الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
إقترح الدكتور محمد المقصودي – وهو أستاذ القانون الدولي وحقوق الإنسان بمعهد الإدارة – إنشاء هيئة مستقلة تعني بمكافحة الفساد الإداري وأعتبره أشد خطرا من الفساد المالي. حقيقة لا يوجد فساد مالي إلا فيما يتعلق بأوجه صرف المال وإلا فإن ما يعرف بالفساد المالي هو في أساسه نتيجة طبيعية أو بالأحرى غاية لفساد إداري أخلاقي. لو سألت أحد المتعاملين مع حالات الفساد سواء من هيئة مكافحة الفساد أو النيابة أو أي جهة رقابية عن أصعب الحالات التي يواجهونها سيقول لك وجود حالات فساد مؤكدة ولكن لا يمكن الوصول لدليل عليها. عدم وجود الدليل مع وجود حالات فساد ينبي عن ممارسة إدارية تنتهك فيها النظم والإجراءات المقررة لعمل الأجهزة الحكومية أو المنظمات بشكل عام. في هذا المقال سأتطرق لبعض الأنماط الإدارية التي تمارس في كثير من الأجهزة الحكومية ولا أتحفظ في القول أنها تؤسس لحالات فساد أو تلحق الضرر بالمصلحة العامة في أقل تقدير.
التوثيق الكتابي – طمس الدليل
الفاسدون عادة يرفضون ويقاومون التعاملات المكتوبة، يروجون للتعامل الشفهي. أي تعامل مكتوب ينظرون له كخروج على النمط الإداري المحدد لمرؤوسيهم، بل يعتبرونه نوايا سيئة لإستهدافهم وبالتالي فهو مبرر كاف بالنسبة لهم لوضع أصحاب التعاملات الموثقة في خانة التحييد. لو إطلعت على أي معاملة لن تجد أي توجيه أو إجراء مكتوب، كل ما ستجده وثيقة عقد أو أمر صرف كمنتج نهائي ، فالعمل يدار برسائل الواتسب والتوجيهات الشفهية في الممرات والإجتماعات المغلقة. توثيق الأعمال مسألة هامة وإحدى الضرورات اللازمة لعمل الجهات الرقابية، بدونه لا تستطيع الجهة الرقابية تتبع الإجراءات والوقوف على الإنحرافات ومصادرها، فضلا عن أنه أداة ردع تشكل رقابة ذاتية وأدلة مادية تكبح إندفاع المفسدين.
التعيينات والمزايا – الأدوات الخفية
تعيين الأشخاص وإغداقهم بالمزايا من الأدوات المعلومة والشائعة في الفساد الإداري. صلاحيات التعيين والترقيات تمكن الفاسدين من إختيار أدواتهم المناسبة، فهم بلا شك يختارون الأشخاص ذوي النزعات الفاسدة المتعطشة للكسب والذين يمتلكون الكاريزما الخاصة للعب أدوار محددة وذكية، وغالبا ينتشلونهم من قاع المنظمة لمواقع القرار والتميز الوظيفي، يقابل ذلك تسخيرهم كقنوات آمنة وموثوقة لتمرير حالات الفساد، وهذا يبرر المرحلة الثانية التي أعلنت عنها الدولة في حربها على الفساد، وهي إستهداف موظفي الإدارات الوسطى وأصحاب الوظائف الدنيا. القيادات في الإدارة العليا يبررون ذلك بأنهم يختارون الأشخاص الذين يستطيعون التعامل معهم وبالتالي ضمان نجاح تنفيذ الخطط العملية كما يبدو لهم. وهذا عذر أقبح من ذنب ويكشف عن خلل في قدراتهم القيادية فهم لا يستطيعون الفصل بين الجوانب الشخصية والجوانب العملية، ومع ذلك فهي مجرد تبرير فأهدافهم لا تخرج عن تشكيل منظومة فساد تدار بخيوط خفية.
السلطة الشخصية – القوة الناعمة
في معظم – إن لم يكن كل – الإدارات الحكومية ينظر العاملون لشخصية القائد أو المدير كنظام مستقل ومصدر إلهام للإفراد في المنظمة، من المؤسف أن يسود هذا النظام الوهمي في كثير من الحالات على الأنظمة الفعلية. بسبب جهل وربما خوف كثير من العاملين، أو لإنهم لم يتعودوا على العمل في بيئات صحية مستقلة، تمثل شخصية القائد أو المدير مصدرا تشريعيا ذاتيا لأعمالهم ومقياسا لدرجة نجاحهم أو إخفاقهم . حتى وإن كان ذلك على حاسب ما تقضي به الأنظمة والممارسات الصحيحة فهم يختزلون كامل المنظمة وأهدافها في شخص المدير أو القائد ويبذلون كل ما بوسعهم لقراءة وإتباع توجهاته وإستنباط نزعاته الشخصية، بل يتلمسون ساعات الإستجابة في مزاجه للحصول على توجيه أو موافقة إدارية، هي في الواقع من صميم عمله. هذه القدسية الممنوحة لشخصية المدير خلقت قوة ناعمة يحذرها الجميع وتضعهم بشكل لا إرادي رهن رغباته وإن جنحت وأفضت لأعمال فاسدة. لديهم في هذه البيئات ما يعرف بالـ (تجميد) وهو أن يحل غضب المدير على المارقين على هذه القوة الناعمة فيصبحون خارج فريق العمل، أي مجرد أشخاص يأتون ويذهبون إلى أن يقتلهم اليأس والإحباط فيختارون الخروج.
الاستقلالية – حماية الموظف
الإستقلالية تعني أن يؤدي الموظف عمله دون أن يكون تحت أي تأثير من أي نوع. البيئات المرشحة لنمو الفساد لا تعزز هذا الجانب، بل على العكس تعمل على ترويض الموظفين من خلال تعزيز علاقة تبعية بين الرئيس والمرؤوس تصبح هي الحاكمة على قرارات وقناعات الموظفين لتوجهها في سياق توجهات الإدارات الفاسدة. ولأن الإستقلالية بطبيعتها تقوم على عوامل شخصية في الموظف نفسه وأخرى مؤسسية توفرها المنظمة لمنسوبيها بما يكفل أداء الأعمال في بيئة صحية آمنة يكمن العلاج في أختيار الأشخاص ذوي الشخصيات المستقلة الذين يملكون الشجاعة لعزل قناعتهم عن أي تأثير، إضافة إلى الدور المؤسسي في توفير وتفعيل منظومة فاعلة من الإجراءات وقواعد الإلتزام ولوائح الإنضباط تكفل حماية الموظفين فلا تصبح حقوقهم المالية والمهنية هدفا للوبي الفساد مما يؤثر على إستقلاليتهم في أداء العمل.
الجدير بالذكر أن الدولة في السنوات الأخيرة استشعرت وجود وخطورة الفساد الإداري في الأجهزة الحكومية وفرضت عدة معايير رقابية وتشريعية تطوق محركات الفساد وتبنت مزيجا من الاستراتيجيات في حربها على الفساد ومن جبهات متعددة بما فيها التشهير والتشجيع على الإبلاغ عن حالات الفساد. نظريا هذه المعايير محكمة وحدت إلى درجة كبيرة من مظاهر الفساد، إلا إن فاعليتها القصوى تكمن في إصلاح بيئات العمل من خلال تمكين (القوي الأمين) القادر على تطهير هذه البيئات وإعادة بنائها على أسس مهنية ترتكز على عمل مؤسسي وثقافة جديدة تذوب فيها الرمزية الشخصية وتتبلور فيها أهداف المنظمة بشكل خاص ومنطق المصلحة العامة بشكل عام.
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال