الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
ينتشر في القطاع الخاص وخصوصاً القطاع المصرفي وجود ما يسمى بإدارات الالتزام والمخاطر. الهدف من هذه الادارات هو ضمان التزام العاملين في المؤسسة بتطبيق اللوائح الداخلية والقوانين الخارجية الموضوعة من طرف ثالث والمتمثل في الدولة و مؤسسات سوق المال. في الواقع، مثل هذه الإدارات عملت جاهدة في تقليل انتهاكات القانون خاصة في مجال الجرائم الاقتصادية وتمويل الإرهاب. كما ان وجودها له اهمية بالغة لتطبيق الحوكمة بشكل فعال. ولان الانسان دائما يسعى للاستفادة من العلم و المعرفة بشتى اشكاله، فلابد من توسيع تطبيق ادارات الالتزام لتشمل المؤسسات بكافة أشكالها لتحقيق اهداف أصحاب المصلحة من المؤسسة بشكل خاص، ولتحقيق المصلحة العامة بشكل عام. لذلك،أشرت في المقال السابق الى فكرة تحويل إدارات الالتزام الى ادارة الالتزام والنزاهة بالاضافة الى التوسع في انشاء مثل هذه الإدارات في جميع المنشآت.
هذا الاقتراح ليس بسبب عدم فعالية إدارات الالتزام والامتثال لتطبيق القوانين، ولكن غالبا، كثير من المؤسسات عند انشائها مثل هذه الإدارات، تقوم بتشريع لوائح الامتثال و الالتزام بهدف حماية رؤساء المؤسسة من ملامة اصحاب المصلحة في حالة خسارة المؤسسة أو عدم تحقيقها الاهداف التي تصبو إليها ولتفادي دفع الغرامات في حالة مخالفة القوانين، ويأتي ضمان امتثال العاملين لقوانين الدولة التي بدورها تسعى الى درء الوقوع في الفساد الإداري والمالي في الدرجة التالية. وبالتالي، فنجد ان هذه اللوائح عديمة الفائدة طالما أن أعضاء المؤسسة، بمختلف مستوياتهم الوظيفية، لا يلتزمون بالقواعد بالشكل المطلوب. وفي الحقيقة، وهذه تعتبر من أكبر التحديات التي تواجه المؤسسات بكافة أشكالها سواء كانت في القطاع الخاص أو العام. من هنا تنبع اهمية عمل الادارة العليا و المراجعين الداخليين حيث يقع على عاتقهم عملية ضمان الالتزام بالمبادئ و السياسات التي وضعتها المؤسسة.
من الناحية العملية، يعمل المراجع الداخلي وكذلك الخارجي ليس فقط على مراجعة الأرقام، وإنما مراجعة التصرفات التي لا تمت للأرقام بصلة، ويسعى جاهدا للتأكد من معرفة العاملين بقواعد الالتزام والامتثال ويكون ذلك عن طريق تدريب العاملين وعقد ورش العمل والدورات للتوعية بالأخلاق المهنية والعقوبات المطبقة في حالة مخالفة اللوائح الداخلية و الخارجية. كما انه مهمة ادارات الالتزام دراسة التصرفات المخالفة للقانون و وضع لوائح تتناسب معها، وهذا يعني ان لكل قسم في المؤسسة قد يحتاج إلى استراتيجية تخصه، فالموظف في الإدارة المالية مثلا، لديه منافع لمخالفة القانون تختلف عن منافع موظف إدارة الموارد البشرية. لذلك، نجد أن لوائح إدارات الالتزام والامتثال عندما تكون منسوخة من نموذج موحد لا تؤتي الثمار المنشودة، حيث أنه في الواقع، يجب على كل مؤسسة صياغة لائحتها الخاصة بها وفقاً للمخالفات التي تعاني منها. ومن هنا أتت فكرة تحويل إدارات الالتزام والامتثال الى إدارات الالتزام و النزاهة.
يجب ألا يكون الهدف من هذه الإدارات تفادي اللوم من اطراف اخرى، وانما خلق ثقافة مؤسسية تجعل تطبيق قواعد الامتثال والالتزام اكثر سلاسه على جميع العاملين في المؤسسة.
و بالتالي، تعزيز النزاهة يعني اننا لا نركز فقط على اصحاب المصلحة، وانما نستهدف جميع المتعاملين معها في الوقت الحاضر او في المستقبل. اذا، لابد من دمج بين هدفين أساسيين معاً، الا وهما: تعليم العاملين سلسلة من القيم المهنية المستقاة من المبادئ العامة للقانون والأخلاقيات العامة، وغرس ثقافة النزاهة في المؤسسة تتأصل في الضمير الجمعي بحيث ان جميع العاملين و كل من يتعامل مع المؤسسة يتسق مع قيم ومفاهيم النزاهة.
من أهم الطرق التي تساعد على ذلك، هو عدم التركيز على فكرة الإجبار على الانصياع للوائح من دون تدريب الأفراد على طرح الاسئلة فيما يخص تصرفاتهم -سواء كانوا قادة في المؤسسة او موظفين. بمعنى، هل فعلا ما يقومون به من تصرفات، يخالف قواعد السلوك العامة ام لا. اهمية هذا الاسلوب تكمن في حالة اذا كانت المؤسسة لا تملك قواعد للامتثال تتناسب مع طبيعة المخالفات القانونية المنتشرة فيها. مثلا، هناك مؤسسات يوجد بها أقسام تعاني من مشكلة في اهمال الموظفين مما يؤدي الى تسرب المعلومات بسهولة حيث انها لا تملك نظام إداري و لا تقني يمنع استفادة الآخرين من معلومات المؤسسة الخاصة بها، وقسم آخر يعاني من مشاكل اكثر وضوح، مثل استخدام السلطة للمصالح الشخصية واخذ الرشاوي وغيرها من التصرفات اللااخلاقية الواضحة. عند تدريب العاملين على مسائلة انفسهم قبل ان يتعرضوا للمساءلة الجهاز المختص، فهذا يساعد إدارات الالتزام في اكتشاف مخالفات لم يسبق لها أن تنبهت لها، وبالتالي صياغة قواعد ولوائح تحل جزء من مشاكلها، بدلا نسخ اللوائح المنتشرة في المؤسسات المختلفة.
الهدف الذي اسعى الى توضيحه، هو خلق قواعد عرفية تساعد في صناعة لوائح التزام غير رسمية من خلال مسائلة الشخص لنفسه ومسائلة البيئة المهنية للشخص المخالف لقواعد الالتزام.
قد يتبادر سؤال يخص عملية تكوين القواعد العرفية التي تعزز انتشار أخلاقيات غير محببة في بيئة العمل وتخالف تطبيق القانون العام. لمنع تكون مثل هذه القواعد، هنا طريقة اخرى من طرق المساءلة الغير رسمية ايضا، الا وهي اتباع تقنية فتح قناة للنقاش مع العاملين عن هموم العمل. هنا، يجيب على المراجعين الداخليين، قيادة النقاش بين العاملين لتحقيق أهداف لوائح الالتزام الداخلية والقوانين الخارجية واستبعاد عملية اختيار العاملين ما إذا كان هذا التصرف يخالف أخلاقيات العمل أم لا. بمعنى اخر، يجب ان لا نترك العاملين لوحدهم لتقرير ما هي الأخلاق المهنية، حيث أن العامل قد يتأثر ببيئته الثقافية التي أتى منها. هذه الطريقة مهمة جدا لتعزيز النزاهة والسبب في ذلك ان نقاش العاملين سواء كانوا موظفين او رؤساء، يساعد على منع بناء معتقد بأن بعض التصرفات التي تخالف اخلاقيات العمل انها مقبولة نظاماً او عرفا، وبالتالي هذا الاسلوب يساعد المختصين في الرقابة الداخلية و الرؤساء على التأثير في تكوين ثقافة النزاهة ، مما يقودنا الى تطبيق أكثر سهولة و مرونة قواعد الالتزام.
لذلك، الرقابة الخارجية اداة مهمة لتطبيق القوانين، لكنها ليست كافية، حيث أن كل مؤسسة تحتاج إلى إدارة تعنى بالرقابة الداخلية وتعزيز النزاهة. الإدارة الداخلية اهميتها انها قريبة من أرض الحدث، قريبه من القضايا التي تواجهها المؤسسة، أكثر علم ومعرفة وثقافة المؤسسة، أكثر دراية بالإجراءات الداخلية لتنفيذ الأعمال، و بأساليب التحايل المختلفة التي قد يتبعها العاملين فيها لتفادي تطبيق القوانين واللوائح.
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال