الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
يتمُّ تأسيس العقود على توافقٍ بين الإيجاب والقبول، ذلك بشرط أن يَعلَمَ كلُّ طرفٍ بحقوقه والتزاماته بشكلٍ واضحٍ وصريحٍ، وأن يَشعُرَ بالاطمئنان لوضوح رؤية الاتِّفاق من حيث الجوهر والتطبيق النظري والعملي.
فإذا أصاب العقد شيءٌ من الغموض أو التناقض، فإنَّ نية إبرام العقد تتزعزع من أساسها، وتبدأ المشكلات بين المتعاقدين، فيَتَنَازعون أمام المحاكم، أحدهم يطلب من الآخر التزاماً بموجب العقد، والآخر يطلب إبطال العقد لعدم وضوح هذا الالتزام، وجهالة بنود العقد.
وفي الشركات التجارية، يُعتبرُ الوقوع في مثل هذا النزاع أمراً مُعطِّلاً لرأس المال، وباعثاً على القلق في منظومة العمل التجارية، وعنصراً طاعناً في ثقة التجار بعضهم البعض، تلك الثقة التي تُبنى عليها التجارة من الأساس.
بناءً عليه، فإنَّ الجهالة في بنود العقد قد تؤدِّي إلى نزاعاتٍ بقيمٍ ومبالغٍ كبيرةٍ في مجال الشركات التجارية.
والذي يمنح الأمر أهميةً عمليةً، هو أنَّ الثقة بين التجار تجعلهم يتساهلون في كتابة البنود التي اتَّفقوا عليها، ويَعتَقِدُ كلٍّ منهم أنَّه قد فهم على الآخر ورضي بالعقد، في الوقت الذي يكون فيه المتعاقد الآخر قاصِدَاً معنىً مُغايراً -أو حتى معاكساً- للمعنى الذي تصوَّره المتعاقد الأول.
وفي دعوى حسمتها الدائرة التجارية الثالثة في محكمة جدة -رقمها 4662/2/ق لعام 1438هـ- جاء قرار المحكمة بإبطال عقد الشركة بين اثنين من الشركاء، والسبب من وراء هذا الحكم هو جهالة رأس المال.
ففي الوقائع قام المتعاقد الأول بعرض الشراكة على الثاني، على أن يُقدِّم الثاني للأول مبلغاً يزيد عن 3 ملايين ريال، وبالفعل قدَّم الشريك الثاني هذا المبلغ ولكن على أساس أنَّ رأس مال الشركة يبلغ 8 ملايين ريال.
وكانت بنود العقد غامضةً جداً، حيث نصَّ على إنشاء الشركة، ونصَّ في ذات الوقت على أنَّ مبلغ 3 ملايين ريال التي يُقدِّمها الشريك الثاني ستدخل في الشركة، فكيف يكون العقد لتأسيس شركة قائمة فعلاً؟!
وبعدها دخل الشركاء في خلافات عديدة فيما بينهم على عزل الموظَّفين وتوزيع الأرباح وغيرها، وقد كان واضحاً أنَّ جهالة أساس المشروع –وهو رأس المال- قد جعلت الشريك الثاني غير مطمئنٍّ للأول، لأنَّ الثاني دخل في شركةٍ قائمةٍ غير واضحةِ القيمة، ولم يُساهم في شركةٍ قيدٍ التأسيس من البداية.
وعلى الرغم من ذلك، تمسَّك الشريك الأول بعقد الشركة، وطالب بتصفيتها كشركةٍ قائمةٍ، وهو الأمر الذي كان سيجعل الشريك الثاني يتحمَّل خسائر الشركة معه، وفي المقابل تمسَّك الطرف الثاني ببطلان عقد الشركة من أساسه لجهالة رأس المال وطالب بإبطال عقد الشركة وإرجاع المبلغ الذي دفعه وإعفائه من أية خسائر.
لقد كانت كلمة الفصل في هذه الدعوى هي لقدرة الشريك الأول على إثبات أنَّ رأس مال الشركة هو 8 ملايين ريال دون جهالةٍ، وهكذا سيتمُّ تثبيت صِحَّة عقد الشركة، وتحميل الشريك الثاني الخسائر بعد تصفية الشركة.
إلاَّ أنَّ الشريك الأول لم يكنْ لديه دليلٌ على علم الشريك الثاني بقيمة رأس مال الشركة سوى أنَّه قد أطلع ابن الشريك الثاني على الموجودات التي تُوضِّحُ قيمتها البالغة 8 ملايين دون جهالةٍ، ولكن ابن الشريك الثاني أنكر هذه الواقعة، ولم يقبلْ الشريك الأول بيمينه، وهكذا انهارت دعواه لعدم بنائها على بينة.
وفي تاريخ 29-11-1436هـ، أصدرت محكمة جدة حكمها بإبطال العقد، وإلزام الشريك الأول بتسديد مبلغ يتجاوز 3 ملايين ريال للشريك الأول دون أن يلتزم بأية خسائرٍ؛ لأن عقد الشركة باطلٌ، ولا صفة للشريك الأول بتصفيتها أو بخسائرها.
وعلى الرغم من صِحَّة تنفيذ المحكمة التجارية للإجراءات، إلاَّ أنَّ الحكم يُظهرُ واقعاً تجارياً غير مُشجِّعٍ، سببه التساهل وترك الأمور دون توضيحٍ وتدقيقٍ عند التعاقد.
ولذلك نقول أنَّ الثقة مرتبطةٌ بالعلم والاطِّلاع والاطمئنان في التجارة، فلا ثقة مع الجهالة.
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال