الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
منذ عقود لم اسمع أي أخبار ساره قادمة من السودان سواء على المستوى الرياضي أو الفني ولا حتى تنموي، ربما الخبر الوحيد الذي سعدت بقراءته، هو فوز الفلم السوداني “سأموت في العشرين” لأمجد أبو العلاء في مهرجان البندقية السينمائي بعد عرضه على الصحافة والجمهور وحصل على جائزة “أسد المستقبل في سبتمبر من العام الماضي. والفلم السوداني يحكي قصة صبي موعود بالموت عند بلوغه العشرين من شيخ صوفي في القرية التي يعيش فيها الفتى مزمل، ويمضي وقته في انتظار تلك اللحظة الى أن يتعرف على صديق والده الغائب فيدخل عالمه ويكتشف أن الحياة ليست فقط تلاوة القران في انتظار الموت. والمتابع لأوضاع السودان سيجد أن هذا البلد يبدوا انه استسلم لهذه المقولة وينتظر الموت.
امضى السودان حقبة من الزمن في الصراع الداخلي والحروب الأهلية، توالت عليه حكومات لم تتمكن من بسط سيطرتها، وطال الليل على هذا الشعب، لم يذق فيها خبرا سارا أو يرى مشروعا تنمويا ولا حتى حينما يكون مغتربا لا يستطيع أن يفاخر بإنجازات وطنه سوى ما تيسر، والعام الماضي حينما اصدر مجلس السيادة الحاكم أول ميزانية للبلاد بعد الإطاحة بالرئيس البشير الذي امضى 4 عقود، جاءت مخيبة للآمال، فالحكومة الحالية ورثت حملا ثقيلا من تبعات الحكومة السابقة، وبيع الدولار الأميركي مقابل 100 جنيه سوداني في التعاملات النقدية يوم الاثنين مقارنة مع 88 جنيها الى أن وصل في سوق الصرف، ارتفاعه مقابل الجنيه السوداني في تعاملات السوق الموازية غير الرسمية بزيادة 10 جنيهات مطلع سبتمبر أما على شاشة بنك السودان المركزي، فظل سعر الدولار ثابتاً عند مستوى 55 جنيهاً للشراء واكثر من 55 جنيها للبيع. أما في السوق السوداء سجل الدولار نحو 260 جنيهاً، مقابل 250 جنيهاً خلال تعاملاته.
منظر السيول التي اجتاحت السودان قبل أسابيع حركت مشاعر دول العالم وتسأل الناس معها كيف لم تتمكن الحكومات المتعاقبة على تحسين البنية التحية وبناء شبكات لتصريف مياه الأمطار وعمل سدود وحماية ممتلكات الناس، وبشكل مخيف انهارت البيوت وغرقت معها وسحبت السيول ممتلكات الناس، وألحقت بالاقتصاد السوداني خسائر بالمليارات من تلف محاصيل زراعية وأكثر من 100 قتيل، كيف لبلد لم يستطع تقديم الخدمة للمستغيثين وليس لديها خطط طوارئ، فيما فقد الناس جراء السيول أسرهم وعائلاتهم وشردوا من منازلهم.
كمراقب عربي احزن كثيرا ويدفعنا تساؤل كيف غابت السودان عن برامج وخطط التنمية لماذا بقيت حبيسة ومنغلقة على نفسها، مع أن شعبها طموح ولديه رغبة أن يرى بلاده في ازدهار، إنما للأسف انشغلت في الحروب الأهلية، وتبني جماعات إرهابية، وانفصال الجنوب ارهقه اقتصاديا حيث اخذ معه ثلاثة أرباع إنتاج النفط، ومع انهياراته الاقتصادية، اعتاد السودان على المساعدات الخارجية من صناديق التمويل الدولية، وكلنا نعلم أن هذه المنظمات حينما تقدم قروضا أو تمويلات، فهي تفرض شروطا صعبة على هذه الدول.
والأسبوع الماضي أقر صندوق النقد الدولي برنامجا غير مالي للسودان، وهو نقطة رئيسية في محاولة الحكومة إنقاذ الاقتصاد الذي دمر على مدار عقود جراء سوء الإدارة. وأشار الصندوق الى أن المبادرة تستمر 12 شهرا و تدعم برنامجا محليا للإصلاحات ترمي إلى إضفاء الاستقرار على الاقتصاد وتحسين المنافسة وتعزيز الحوكمة.
في الوقت الذي يعاني فيه السودان من نقص حاد في إمداد الكهرباء والسلع الرئيسية، فيما وصل التضخم إلى 167 في المائة كما يتوقع أن ينكمش الاقتصاد بواقع 7 و2 من عشرة، والرفع التدريجي للدولار الجمركي سيكون أكثر تأثيرا على الشارع السوداني نظرا لاعتماد الأسواق على 90 في المائة من احتياجاتها على الواردات، كما سيؤدي كذلك إلى رفع كلفة الإنتاج المحلي نظرا لأن معظم مدخلات الصناعة تأتي من الخارج.
يبدو أن مقولة السودان سلة غذاء العالم، كانت مجرد شعارات خلال الحكومات المتعاقبة، ولم تسهم حقولها ومزارعها وحتى ثروتها الحيوانية التي تقدر بأكثر من مليون ماشية ويستحوذ على 30 في المائة من الثروة الحيوانية في العالم العربي، ودفع الفساد الحكومي وأيضا في بعض القطاع الخاص ورجال الأعمال الى تبديد الثروة وضياع المشاريع المهمة، بل أن الكثير من الأراض الزراعية باعتها الدولة وحولتها الى مشاريع إسكانية، وجمعت منها أموال طائلة، وزادت الطين بلة الأحزاب والجماعات السياسية التي عطلت الكثير من برامج التنمية على مدى العقود الماضية، وحولت البلاد الى ساحة لتصفية الحسابات.
المواطن السوداني ونحن نقترب من عام 2030 بعد عشر سنوات، الكثير من الدول خططت لمستقبلها، يريد أن يطمئن لأسرته وأبناءه ووظيفته. حال المواطن السوداني لا يسر ولا يبشر بمستقبل مضيء ومشرق في السنوات المقبلة، وحكوماته المتعاقبة أثقلت هموم المواطن.
واليوم حينما يتابع المواطن السوداني اقرأنه في البلدان الأخرى اقلها دول الخليج وكيف ازدهرت وشبابها يحصلون على خدمات متنوعة وحكوماتها تضع خطط وبرامج تنموية، واذا ما استمر الحال هكذا حتى السودانيين في الخارج سوف تتراجع تحويلاتها وفرص العمل أيضا، فالكثير من الدول اتخذت خطوات لتوطين العمل وأسندت الكثير من المهام على أبنائها وبناتها، ولم يتبقى إلا القليل حيث يتناقص العدد سنويا من 10 ملايين في 2008 حتى وصل الى 5 ملايين في 2017، والرقم مرشح للتراجع وحسب تقديرات البنك الدولي يتوقع انخفاض التحويلات المالية العالمية هذا العام 20 في المائة، وسط موجة التقلبات الاقتصادية الراهنة نتيجة جائحة كورونا، وسياسات الإغلاق، ومن ثم فإن الأموال التي يرسلها العمال الأجانب إلى أوطانهم ستتراجع مع انخفاض الأجور ومعدلات التوظيف، والسودان كانت تخطط لاستقطاب 6 مليارات دولار سنويا من تحويلات مواطنيها في الخارج.
إلا أن الحال كما هو الآن، فإنه من الصعب أن تجمع هذا المبلغ، ما يضع الحكومة السودانية أمام تحد صعب لمعالجة المشاكل الاقتصادية، ولعل اهم خطوة يجب أن تقدم عليها الحكومة السودانية الانتقالية هو مكافحة الفساد المالي والإداري، ووضع خطط تنموية، وبرامج لتحسين بيئة الأعمال والاستثمار، والتركيز على إعادة السودان لموقعه الحقيقي ويهمنا أن نرى المواطن السوداني شبابه وشاباته جميعهم منخرطين في بناء وطنهم والعودة لمسار التنمية التي حرم منها السودانيون خلال عقود طويلة.
سنوات الضياع التي أمضاها السودانيون تجعلني استعير مثلهم المشهور والمعروف .. “المحتاج بفتش خشم البقرة” على يقين انهم سيجدون حياتهم التي ضاعت.
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال