الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
لا يمكن الحديث عن أهمية المحامين في صناعة القانون ما لم تتحدث عن أشهر المحامين في عالم الشركات والاندماجات، والذي تم الاستخفاف به من قِبَل الكثير من الأكاديميين، فكثيرٌ من الجامعات والمؤسسات والمنظمات الحقوقية تطلب وده اليوم؛ لتقديم محاضرات ومؤتمرات واستشارات، ذلك هو (مارتي ليبتون)، العقل المدبر لحبة السم.
كانت بداية انطلاقته الحقيقية في السبعينيات، حيث منح الشركات الأمريكية ومجالس إداراتها فكرة جهنمية ما زال أثرها شاهدًا حتى اليوم. لذلك هو معشوقهم وحبيبهم الأول؛ لاستحداثه استراتيجية وسلاحًا من أقوى الأسلحة لهذه الشركات حيث مكنها من التصدي لأي محاولة شراء أو استحواذ لا تريدها الشركة أو مجلسها إدارتها، وتسمى خطة “حق المساهمين”، المعروفة بـ “حبة السم”، فحبة السم تجبر العارض في الدخول في التفاوض مع مجلس إدارة الشركة المعروض عليها عوضًا من أن يشتري أسهم المساهمين منهم مباشرة -دون علم مجلس الإدارة بذلك- ثم السيطرة على الشركة.
فحتى تُفهَم أهمية “حبة السم” يجب أن يُفهم الإطارُ والسياقُ التاريخيُّ التي تبلورت معه إبان تلك المرحلة، والتي كانت الشركات الأمريكية تعاني من Raider “المعتدٍ”, وهو شخص يهدف للسيطرة على الشركات، خصوصا تلك الشركات ذات التكتلات الاقتصادية، والتي تتداول بسعر أقل من قيمتها الحقيقية حسب النظرية الاقتصادية “خصومات التكتل”، فبعد السيطرة على التكتل أو الشركة يقوم ببيعها وتفكيكها وتحصيل العائد السريع.
فكرة حبة السم فكرة مشابهة للعبة اليابانية الكلاسيكية المشهورة Pac-Man “المتاهة” التي لعبها أغلبنا، حيث يقوم اللاعب بجمع النقاط متجنبًا أكل حبة السم أو القنبلة كي لا يموت. وعليه في عالم الشركات أيضًا، المشتري غير المرغوب به يجب عليه تجنب تفعيل “حبة السم”؛ وإلا منح كل مساهم الحق في شراء أسهم الشركة بسعر أرخص من السعر المتداول مُعرِّضًا أسهم المستحوذ أو من ينوي شراءها إلى تخفيض قيمة أسهمه، وبدون شك، هذا يجبره على التنحي والرجوع عن تقديم العرض مباشرة إلى المساهمين، وبدء التفاوض مع مجلس الإدارة.
وبشكل عام لا يمكن للمشتري أن يتجاوز “حبة السم” ما لم يقم مجلس إدارة الشركة بإلغائها. حتى لو حاول المشتري إقناع بقية المساهمين في استبدال أعضاء المجلس الحاليين عن طريق الحرب بالوكالة أي استبدال مجلس الإدارة فضلاً عن تكلفتها العالية وصعوبة توقُّع النتيجة. ومما يزيد المسألة تعقيدًا في حال نص النظام التأسيسي للشركة على -المجلس المتدرج-وهي وسيلة ناجعة ضد حرب الوكالة، وهذا يعني -بشكل مختصر- أن مجلس إدارة الشركة لا يمكن تغيير أعضائه إلا بشكل تدريجي، وعليه يبقى المجلس أو على الأقل بعض أعضائه ممن وضع حبة السم من الأساس، فهذا يجعل الشركة محصنة تحصينًا كاملًا ضد أي عملية استحواذ غير مرغوب بها.
وبالعودة إلى المحامي مارتي فإن فكرته لم يقتنع بها الكثير من عمالقة أساتذة القانون آنذاك، فهي سَلْخٌ كاملٌ لفكرة أحقية المساهم في بيع سهمه متى ما شاء، وبالسعر بالذي يريده، وبدأت معركة النقاش والجدال القانوني بين فريقين مدعومين بالنظريات الاقتصادية. ولكن فكرته وجدت انطلاقتها الكبرى بعد حكم المحكمة العليا في ديلاوير في عام ١٩٨٥ م بقانونية حبة السم في الدفاع وحماية الشركة ومساهميها. وعليه مَنح ذلك الحكم مجالس إدارات الشركات في ديلاوير اليد العليا في إجبار أي عارض للدخول في مفاوضات ودية مع المجلس، وللمجلس رفض السعر الذي يراه غير عادلٍ.
وعلى الرغم من تقييد المحكمة لمجلس إدارة الشركة لحبة السم بشروط سهل الالتزام بها؛ مما أدى إلى كبح موجة الاستحواذات غير المرغوبة -على حسب وجهة نظر الشركة ومجلسها-.
لهذا يرى البعض أنَّ مارتي حامل لواء مخيم الشركات ومجالسها مقارنة بالمساهمين خصوصًا الصغار الذين يحرمون من بيع أسهمهم بشكل أعلى من سعر السوق ليس لهم كلمة في مصير في تقرير حبة السم. وحتى لو أقنع المستحوذ بقية المساهمين برفع قضية ضد المجلس لرفع حبة السم، فكما جرت العادة سترفض المحكمة الدعوى طلب المساهمين إذا استطاع المجلس تبرير عدم وجاهة السعر المعروض.
بالتأكيد هناك فريق آخر عددهم ليس بالقليل يتقدمهم المساهمون الصغار ومعهم أصحاب صناديق التحوط ممن يرون عدم واقعية وعدالة حبة السم، فالمساهم يحتج بأن المجلس منعه من حقه الدستوري في بيع سهمه، لا سيما أن العارض يعرض سعرًا مرتفعًا عن السوق ويبرر شراءه بأنه منفعي فقط لإصلاح مسار الشركة بوضع فريق أفضل تحت مبررات اقتصادية مثل التعاون الاقتصادي. باستحواذهم على أمثال الشركات يعزز الجانب الحكومي حيث يجب إدارة تلك الشركات بطريقة فعالة. وحسب النظرية القانونية المشهورة في حوكمة الشركات حينما تفشل الحوكمة الداخلية، يأتي الدور الخارجي الحكومي كالمستحوذ الذي يطرد أعضاء مجلس الإدارة الحاليين، ويقوم بإصلاحات في الشركة، فيرون أن حبة السم ليس إلا لحماية تلك الشركات ومدرائها من خسارتهم لمراكزهم المالية والوظيفية.
في أمريكا -بالتأكيد- ما زال الخلاف مستمرًا بين الفريقين على الأقل في أروقة الفصول الدراسية، ليس على قانونيتها؛ فهذا حسمته المحكمة، بل على ما إذا كانت المبررات التي يعلنها المجلس كافيةً ومقنعةً لتفعيل حبة السم. ومما يزيد الأمور تعقيدًا ظهور مشتقات من حبة السم مثل بيع أهم ما في الشركة من أصول، كبيع براءة اختراع تكون -في الأصل- هي هدف ذلك المستحوذ غير المرغوب به، فبيع ذلك الأصل يجعل الشركة غير جذابة له.
مؤخرًا شهدت حبة السم مع فيروس كورونا عودة في كثير من دول العالم، وذلك مع فتح اقتصادها للاستثمار الأجنبي، وتلاشي تركيز الملكية، والرغبة في العوائد السريعة من باب المضاربة، فمثلًا ما لا يقل عن ١٠٠ شركة في اليابان والتي تتعرض إلى ضغوط وعروض شرائية غير مرغوب بها من صناديق أمريكية تحوطية على أصول يابانية مهمة، لجأت تلك الشركة باستنساخ حبة السم. وما زالت المحاكم اليابانية تعاني من قانونيتها وفي تكييفها، ووضع القيود والشروط، وأحقية الشركة في تفعيل حبة السم، ومتى يحق للمساهمين طلب إلغائها متى ما كانت فقط لحماية مدراء الشركات والتنفيذيين. فما زال إلى يومنا هذا لا يوجد تعريف أو منهج قانوني أو اقتصادي متفَق عليه مقبول لمن يفترض أن تتوجه أدوات وموارد الشركة لمنفعته، هل للملاك أو للمساهمين الكبار أو الصغار، أو لموظفيها أو للمجتمع؟ مما يعقد الأمور على المحاكم في كثير من الأحيان.
اتجه المنهج السعودي -بشكله الحالي- إلى المنهج البريطاني وهو المغاير تمامًا لأخيه الأمريكي وذلك بمنع مجالس إدارات الشركات من اتخاذ استراتيجيات دفاعية دون موافقة المساهمين.
في الحقيقة .. يمكن القول عمليًّا أن حبة السم ليست بالأهمية في الأسواق السعودية والأوربية، باستثناء السوق البريطاني بسبب هيكلية توزيع الأسهم فضلاً عن رفض المؤسسات المالية، مثل شركات التأمين التي ترفض استخدام المجلس لمثل هذه الوسائل دون موافقة المساهمين. ولكن بشكل عام، فعمليا يحتاج المستحوذ وجود أسهم حرة حتى يستحوذ ويسيطر على الشركة. فلا يمكن نظريًّا طرح (٣٠٪) وهو الحد الأدنى للشركة المساهمة للعامة يمنح أي سيطرة على الشركة. لهذا يمكن وصف وجود المؤسس أو العائلة بسيطرة أغلبية تؤدي نفس غرض حبة السم، فضلاً عن تشدد لائحة الاندماج والاستحواذ في مماهاة القانون البريطاني في المساواة بين المساهمين، على خلاف المنهج الأمريكي.
ولكن مع مشروع نظام الشركات الجديد أتوقع -حسب وجهة نظري المتواضعة- أنه سيكون لمثل هذه الاستراتيجيات الدفاعية -خصوصا في الشركات العائلية المتحولة كشركات مساهمة- لحاجتها للسيولة والعمليات التوسعية ولكنها تريد حماية نفسها من فقد السيطرة على الشركة. على الرغم من منح نظام مشروع الشركات القدرة على إصدار أسهم متعددة. وبعيداً عن الجدل القانوني والاقتصادي حول تلك الهيكلية وابتعادها عن المبدأ الأساسي القانوني وهو -صوت لكل سهم- والذي تذهب إليه الكثير من أنظمة حوكمة الشركات حول العالم. فعليه قد يصعب الحكم من الآن على تقبل المساهم السعودي أو الأجنبي لدينا من حرمانه من التصويت على أجندة الشركات فحتى الشركات الأمريكية مثل الفيس بوك لم يتقبلها الأمريكان. فعليه فقد نرى بعض الشركات تستخدم مثل هذه الوسائل مثل حبة في المستقبل القريب خاصة مع فتح السوق للأجنبي وهم غالبًا أكثر رغبة في تحصيل الربح السريع.
كل هذا سَبَّبَ جدالًا كبيرًا بدأه المحامي مارتي، وسَخِر منه الكثير من أساتذة عمالقة الشركات، وتم تكريمه مؤخراً وتسميته (ملك الاستحواذ والاندماج)، على جهوده الجبارة، خاصة في عالم الاندماج والاستحواذ، وعمله الاستشاري في كثير من المنظمات والمؤسسات المالية الأمريكية.
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال