الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
يتخوف الكثير من العاملين في القطاع النفطي الأمريكي من فوز المرشح الديمقراطي جو بايدن في الانتخابات الرئاسية في نوفمبر المقبل وتبعات تولي إدارته لسدة الحكم على أداء ومستقبل الصناعة النفطية. تنبع هذه المخاوف من الالتزامات التي أطلقها جو بايدن خلال حملته الانتخابية والتي روج فيها لسياسات يرى العديد منهم أنها ستحد من نمو الصناعة النفطية الأمريكية ويؤثر على ربحية الشركات خصوصًا وأن العديد منها بدأ في التعافي تدريجيًا من آثار الجائحة وإن كان الخطر ما زال محدقًا في ظل موجة كورونا ثانية تمر بها أوروبا حاليًا. تشمل هذه الالتزامات تقنين عمليات التكسير الهيدروليكي ووقف تصاريح التنقيب والإنتاج في خليج المكسيك والانضمام إلى اتفاقية باريس للمناخ وما تنص عليه من التزامات فيما يخص خفض انبعاثات الكربون.
على الطرف الآخر، تعهد المرشح الجمهوري للرئاسة الرئيس الحالي دونالد ترامب بمواصلة دعم الشركات النفطية الأمريكية كي تتخطى أزمة جائحة الكورونا وقامت إدارته بالتوسع في منح تصاريح التنقيب في الأراضي الفيدرالية عدا عن تسهيلات بيئية تخفض الرقابة على حرق الغاز وانبعاثات غاز الميثان من المنشآت النفطية. تأتي هذه التسهيلات عقب زيارة قام بها كبار تنفيذيي كبرى الشركات النفطية الأمريكية للبيت الأبيض في شهر إبريل الماضي عقب حرب الأسعار وتفشي مرض الكورونا حينها تعهد الرئيس الأمريكي باتخاذ ما يلزم للحيلولة دون تداعي القطاع النفطي خصوصًا صناعة النفط الصخري.
هل من السهولة أن تتخلى أمريكا عن صناعتها النفطية للانضمام إلى حراك المناخ والطاقة الخضراء؟ وما الأثر الذي ستحدثه سياسات الإدارة الأمريكية بقيادة جو بايدن والحزب الديمقراطي على الصناعة النفطية ؟ في هذا المقال سأجيب عن هذه التساؤلين علمًا بأنه من السابق لأوانه التكهن بمن سيفوز بنتائج الانتخابات الرئيسية حيث يحظى كلا المرشحين بفرص عالية ومتقاربة للفوز بالرئاسة.
تتسم العلاقة بين الحزب الجمهوري والصناعة النفطية بالتناغم حيث أن أغلب الولايات المنتجة للنفط والغاز هي ولايات ذات أغلبية مؤيدة للحزب الجمهوري كولايتي تكساس وأوكلاهوما كما أن العديد ممن تولوا مناصب سياسية رفيعة في الدولة كعائلة بوش (التي خرج منها رئيسان للولايات المتحدة) وديك تشيني (نائب الرئيس السابق جورج بوش) هم من أقطاب الصناعة النفطية. على الرغم من أن الرئيس الأمريكي الحالي دونالد ترامب لم يعرف باستثماراته في القطاع النفطي إلا أنه حرص بشكل كبير على الدفع بعجلة الاقتصاد والنهضة بالصناعة النفطية منذ توليه الرئاسة وقيامه باستمالة الناخب الجمهوري وممثيله عبر العديد من الحوافز التي تطرقت إلى عدد منها في سلسلة مقالات بعنوان: “النفط الأمريكي بلا قيود” والتي نشرت في شهر يونيو سنة 2017.
هل يتخلى الديمقراطيون عن دعم صناعة النفط والغاز الأمريكية؟
يخطئ القارئ حينما يعتقد أن أمريكا ستتخلى عن دعم صناعة النفط والغاز بسبب غلبة الحزب الديمقراطي في الانتاخابات أو غيرهم. فعلى الرغم من المنافسة بين الحزبين الجمهوري والديمقراطي إلا أن حكومة منتخبة ذات أغلبية ديمقراطية ليست بمنتهى السذاجة كي تقوم بإلحاق الضرر في قطاع حيوي يساهم بـ 8% من الناتج الإجمالي المحلي عدا عن توظيف 10.3 مليون أمريكي ومقيم مما سيؤدي إلى نتائج كارثية على الاقتصاد الأمريكي ساهم تطوير البترول الصخري دورًا كبيرًا في تحقيق هذا الرخاء.
بدأ تطوير النفط الصخري في عهد الرئيس الأمريكي السابق جورج بوش الإبن لكن تصاعدت وتيرة إنتاج النفط الصخري والتي يصفها الإعلام بالثورة في عهد الرئيس السابق باراك أوباما وهو المحسوب على التيار الديمقراطي حيث منحت إدارته تسهيلات عديدة للشركات النفطية الأمريكية لعل أبرزها القرار الذي أقره مجلس الشيوخ ذو الأغلبية الديمقراطية آنذاك برفع الحظر عن تصدير النفط الأمريكي بعد عقود من المنع مما حفز الكثير الشركات النفطية على التوسع في تطوير الحقول الصخرية وتصدير الفائض من النفط الصخري وإغراق الأسواق العالمية به. وعلى الرغم من انضمام أمريكا في عهد أوباما لاتفاقية باريس للمناخ والالتزامات التي تعهدت بها أمريكا في الاستثمار في خفض انبعاثات الكربون إلا أن هذا لم يقف عائقًا أمام توسع الشركات خصوصًا وأن التوسع واكب ارتفاعًا غير مسبوق لأسعار النفط.
في الوقت ذاته، تحفظت إدارة الرئيس الأمريكي باراك أوباما على العديد من المشاريع كالتوسع في التنقيب والانتاج في الأراضي الفيدرالية “المملوكة للحكومة” وفرضت بعض القيود على التوسع في خطوط الأنابيب كخط كيستون لكن سرعان ما تغير مجرى الأمور في عهد الرئيس الحالي دونالد ترامب والذي قام برفع معظم القيود التي حدت من نمو الصناعة النفطية.
يطلق الناخبون الأمريكيون الكثير من الوعود خلال حملاتهم الانتخابية لجذب الناخب الأمريكي لكن لا يتم تحقيق معظمها لأنها تصطدم بالواقع السياسي إذ ليس من السهولة سن قوانين في الكونغرس وإقرارها إذ عادة ما تخضع مثل هذه القوانين للكثير من جلسات النقاش والمساجلات كما هو الحال مع قانون نوبك الذي يمنح الحكومة الأمريكية صلاحيات بمقاضاة الدول الأعضاء في أوبك تحت ذريعة الاحتكار والذي ما زال يخضع للكثير من التداولات على الرغم من دعم الرئيس الحالي دونالد ترامب لهذا القانون مع بداية توليه للحكم.
في بداية حملته، تعهد المرشح الديمقراطي بوقف عمليات التكسير الهيدروليكي وهي تقنية تعتمد على ضخ الماء والأسيد بقوة عالية وتفتيت الصخر واستخراج النفط من المسامات وبفضل هذه التقنية يتم استخراج النفط الصخري بكمية تجارية. سرعان ما تراجع جو بايدن عن هذا القرار خوفًا من خسارة القطاع النفطي خصوصًا العاملين في بنسلفانيا وهي ولاية ذات أغلبية ديمقراطية تنشط فيها الصناعة النفطية بشكل كبير وفيها تم حفر أول بئر نفطية في تاريخ أمريكا. الأهم من ذلك أن جو بايدن يعلم أن مثل هذه القرارات تتعارض مع قوانين الكثير من الولايات والمقاطعات وليس للرئيس سلطة عليها. يبقى تأثير مثل هذه القرارات على الأراضي الفيدرالية “المملوكة للدولة” ومعظم حقول النفط الصخري المنتجة حاليًا هي خارج نطاق الأراضي الفيدرالية.
ركز بايدن في حملته الانتخابية على وقف منح تراخيص “إضافية” للتنقيب عن النفط والغاز في خليج المكسيك والمحميات في ألاسكا. ما يجهله البعض أن الكثير من التراخيص في خليج المكسيك على سبيل المثال تم منحها للعديد من الشركات النفطية ولديها ما يكفي للتنقيب والحفر في المستقبل حتى بعد وقف منح التراخيص لكن الكثير منها في الوقت الراهن يفضل الاستثمار في النفط الصخري بسبب المردود السريع بالمقارنة مع مشاريع التنقيب البحرية التي تستنزف رأس مال كبير. بمعنى آخر، لا يؤثر هذا القرار على انتاج النفط على المدى القصير إلى المتوسط إذ بإمكان المطورين حفر الآبار لاحقًا متى ما آنت الفرصة.
تلقى قضايا المناخ اهتمامًا متزايدًا لدى الكثيرمن الأمريكيين لكنها ليست بذات الزخم وربما الهوس الذي نراه في أوروبا ويرغب بايدن في استقطاب هذه الشريحة عبر التعهد بالعودة إلى اتفاق باريس للمناخ لكنه في الوقت ذاته حذر من تقديم تنازلات تؤدي إلى عواقب خصوصًا في وقت يتعافي فيه الاقتصاد الأمريكي من آثار الجائحة. جو بايدن ديمقراطي تقليدي ومعروف بخبرته وحنكته السياسية في الادارات السابقة وفي حملته يداهن الجميع للحصول لزيادة حظوظه بالفوز بالأصوات.
تعزز صيغة اتفاقية باريس الحالية التبعية لأوروبا التي تهيمن على أجندة قضايا المناخ وأمريكا كقوة عالمية تحبذ في أي محفل أن تقود لا تقاد. في الوقت ذاته، تشعر أمريكا بالحرج إذ يلقى حراك المناخ دعمًا متصاعدًا من الشارع العام خصوصًا في عدد من الولايات كولاية كاليفورنيا بالإضافة إلى دعم العديد من الأكاديميين وصناع القرار في الحكومة الأمريكية. بانضمام أمريكا إلى اتفاقية المناخ بأي صيغة كانت ستعود الحياة إلى الاتفاقية والكثير من الآمال منصبة على عودة أمريكا لهذه الاتفاقية لثقلها السياسي والاقتصادي في تفعيل الكثير من البنود.
ستعود أمريكا إلى الاتفاق في عهد بايدن في حال توج رئيسًا لأمريكا لكن إداراته ستفاوض على عدد من البنود بما يضمن تعظيم مصالحها الاقتصادية. سيلقى جو بايدن معارضة من قبل مجلس الشيوخ لإقرار مبلغ تريليوني دولار أمريكي من الميزانية العامة لدعم الطاقة المتجددة وتقنيات الحد من انبعاثات الكربون لكن ستنجح في نهاية المطاف في حال ركزت على قطاع الطاقة دون المساس بالصناعة النفطية التي تلقى حساسية مفرطة لدى الكثير من الجمهوريين.
ما يجهله البعض هو تركيز جو بايدن في حملته الانتخابية على تنويع مزيج الطاقة ورفع كفاءة قطاع الكهرباء والمواصلات والحد من الانبعاثات فيهما. في حال نجاحه في الانتخابات، ستنصب معظم الاستثمارات على قطاع توليد الكهرباء من مصادر أخرى غير الفحم كالطاقة المتجددة والنووية بل والغاز الطبيعي والمتضرر الأكبر من هذه العملية هم منتجي الفحم. مما لا شك فيه أن الغاز سيلعب دورًا متزايدًا في مزيج الطاقة بسبب انخفاض الأسعار الحالية ووفرة انتاج الغاز الطبيعي في أمريكا خصوصًا من الحقول الصخرية وسيستفيد منتجو الغاز بشكل كبير من هذا التحول.
ما سيقوم به بايدن فيما يخص الصناعة النفطية على الأرجح هو إعادة إرساء القوانين التي كانت في عهد الرئيس السابق باراك أوباما بهدف تنظيم الصناعة النفطية بشكل رئيسي. قد تتضرر ربحية الكثير من الشركات النفطية لكنها ستتأقلم مع المتغيرات وقد نشهد تزايدًا مضطردًا في وتيرة الاندماجات والاستحواذات في الفترة المقبلة لإعادة هيكلة الصناعة ورفع مستوى تنافسيتها.
أما على الصعيد الخارجي، يحيط الكثير من الغموض سياسات الرئيس جو بايدن مع الدول المنتجة للنفط وهذا أمر طبيعي إذ يركز في حملته على القضايا الداخلية التي تهم الناخب الأمريكي وكذا الحال مع الرئيس الحالي دونالد ترامب. مما لا شك فيه أن تصريحاته في مناظرته الأخيرة مع الرئيس دونالد ترامب والتي عبر فيها عن رغبته التحول من الاعتماد على النفط كون النفط المصدر الرئيسي للتلوث في نظره لم تلقى ترحيبًا من منتجي النفط العالميين.
أيهما أفضل بايدن أم ترامب؟ أستغرب من هذا الطرح حيث أن كلًا من السائل والمسؤول لا يستطيعون التأثير على مجريات الأمور إذ أن الانتخابات شأن داخلي بحت. من الإجحاف أيضًا المقارنة بين المرشحين إذ أن سياسة ترامب النفطية واضحة المعالم بعد أربع سنين في البيت الأبيض في حين أنها بالنسبة لجو بايدن ضبابية خصوصًا تلك التي تتعلق بالدول النفطية أو أمن إمدادات النفط حول العالم.
مما لا شك فيه أن بايدن سياسي محنك وقد نجح بشكل كبير في استقطاب الكثير من الشرائح عبر حملته الانتخابية. لم يهاجم الشركات النفطية بشكل مباشر وقراراته عدا العودة إلى اتفاق المناخ لا تؤثر بشكل جوهري على أداء الصناعة النفطية. على الطرف الآخر، يحظى ترامب بشعبية عالية أيضًا وتعاطيه مع ملف الاقتصاد بحسب الاستطلاعات الأخيرة كان لافتًا.
لا نعلم ما تخبأه الأيام لكن مما لا شك فيه أن الصناعة النفطية ستواجه الكثير من التحديات التي لم تعهدها من قبل والبقاء لمن هم أكثر تأقلمًا وتكيفًا مع المتغيرات. هذا والله أعلم.
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال