبت التوظيف الأمثل للنماذج التجارية التي أقرها النظام الجديد لعملية الشراء. جزء من هذا الخلل يكمن في وجود كوادر ألفت العمل الإداري الروتيني ولم تتاح لها الفرصة للعمل من خلال نموذج تجاري ، فضلا عن عدم وجود المهارات اللازمة التي تساعد على استيعابه.
إذا تحدثنا بحياد و بموضوعية فإن الوضع الراهن للمشتريات الحكومية وبحسب ما شاهدناه للفترة المنصرمة ، لم ينفك بعد عن النمط التقليدي ، رغم الجهود الكبيرة للقطاعات الرقابية والتطويرية ورغم التحديثات الكبيرة على نظام المشتريات والمنافسات الحكومية ، ولا يلوح في الأفق ما يدعو للتفاؤل. أدرك أن القبضة الرقابية نتجت عن وفورات معقولة لكنها بالمقابل ما زالت عاجزة عن فهم الخسائر غير المباشرة ، فضلا عن التعامل معها ، وعلى الأرجح لا تملك الآلية المهنية لتطوير مدخلات و مخرجات المشاريع وتقليص المخاطر والحد من التعثرات. إنني على يقين بأن تطوير المشتريات الحكومية نحو كفاءة/فاعلية مالية وفنية لن يكون إلا بالإنفكاك من النموذج الإداري وتبني النموذج التجاري وتمكين أولي العلم من الطاقات البشرية المتخصصة ، التي تمتلك المهارات اللازمة لاستيعاب معطيات النظام الجديد أولا ولتطبيق أفضل الممارسات التجارية والهندسية ثانيا.
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال