الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
يتبوأ النفط مكانة حيوية في قلب الاقتصاد العالمي، فقد تتسبب الاضطرابات في إمداداته والمستويات السعرية غير العادلة والتذبذبات الكبيرة في أسعاره في حدوث اضطرابات اقتصادية وسياسية. ولذلك عندما تصدر توقعات اسعاره المستقبلية، يبدأ المختصون والمهتمون وحتى عامة الناس بتبادل هذه التوقعات. الطابع الطاغي لهذا العام هو توقع تأثير جائحة كورونا في نمو الاقتصاد العالمي وبالتالي النفط على المدى القصير وتوقع “ذروة الطلب على النفط” نتيجة لتطور بدائل النفط وسن تشريعات التغيير المناخي في المستقبل.
العوامل التي تؤثر على سعر النفط
يتأثر سعر النفط بمجموعة من العوامل المحرّكة والمُتداخلة فيما بينها، فبعضها ذات طبيعة “ضبابية” بدرجات متفاوتة، مما يزيد من تعقيد عملية اكتشاف السعر. يُقصد بمحركات السعر أي عامل يتسبب في تغيير مستوى سعر النفط أو تذبذبه، أو يتسبب في تكّون الدورة الاقتصادية لسعر النفط، أو يتسبب في تغير هيكلي يغير اتجاهه على المدى البعيد. ينجم تأثير العوامل الأساسية من المُحَاوَلَة الدائمة من مرتادي أسواق النفط لتحقيق التوازن بين العرض والطلب. بشكل عام، المحرك الأساسي لأسواق النفط هو الطلب العالمي على النفط وكيفية استجابة المعروض النفطي لتحقيق التوازن في السوق. مع ذلك، قد تكون أسواق النفط مدفوعة بعوامل أخرى.
تُحدث الاختلالات في توازن العرض والطلب بسبب صدمات إما من داخل أو من خارج أسواق النفط. تكون صدمات أسعار النفط إما “ضبابية” بطبيعتها، أو أحداث غير متوقعة، أو سياسة مستحدثة يكون لها تأثير واسع النطاق على أسعار النفط. بعض الصدمات ذات تأثير قصير المدى أو ذات تأثير تدريجي وقد تكون قوية بما يكفي لإحداث تحولات هيكلية، مثل الابتكار التكنولوجي وسياسات التغير المناخي. ومع ذلك، فإن موازنة أسواق النفط خلال فترات النشاط الاقتصادي الاعتيادية يمثل تحديًا بحد ذاته بسبب “ضبابية” مستوى الطلب في المستقبل.
أيضاً، قد يتأثر سعر النفط بالتقلبات في فجوة العرض والطلب نتيجة حالة الاقتصاد الكلي العالمي أو الظروف الجيوسياسية أو التشريعية البيئية أو الأخبار المؤثرة على النفط أو القرارات الإستراتيجية للاعبين الأساسيين والتي تنعكس في طبيعة المضاربات في أسواق النفط. تشمل عوامل الاقتصاد الكلي العالمي على المدى القصير، والدورة الاقتصادية للاقتصاد العالمي على المدى الطويل، والأساسيات طويلة الأجل مثل العولمة والنظام الاقتصادي العالمي، والنمو السكاني، ونمو الطبقة الوسطى العالمية والتوزيع العالمي للثروة، وكثافة استهلاك النفط للفرد، وطبيعة النمو الاقتصادي في الدول المتقدمة، والتنمية الاقتصادية في البلدان النامية تُملي مستقبل النفط. هذا يعني أن سعر النفط، يعتمد بشكل أساسي على حالة الاقتصاد العالمي، وعلى كثير من النشاطات الاقتصادية المتصلة بشكل مباشر وغير مباشر باستهلاك النفط وبالتالي عدد كبير من الأسواق المختلفة. لذلك، فإن هذه الواقع يجعل تكوين توقعات أسعار النفط أكثر تعقيدا، لأنه من الناحية العملية لا يمكن اشتمال النماذج الحسابية كل العوامل والأسواق المختلفة، كما أن جمعهم في متغيرات دالة سوف يقوض صحة التوقعات.
في جانب العرض، نظرًا لأن الطلب على النفط يحرك أسواق النفط، فإن عدم قدرة العرض على تحقيق التوازن في أسواق النفط في جميع الآفاق الزمنية يؤدي إلى حدوث صدمات العرض على المدى القصير، ودورات أسعار النفط على المدى الطويل، وقد يغير اتجاه أسعار النفط على المدى الطويل جدًا. تعتمد استجابة إمدادات النفط على الدورة الاقتصادية لموارد النفط. على الرغم ما يبدو أنه أمر سهل، فإن واقع جانب العرض معقد جدا.
من الخطأ الاعتقاد بأن صناعة النفط هي مجرد مشروع استثماري بمعزل عن الاحداث والتفاعلات الجيوسياسية. حيث ترتبط جملة بعض الاحداث والعوامل الجيوسياسية بسعر النفط والحصص السوقية ارتباطًا وثيقًا. فتشمل السياسة المتعلقة بالنفط جميع العلاقات والسياسات والاستراتيجيات الوطنية والدولية التي لها تأثير مباشر أو غير مباشر على إنتاج النفط واستخدامه وعلى تجارة النفط الدولية. إن أهم تحدي إستراتيجي يواجه صناعة النفط هو التشريعات المستقبلية لتغير المناخ. سياسات تغير المناخ هي الدوافع الرئيسية لاقتصاد منخفض الكربون، وحيادية الكربون، وما يعنيه هذا للطلب المستقبلي على النفط في قطاع النقل والبتروكيماويات. سيكون للسياسات المرتبطة بالتحول المنخفض الكربون تأثير كبير على قطاع النفط، حتى لو استمر الطلب. إن كل الحديث القائم حاليا عن “ذروة الطلب على النفط” مرده الرئيسي يرجع الى تأثر الطلب على النفط في المستقبل بسياسات تغير المناخ.
إن القرارات الإستراتيجية للاعبين الأساسيين في أسواق النفط ذات تأثير يعتقد بأنه كبير ولكن غير ظاهر وبالتالي صعب القياس. تُقدر فعالية القرارات ببعدين: مدى القدرة على التأثير في سعر النفط عن طريق تغيير مستوى الانتاج والانضباط الاستراتيجي بالحصص. تتعامل القرارات الإستراتيجية مع مواءمة الآفاق الزمنية مع التهديدات والفرص المحققة. بسبب خصائص سوق النفط، فأسواق النفط ليست مؤسسات ذاتية التنظيم بشكل تام. بالإضافة إلى ذلك، تؤدي المصالح الذاتية للاعبين الرئيسيين وتعقيدات أسواق النفط و”الضبابية” إلى جعل القرارات الإستراتيجية معقدة بطبيعتها. وبالتالي، فإن صناع السوق، مثل أوبك وروسيا، من جهة مطالبون بمساعدة سوق النفط في عملية اكتشاف السعر، ومن جهة أخرى فلديهم مصالح متضاربة في غالب الأحيان في الحفاظ على مستوى سعري ما.
من جهة أخرى، يؤثر الابتكار التكنولوجي في كل من العرض والطلب في أسواق النفط بشكل تدريجي وغير محسوس وقد يؤدي الى تغيير هيكلي في بنية أسواق النفط. ينتج جزء كبير من ديناميكية وتعقيد أسواق النفط من تداخل الابتكارات التكنولوجية والقوى الاقتصادية مما يعني ارتفاع وتيرة وعمق واتساع التكنولوجيات المتعلقة بالنفط. وهذا يؤدى بدوره إلى صياغة أسواق النفط وتحريك أسعار النفط. من ناحية العرض، تزداد كلفة استخراج واستكشاف موارد النفط مع تراكم الكمية المستخرجة، بينما تلعب التكنولوجيا دورًا رئيسيًا في تحرير الموارد المتبقية وتقليل التكلفة. علاوة على ذلك، يؤدي التقدم التكنولوجي ونضوب المكامن بشكل متزايد إلى الاستبدال بين الاحتياطيات، وهو ما أدى مؤخرا الى زيادة حصة المكامن غير التقليدية في انتاج النفط، كالنفط الصخري. حيث يعزى للنفط الصخري تغير بنية اسواق النفط في العقد المنصرم. من ناحية الطلب، الابتكارات التكنولوجية في إدخال مصادر بديلة للنفط وكذلك زيادة كفاءة استهلاك مشتقات النفط لها أثر في تشكيل منحنى الاسعار. سيكون لتشريعات التغير المناخي درجة تأثير بحسب وصول بدائل النفط كالسيارة الكهربائية الى التكلفة التعادلية وكذلك قدرة كفاءة استهلاك مشتقات النفط على تقليل انبعاثات غاز ثاني اكسيد الكربون.
تختلف طبيعة القوى المؤثرة على أسواق النفط وفاعليتها باختلاف المدى الزمني موضع الدراسة. فبينما تتأثر أسواق النفط بتفاعل القوى المؤثرة على المُدد المختلفة، يبقى المدى البعيد هو الاكثر تأثيرا على مسار أسواق النفط، لأن تحديد أسعار النفط الآني يعتمد بشكل كبير على توقع الطلب في المستقبل. لذلك، يعتمد المضاربون في أسواق النفط في اكتشاف السعر على تقديراتهم للعرض والطلب في المستقبل. حيث يساعدون في عملية اكتشاف الأسعار من خلال دمج المعلومات حول التحولات المستقبلية في العرض والطلب في أسواق العقود الآجلة. وبالتالي فإن الحجة المؤيدة لأسواق العقود الآجلة والمضاربة هي أنه عند توقع تحركات الأسعار في المستقبل، يمكنها في الواقع منع مثل هذه التقلبات الهائلة الناجمة عن عدم قدرة العرض على مُوَاءَمَة تحرك الأسعار. فالنظرية هي أن المضاربة يمكن أن تقلل من تقلب الأسعار لا تزيده. ومع ذلك، من الواضح أن حالة تقلب الأسعار قد تزداد بسبب المضاربة. تتمثل الوظيفة الأساسية لأسواق العقود الآجلة في المساعدة على نمذجة مخاطر الاستثمار. حيث يقوم المنتجون والمستهلكون بنقل المخاطر إلى المضاربين لصالح السعر الفوري المكتشف بين اليوم والتاريخ المستقبلي المحدد. تزداد اهمية المضاربين إذا كان لدينا تقلب أساسي كبير، وعدم يقين كبير بشأن الطلب المستقبلي على النفط، وانحراف سعر النفط عن الأساسيات أو كان اتجاه السعر غير معرف. بالإضافة إلى تحمل المخاطر، يزيد المضاربون السيولة في الأسواق.
على المدى القصير، يعتمد توازن السوق إلى حد كبير على اخبار الاقتصاد الكلي العالمي وكذلك على الاخبار الجيوسياسية. الصدمات الإخبارية هي صدمات متوقعة تؤثر على أسواق النفط في الفترة الحالية رغم أنها قد تستغرق بعض الوقت حتى تتحقق. يشير الارتباط بين الأخبار وصدمات عدم اليقين في أسعار النفط إلى أنه عندما تنشأ صدمات عدم اليقين سوق النفط، فإن التوقعات تتكيف على المدى المتوسط. وهذا يؤدي إلى تخفيف الأثر السلبي لزيادة عدم اليقين على أسعار النفط المستقبلية. بشكل عام، فإن صدمات عدم اليقين الإخباري قصيرة العمر.
على المدى البعيد، من الممكن اجمال القوى الرئيسية المؤثرة على مستقبل الطلب على النفط على المدى البعيد في تطور الاقتصاد العالمي وتفاعله مع القوانين البيئية العالمية ومدى القدرة الآنية للاعبين الرئيسيين في التأثير على أوضاع أسواق النفط والابتكار التكنولوجي. إن محصلة التأثير المحتمل يعتمد على تفاعل هذه القوى فيما بينها من جهة، وعلى قدرة الفاعلين على التأثير من خلال القرارات الاستراتيجية في تطوير نماذج الاعمال والاستثمار في الابتكار التكنولوجي.
حساب التوقعات عن طريق النمذجة
يعتبر التعقيد الشديد والضبابية المتعددة النواحي سمتان رئيسيتان في أسواق النفط. يتم تصميم النماذج لفهم عملية اكتشاف سعر النفط والتنبؤ بها. مع ذلك، فالنمذجة الكمية جذابة لقطاع النفط والمستثمرين لأنها تسمح باحتساب الاستثمارات الكمي. هنالك طريقتان رئيسيتان لنمذجة أسواق النفط: النمذجة الهيكلية والقياس الاحصائي، وقد يقوم بعض المطورين بالجمع بينهما. بشكل عام، يصعب نمذجة التعقيد الشديد والضبابية المتعددة في أسواق النفط وكذلك قياس المدخلات والشروط الأولية والمعطيات الرئيسية والتحقق في الفرضيات وتأثره بمدى دقة التمثيل العددي، وبالتالي ادماجهم جمعيا في نموذج حسابي جامع، لذلك، فالنتيجة المباشرة هي ان التوقعات ستكون غير دقيقة وغير واقعية. من حيث المبدأ، فإنه من الصعب تقدير الخطأ المترتب من عدم ادراج بعض المعلومات الهيكلية في اي نموذج. سيكون من المفيد للغاية مع ذلك أن يكون المطور قادرًا على تحديد أخطاء النماذج. من جهة اخرى، هنالك أخطاء تحدث نتيجة بناء النماذج “والعلاقات الضبابية” عند عقد العلاقات بين المتغيرات. إن استيعاب كل هذه العوامل في نموذج واحد مع أخطائها المصاحبة امر بالغ الصعوبة. لذلك، فالنماذج دائما غير مكتملة لأن المطورين يدرجون فقط العناصر التي يعتقدون أنها ضرورية والتي يستطيعون قياسها او ادراكها. من جهة اخرى، فكلما طال المدى الزمني للتوقع، قلت الدقة.
من جهة أخرى، المستقبل غالبًا لا يشبه الماضي، فهذا يعني أنه لا يمكن اسقاط الأنماط والعلاقات من الماضي في المستقبل والوصول لتنبؤات صحيحة. أيضا، يفترض بعض المطورين بأن المستقبل لن يكون مختلفا عن الحاضر فلن يكون هنالك تغيرات هيكلية في بنية اسواق النفط، ويجادلون بأن تحول الطاقة والابتكار التكنولوجي بطيئان ولن يتحققا في المدى المنظور. مثلا، قد تحدث التغييرات الهيكلية في سوق النفط في جانب الطلب من خلال التغير في مستوى نمو الناتج الإجمالي، كما حدث للصين في عام 2014. أيضا، يصعب التنبؤ بالأحداث السلبية في الساحة الجيوسياسية، والتي قد يكون لها تأثير كبير. من جانب آخر، يؤثر على مصداقية التوقعات تأثرها بالتوقعات الاخرى والتحيزات والاجندات. فمثلا، لا تتجنب النماذج الدوافع السياسية حيث تفترض خطأ بان التكلفة النسبية لأنواع الوقود المختلفة هو السبب الاساسي لتكوين الحصص السوقية في المستقبل، إما بتوقعات غير احترافية او نتيجة تحيزات، وهو المفتاح للتنبؤ بحصة مشتقات النفط في اسواق الطاقة. هناك سبب آخر محتمل للفجوة بين التوقعات والواقع وهو أن المحللين يميلون إلى العمل في مجموعات، لأنهم حساسون من التعرض للانتقاد، مما يجعل التوقعات أكثر تحفظا أو أكثر راديكالية.
يتطلب تطوير أي نموذج هيكلي عددًا من الاختيارات من كل من المطور الذي يبني النموذج الحسابي وصانع القرار الذي سيستخدم نتائج النموذج. لذلك فطبيعة المطورين وصناع القرار، والاعتبارات الرياضية والحسابية، وقيود الميزانية المتاحة، وكذلك جوانب التطبيق المطروح، كلها تؤثر على مدى جودة تمثيل النموذج الحسابي للواقع. فكلما كانت الخيارات غير حصيفة ومتحيزه فإنها ستدفع النموذج الحسابي بعيدًا عن الواقع. من جهة اخرى، فاستخدام القياس الإحصائي لمعالجة عدم اليقين المتأصل في الأنظمة المعقدة أمر بالغ الصعوبة، ايضا. حيث يتطلب قياس بعض مصادر عدم اليقين إحصاءات معقدة للغاية وقد لا يبدو القياس منها ممكنا. فمثلا، مازال بعض المستثمرين يتعاطون التنبؤات التقليدية المشتقة بطبيعتها على اساس مجافي للتغيرات المحتملة في المستقبل. فيقسم المحللون الاستهلاك العالمي إلى مناطق، وكل منطقة الى قطاعات طلب على السيارات وبالتالي الوقود. فيتوقعون إجمالي الطلب على النفط، على أساس استقراء أعداد السيارات ومبيعاتها المستقبلية، وكذلك نمو قطاع البتروكيماويات. تعطي هذه التوقعات شعورًا زائفًا بالدقة من خلال الاعتماد على الاستقراء.
لكلتا المنهجيتين مزايا وعيوب خاصة بالسياق، ويجب اعتبارهما مكملين وليس ببدائل. تتطلب النماذج الهيكلية نموذجًا نظريًا وافتراضات صريحة حول الأخطاء المحتملة الهيكلية. بينما الهدف من استخدام القياس الإحصائي هو قياس العوامل الحسابية الرئيسية ذات الأهمية داخل عينة المعلومات مع أقل عدد ممكن من الافتراضات الهيكلية، فالحد من الاعتماد على هذه الافتراضات قد يساعد في تحديد السببية بين المتغيرات، ولكنه، في الجهة المقابلة، يضعف الرباط المنطقي بينها.
النتيجة: كل التوقعات خاطئة
لأن كل النماذج خاطئة، فالتوقعات، وأن لامست جانبا من الواقع، فهي خاطئة، بالضرورة. من جهة اخرى، فتوقعات مستقبل النفط الخاطئة قد تؤثر سلبا أو إيجابا في مستقبله. لأنه يبنى على اساسها جملة الاستثمارات التي ستؤثر في المستقبل، مما يعمق أخطاء التوقعات بشكل أكبر. مع ذلك، فقد تقدم مجال التنبؤ بشكل كبير في السنوات الأخيرة. يقوم المتنبئون المحترفون بتطوير أدوات أكثر تعقيدًا ودقة للتطلع إلى المستقبل في أسواق النفط، وخصوصا بالذكاء الاصطناعي، والذي يتوقع أن يحسن، على الاقل، القدرة على بناء سيناريوهات محتملة للمستقبل.
إذا، لماذا نتوقع؟
الاعتماد تماما على توقعات راهنة للاستثمار في مشاريع النفط طويلة الأجل التي تستغرق مدة 10 أو 20 عامًا، بدون تجديد التوقعات بشكل دوري للتثبت وبدون التحوط، يعد خطأً، لأنها عامة ما تكون خاطئة. من المهم أن نفهم سبب خطأ هذه التوقعات، والآثار المترتبة عليها لبناء القرارات الاستراتيجية الصحيحة. توقع التوقعات الخاطئة لأسعار النفط العديد من الشركات في شرك مشاريع كبيرة ومكلفة طويلة الامد، بحيث يتعذر إيقافها، حين تتقوض ربحيتها بسبب الأسعار. كما تبني على اساسها الخطط والمشاريع التنموية الحكومية للدول التي تعتمد على تصدير النفط على افتراضات خاطئة. فحينها يصبح التدفق النقدي أولوية على النمو وهذا يجافي ما تعد به الشركات مساهميها.
نظرًا لأن لتوقعات أسعار النفط ومستوى الطلب عرضة للأخطاء الكبرى، فلماذا إذن نستمر في الاعتماد عليهم كثيرًا في اتخاذ القرارات الحاسمة؟ التنبؤ فن غير دقيق، خاصة بالنسبة للنفط ولكنه أمر بالغ الأهمية، حيث يدعم قرارات الشركات بشأن التوسع في الانتاج والتنقيب ومقدار التحوط. في حين أن التوقعات خاطئة حتمًا، إلا أن هذا لا يعني أنه لا تستطيع الشركات بناء الخطط المستقبلية على أساسها. الفرضية المعقولة هي أنه لكي نتمكن من البدء في التخطيط للمستقبل، لا بد أن يكون التخطيط مبني على أساس. فلا يجب التخطيط حول الأهداف بل على الواقعية. كذلك، أظهرت الأدلة التجريبية أن تنبؤ العقل البشري المجرد أسوأ بكثير من النماذج الحسابية أو الإحصائية.
الاعتراف بأن توقعات النفط المستقبلية غير مؤكدة بالضرورة هو بداية فهمها. تهدف التوقعات الى استيعاب العوامل الكامنة في الوقت الحاضر في التغييرات المحتملة في اتجاه الشركات أو المجتمعات أو العالم بأسره في المستقبل. وبالتالي، فالهدف الأساسي للتوقعات هو تحديد النطاق الكامل للاحتمالات، وليس الاقتصار على مجموعة محدودة من السيناريوهات، ضمن عملية صنع قرار دائمة التجدد والتثبت. لذلك، يعتمد صانعو القرار على استيعاب كل السيناريوهات الممكنة، بدلا من بالاعتماد على سيناريو واحد. فالسيناريوهات المفردة خاطئة بالضرورة، لكن عندما تجمع بطريقة علمية قد يتحسن مدى صحتها. فهي تهدف إلى توضيح الجوانب المحتملة في المستقبل. فنحن نعيش في زمن التحول الدراماتيكي السريع. لذلك، يجب على التوقعات البحث عن التغيرات البنيوية، وليس الاتجاهات المباشرة، وبالتالي يجب أن ينظر بعيدًا بما يكفي في المستقبل لتحديد الأنماط المحتملة.
توقعات المدى البعيد هذا الموسم
الطابع الطاغي لهذا العام هو توقع تعافي الاقتصاد العالمي من تأثير جائحة كورونا وبالتالي تعافي الطلب على النفط على المدى القصير وكذلك توقع “ذروة الطلب على النفط” نتيجة لتطور بدائل النفط وسن تشريعات التغيير المناخي على المدى البعيد. أدى تأثير جائحة كرونا، وما نتج عنه من إجراءات احتوائها في جميع أنحاء العالم، إلى صدمة طلب غير مسبوقة في أسواق الطاقة هذا العام. تربط بعض التوقعات بين الموضوعين، حيث أن تأخر التعافي من جائحة كرونا قد يؤدي الى تسريع “ذروة الطلب على النفط”. السبب هو في مدى إعاقة الجائحة للتنقل والتجارة في الأشهر والسنوات المقبلة، حيث يتم استخدام أكثر من 60٪ من النفط في النقل. حيث عطلت سلاسل التوريد وبالتالي قل الطلب على استخدام الشاحنات والسفن والطائرات التي تستخدم مشتقات النفط المختلفة. حيث تتوقع منظمة التجارة العالمية تراجع التجارة بنسبة 13٪ على الأقل في عام 2020. أما النقل الجوي بغرض نقل الافراد فهو مشلول بشكل كبير حتى يتراجع تأثير الجائحة بشكل كبير.
توقعات منظمة الطاقة العالمية
تُعتبر منظمة الطاقة العالمية من الرواد المتوقعين في عالم الطاقة فقد بدأت بنشر توقعاتها منذ عام 1977. مؤخرا، أصبحت تعتمد توقعاتها على تقديم سيناريوهات ذات فرضيات ومعطيات متباينة. الجملة القوية لمدير الوكالة فاتح بيرول في هذه السنة كانت ” سوف ينتهي عصر نمو الطلب العالمي على النفط في العقد القادم”. في هذه السنة، بنت المنظمة تنبؤاتها على أربعة سيناريوهات: تعافي سريع من الجائحة بنهاية 2021، تعافي بطيء من الجائحة بحلول عام 2023، غزو كبير للتكنولوجيات الخضراء والاستحواذ على حصص الوقود الاحفوري، وأخيرا سيناريو تحقيق الحياد الكربوني بعام 2050. في سيناريو التعافي السريع، يتوقع ألا يصل الطلب الى ذروته قبل 2040، بينما لن يزيد الطلب عن معدل 105 مليون برميل يوميا. في التعافي البطيء، يتوقع ان يصلب الطلب لذروته عام 2032 عند 100 مليون يوميا، ولكن سيظل الطلب ثابتا عند هذا المعدل حتى بعد 2040. فإذا استمر تفشي جائحة كورونا لفترات طويلة، سيؤدي الى تعطيل التعافي الاقتصادي، مما سيؤدي إلى اقتصاد عالمي منكمش بنسبة 10٪ في عام 2030 من التوقعات السابقة، وعندها ستكون توقعات الطلب على النفط سلبية. على الرغم من توقعات الاستهلاك السلبية، تواجه صناعة النفط العالمية تحديًا في مواصلة الاستثمار في ابقاء السعة الانتاجية موازنة للطلب. حتى بعد عام 2030، ستكون هناك حاجة إلى حوالي 390 مليار دولار من الاستثمارات كل عام للعثور على إمدادات جديدة تعوض انخفاض الإنتاج في حقول النفط المتقادمة.
السيناريوان الباقيان يعتمدان على تطبيق تشريعات التغير المناخي من قبل الحكومات المحلية، وأن الطلب على النفط قد بلغ ذروته. في سيناريو غزو التكنولوجيات الخضراء، يتوقع أن تنمو حصة السيارات الكهربائية لتصل الى أكثر من 40% وان الطلب على النفط سينخفض ليصل الى 96 مليون برميل يوميا عام 2030. في سيناريو الحياد الكربوني، فيجب ان تصل حصة السيارات الكهربائية بأكثر من 50% وان الطلب على النفط سينخفض ليصل الى 89 مليون برميل يوميا عام 2030. بالإضافة الى فقد حصة كبيرة لصالح السيارات الكهربائية، سيأتي جزء كبير من انخفاض الطلب من زيادة كفاءة محركات الاحتراق الداخلي.
توقعات أوبك
على النقيض من توقعات منظمة الطاقة العالمية، لا ترى أوبك في السيناريو الوحيد الذي بنت تنبؤاته عليه أن الطلب على النفط سيبلغ ذروته حتى بعد 2040 وان مستواه سيبلغ معدل 109 مليون برميل يوميا، أي بزيادة 10 ملايين برميل يوميا، مع العلم بأنه تم إضافة تأثير جائحة كورونا. وفي سياق متصل، ترى أوبك أن النفط سيظل أكبر مساهم في مزيج الطاقة حتى عام 2045، حيث سيمثل أكثر من 27٪. ترى أوبك بان نمو الطلب سيكون من قطاعات البتروكيماويات، والنقل الجوي، والنقل البري بمعدلات 3.7 و2.8 و2.6 مليون برميل يوميا بالتوالي. سيبلغ عدد السيارات الى 2.6 بليون سيارة في عام 2045 وسيكون نصيب السيارات الكهربائية 430 مليون سيارة، أي نسبة 16%. أما بالنسبة للتغير المناخي، ترى أوبك إنه في حين أن العديد من البلدان قد انضمت من الناحية النظرية إلى جهد جماعي عالمي لمكافحة تغير المناخ، فإن غالبية السياسات المتعلقة بالطلب والعرض على الطاقة سيستمر، مما يؤدي إلى استمرار التفاوت في نطاق طموحات كبح جماح التغير المناخي بين البلدان.
توقعات شركات النفط
حتى تاريخ كتابة هذه المقالة، لم تصدر توقعات من شركات النفط الأمريكية. بشكل عام، تتوقع الشركات الأمريكية أن يستمر الوقود الأحفوري مهيمننا على مزيج الطاقة في المستقبل لعقود. لذلك، تجادل الشركات بأن الاستثمارات عالية الكربون وعالية التكلفة ستكون آمنة. تتنبأ أيضًا بصعوبة تطبيق تشريعات تغير المناخ وصعوبة استحواذ بدائل النفط على حصته في قطاع المواصلات. وُضعت مصداقية توقعات شركة النفط على المحك، فقد ضعفت بسبب سلسلة من الفرضيات الخاطئة في الماضي، والتي أدت الى قرارات استثمارية خاطئة.
على النقيض بدأت الشركات الأوروبية في بناء نماذج تتضمن تأثير تشريعات التغير المناخي. فمثلا، شركة النفط البريطانية تتوقع ان ينخفض استهلاك الوقود الهيدروكربوني في قطاع المواصلات في عام 2050 بنسب 53%، 78%، 21% في سيناريوهات الانتقال السريع، الحياد الكربوني، بقال الحال بالترتيب في عام 2050 بالمقارنة مع عام 2018. اما امتلاك السيارة فسينخفض بنسبة 10% في كلا من سيناريو الانتقال السريع والحياد الكربوني، وسيزيد بنسبة 10% في سيناريو بقاء الحال بالترتيب في عام 2050 بالمقارنة مع عام 2018. اما في استخدامات النفط الأخرى فسيزيد استهلاك النفط بنسبة 37% في سيناريو بقاء الحال، وبنسبة 15% في سيناريو الانتقال السريع، بينما سنخفض بنسبة 26% في سيناريو الحياد الكربوني بالترتيب في عام 2050 بالمقارنة مع عام 2018. اما مركزه في مزيج الطاقة العالمي فسينخفض في جميع السيناريوهات في عام 2050، ففي سيناريو بقاء الحال سيكون بعد الغاز الطبيعي بنسبة 25%. اما في سيناريو الانتقال السريع فسيحتل المركز الثالث بنسبة 15% خلف الغاز الطبيعي ومصادر الطاقة المتجددة، وسيتقهقر الى المركز الخامس بنسبة 5% في سناريو الحياد الكربوني. مؤخرا، انظمت كل من شركتي توتال وشل إلى شركة بريتيش بتروليوم في توقع ذروة الطلب على النفط حوالي عام 2030.
أصبح التوقع الصائب لمخرجات الابتكار التكنولوجي العامل الحاسم
بسبب تسارع التقدم التكنولوجي، أصبح أكبر خطأ في التوقعات يصدر من توقع مخرجات الابتكار التكنولوجي وتأثيراها على نمو الطلب على النفط. التنبؤات دائما ما تكون مدفوعة بشكل كبير بما حدث سابقًا، ومن خلال ما يمكن أن تحققه التكنولوجيا الحالية، وهو ما يكون غير دقيق، على الغالب. إن تقييم وقياس أداء مخرجات الابتكار التكنولوجي ليس بالعمل السهل أو الممنهج. للوهلة الأولى، يبدو أن نهج تقييم إدارة الابتكار التكنولوجي ينقسم إلى قسمين منفصلين: دراسة فاعلية التكنولوجيا في المستقبل من منظور اقتصادي وتقييم جهد إدارة عملية الابتكار. في الواقع، فهما يرتبطان عضويا، ففعالية التكنولوجيا تعتمد بشكل كبير على الإدارة الكفؤة لعملية الابتكار. من جهة أخرى، فأن إنفاد تشريعات التغير المناخي تعتمد بشكل جلي على تقييم إدارة الابتكار التكنولوجي.
يرجع سبب الاختلاف في التوقعات الى فعالية التشريعات البيئية في حفز استخدام السيارة الكهربائية كبديل، وكذلك تطور كفاءة محركات الاحتراق الداخلي، وامكانية أن يكون لكل من الاقتصاد الدائري للكربون واقتصاد الهيدروجين تأثير على مزيج الطاقة العالمي. بشكل عام، لا يمكن التوقع من المكاتب، بل من المختبرات العلمية. حيث أصبح تقييم إدارة الابتكار التكنولوجي هو العامل الحاسم لإصدار توقعات أكثر دقة.
ما هي النتائج المستخلصة من التوقعات الحالية
لا يمكن الحصول على توقعات بلا نطاق للخطأ، لكن جوهر القضية يكمن في قدرة التوقعات على تحديد محصلة القوى المؤثرة على مستقبل النفط واتجاهها. إن فشلت التوقعات في تقدير الاتجاه وقوته بدرجة دقة معقولة، فسينعكس ذلك على عملية الاستثمار في النفط وبدائله وسن تشريعات التغير المناخي، وستؤدي بالتالي الى تبعات سلبية على الاقتصاد العالمي. كما أن التوقعات ذات نطاق الخطأ الكبير تعّطل رجاحة القرارات الإستراتيجية للاعبين الأساسيين في اسواق النفط. لكن لكي تكون التوقعات دقيقة، لا بد أن تكون شاملة لأكبر مجموعة ممكنة من العوامل المؤثرة وممثلة لحجمها في التأثير ونمذجة حقيقية لتفاعلها فيما بينها. من جهة اخرى، فإن تناول التوقعات من غير المختصين يؤدي الى شيوع السلبية. كما أن الخوض في الجدل حول واقعية التوقعات أدى للدخول في فخ النقاش السلبي والانشغال عن جوهر الموضوع وهو “هل مستقبل النفط مهدد؟”.
على الرغم من عدم واقعية التوقعات، إلا أنها تجمع على أن مستقبل نمو الطلب على النفط أصبح على المحك. في جانب العرض، فقد أدى سيل التوقعات الحالي والاتجاه العام له ببداية التفكير في ذروة الطلب على النفط، بدأت المفاضلة بين الاستثمارات النفطية في الدورة القصيرة كالاستثمار في النفط الصخري وطويلة الدورة كالاستثمار في استخراج النفط من المكامن البحرية العميقة في أن حديث المستثمرين في صناعة. فلهدف التحوط في مستقبل النفط، أصبح الاستثمار في النفط الصخري أكثر جاذبية. وفي نفس السياق، بدأت شركات الطاقة تعيد النظر في استثماراتها. فمثلا، قطعت شل توزيعاتها الربحية للسهم للمرة الأولى منذ الحرب العالمية الثانية. حاليا، تقوم شركات النفط الأوروبية بتوجيه الاستثمار إلى الطاقة الخضراء مثل الطاقة الشمسية وطاقة الرياح وتكنولوجيا البطاريات وشبكات شحن السيارات. وهذا يبين أهمية بناء نموذج جديد لاستهلاك النفط عن طريق الاستثمار في الابتكار التكنولوجي للاقتصاد الدائري للكربون واقتصاد الهيدروجين.
سبب التفاوت في التوقعات، وبالتالي الخطأ، مرده الجوهري الى عشوائية تقييم ادارة الابتكار التكنولوجي. لذلك، اقترح اقامة مختبرات علمية في المملكة قادرة على تقييم وإدارة الابتكار التكنولوجي.
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال