الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
قبل أيام قليلة، تم الإعلان عن قضية قاضيين تم كف أيديهم عن مزاولة العمل القضائي واحالتهما الى التحقيق، والسبب هو إصدار احكام قضائية وفقاً لتحريم المعسل و الحلاقة من وجهة نظرهم الشرعية. وهذه في الواقع، ليست القضية الأولى من نوعها. بعض رجال الضبط ممن يحمل توجهات فكرية معينة، كانت بعض أعمالهم سابقا منع الناس من مزاولة عمل معين غير ممنوع نظاماً، وكانت تصرفاتهم عبارة عن اجتهادات شخصية وليس لها أساس نظامي، بل ربما ايضا قد تكون تخالف النظام في بعض الحالات.
وهذا في الحقيقة، يجعلنا نتأمل الفرق بين مفهوم المشروعية و العدالة. إذ أن بينهما بون شاسع في المعنى. عندما نتفكر في مفهوم العدالة، فنرى أن مفهوم العدل لغة هو خلاف الجور ، وما قام في النفوس أنه مستقيم. بينما اصطلاحا، فالعدالة تعني الاستقامة على طريق الحق، وتأتي بمفهوم استعمال الأمور في مواضعها وأوقاتها و وجوهها ومقاديرها من غير إسراف ولا تقصير. بينما المشروعية فهي تأتي بمعنى خضوع جميع السلطات والأفراد، الحاكم و المحكوم لقواعد النظام و القانون. وبالتالي المشروعية مفهوم مقنن بينما العدالة مفهوم واسع يعتبر أساسا لكثير من القوانين، ولكنه ايضاً يختلف باختلاف الأشخاص، و المكان والزمان.
على الرغم من أن مصطلح العدالة والإنصاف يعتبر من المصطلحات التي طورت القوانين منذ ان نادى بها ارسطو قبل ألفي عام، إلا أنه عند قراءة التاريخ، يعتبر مفهوم العدالة أمرا نسبياً، فما نراه عدلا، قد لا يراه الغير عدلا والعكس صحيح. فالقاضي عندما حكم ضد صاحب محل المعسل، كان يحكم بناء على ما يراه عادلا وفقا لمعتقداته الدينية المترسخة في عقله وقلبه. ولكن هل فعلا ما قام به عادل؟ قد يراه البعض عدلا والاخر لا. احكام الارث في مجتمعنا، يراها الكثير ممن يعيش في مجتمعنا ضمن حدودنا الجغرافية، انها عادلة لأنها تتوافق مع مبادئ الشريعة الاسلامية، بينما يراها آخرين في بلدان اخرى غير عادلة مثل الولايات المتحدة الامريكية وان من حق صاحب الإرث ان يقرر من تؤول اليه امواله و ممتلكاته. اذا، في دولة القانون والمؤسسات، العبرة ليست بما يراه الفرد او القاضي عادلا، وإنما العبرة بنص القاعدة القانونية وطريقة تفسيرها.
ففي زمنٍ من الأزمنة، كانت العبودية والرق قانوناً ومشروعاً. على العكس، كانت تجارة الرق من الركائز التي يعتمد عليها اقتصاد الدولة، ولم يكن ينظر إليها الضمير الاجتماعي بأنها تجارة تنافي العدالة، بل ملاك العبيد يرون من العدالة هو قمع المتمردين من هؤلاء البشر المملوكين. إلى أن جاء إعلان عصبة الأمم المتحدة في عام ١٩٢٦ عن اتفاقية قمع تجارة العبيد، وبعدها اتفاقية حقوق الانسان التي أعلنت عنها هيئة الأمم المتحدة وغيرها من الاتفاقيات التي كرست مفهوم تحريم تجارة الرق إلى أن بدأت دول العالم تتخلى عن قوانين تجارة الرق الى ان اصبح الان معظم دول العالم لا يوجد فيها ما يسمى بتجارة الرق. بل ان في بعض دول العالم، يعتبر إطلاق مصطلح عبيد مجرما قانونا و وجها من وجوه العنصرية. هل نراه عادلا الآن؟ شخصياً، أراه عادلا جدا، لكن لو كنت اعيش في القرن الثامن عشر، هل سأراه عادلا؟ لا أستطيع أن أتكهن بالإجابة لأنه باحتمال كبير، ستكون لي نظرة أخرى حيث أن الإنسان ابن بيئته.
إذا، مفهوم العدالة أوسع بكثير من مفهوم القاعدة القانونية. القاعدة القانونية غالبا ما تسعى الى تحقيق مبادئ العدالة و الإنصاف، قد توفق احياناً لتحقيق هذا الهدف وقد تخطئ احياناً أخرى. ولكن، مبدأ العدالة هو الذي يساعد على تطوير القانون، فقبل ٢٠٠٠ عام، لم تكن القوانين بهذا التطور، ولم تكن الحقوق بالشكل الذي هي عليه الآن، وأنظمة الحكم لم تكن بالشكل التي هي عليه في يومنا هذا. كان الحاكم آنذاك هو صاحب السلطة التشريعية والتنفيذية والقضائية في آن واحد. لكن بفضل وجود مصطلح العدالة، تطورت القوانين لنصل لمبدأ الفصل بين السلطات. لذلك، كف يد القاضيان يعتبر تطورا في مفهوم مؤسسة القانون اذا يفترض أن يحكم القاضي وفقا لما نص عليه النظام الذي يسمح بمزاولة النشاط.
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال