الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
إذا كان السبب الأساس للانكماش الاقتصادي كما برهنت تجارب الأزمات الاقتصاديَّة السابقة يعزى الى تراجع الطلب الكلِّي على السلع والخدمات، فتجاوز حالة الانكماش، وزيادة الناتج المحلِّي الإجمالي لن يتحققا إلَّا بتحفيز الطلب الفعَّال. فتغيرات الطلب الكلِّي تشكِّل مصدر الأزمات الاقتصاديَّة وإداة حلِّها أيضًا.
أسفرت التدابير الوقائيَّة المفروضة لكبح جماح انتشار الجائحة في المملكة أسوة بغيرها من دول العالم، عن تراجع حادٍّ في الطلب الكلِّي على السلع والخدمات، وأفرزت حالة الانكماش الاقتصادي الذي يعاني منه اقتصادها. لعلِّ أقسى تداعيات الصدمة الطلبيَّة السلبيَّة وأكثرها حدَّة تلك المتعلَّقة بتأثيرها في توازن سوق العمل؛ ارتفاع معدَّل البطالة، وانخفاض مستوى الدخل الفردي والأسري، وما ترتَّب عن ذلك من تحدِّيات اقتصاديَّة واجتماعيَّة متفاقمة.
إيجاد حلول لأزمة البطالة وتبعاتها، شكَّل وما يزال تحدِّيًا جادًّا للاقتصاديِّين وأصحاب القرار السياسي بسبب كلفها الاقتصاديَّة وتبعاتها الاجتماعيَّة المهدِّدة لبنية المجتمع واستقراره وتطوُّره. إصلاح الخلل في سوق العمل ورفع حجم الاستخدام وتحسين مستوى الأجور، تعتمد بشكل كامل على زيادة نشاط قطاعات الاقتصاد، وعلى نموِّ الاقتصاد الوطني وقدرته على خلق فرص عمل مستدامة. كما تعتمد على فعاليَّة سياسات إدارة الطلب “الماليَّة والنقديَّة ” وقدرتهما على تحفيز الطلب الفعَّال على السلع والخدمات الاستهلاكيَّة والاستثماريَّة.
على المدى المنظور، لن يتحقَّق تخفيض معدَّل البطالة ما لم يتم زيادة حجم المكوِّنات الأساسيَّة لمعادلة الطلب الكلِّي، وأكثر تحديدًا، رفع مستوى الاستهلاك الذي يعتمد بدوره على زيادة الدخل الأسري والفردي. الزيادة المخطَّطة لدخول الأفراد، تقود إلى ارتفاع الطلب الفعَّال على السلع والخدمات، وإلى زيادة الانتاج وارتفاع الطلب على قوَّة العمل ونموِّ الناتج المحلِّي الإجمالي.
لقد أدرك متَّخذو القرار الاقتصادي السعودي طبيعة العلاقة الطرديَّة والسببيَّة بين تنمية دخول الأفراد وتحقيق النمو الاقتصادي المستدام وأهميتها، كما عبَّر عن ذلك في تصريحاته الأخيرة سمو ولي العهد الامير محمد بن سلمان ، وأكَّد فيها اعتماد تنمية الدخل الفردي للمواطنين، ورفع مستوى مشاركتهم في سوق العمل، من أهمِّ ركائز رؤية 2030، وهدف أساس لاستراتيجيَّة التنمية الاقتصاديَّة.
رسم “استراتيجيَّة استخدام” فعَّالة ذات أهداف قابلة للتحقيق، يتطلَّب مراعاة جملة من العوامل:
أوَّلًا، خفض معدَّل البطالة الراهن إلى المستوى الطبيعي “Natural Rate of Unemployment”، أو إلى مستوى هدف الخطة الاقتصاديَّة، لا يمكن تحقيقه في مرحلة اقتصاديَّة واحدة، بل عبر مراحل مترابطة ومتكاملة وضمن خطَّة شاملة فعَّالة طويلة الأجل.
ثانيًا، حلُّ ازمة البطالة المرتفعة نسبيًا في الاقتصاد السعودي، يتطلَّب معالجة جذريَّة شاملة وسريعة للاختلالات الهيكليَّة المزمنة التي يعاني منها سوق العمل في المملكة وأهمها:
أ- ارتفاع نسبة مشاركة العمالة الأجنبيَّة “الوافدة ” في قوَّة العمل.
ب- اختلال هيكل الأجور في القطاع الخاص لصالح العمالة الأجنبيَّة، وضغوط الأجور المنخفضة للعمالة الوافدة في النشاطات الحرفيَّة وقطاع الخدمات.
ت- ارتفاع حجم العمالة الأجنبيَّة غير الشرعيَّة.
ث- عدم توفر هيكل أجور ثابت لعاملي القطاع الخاص.
ج – تدنَّي نسبة مشاركة العنصر النسوي في قوَّة العمل، وارتفاع نسبة البطالة النسويَّة.
إلى جانب الاختلالات أعلاه، فقد عانى سوق العمل في المملكة وما يزال، وإن بدرجة أقل، من تبعات ثقافة عمل سلبيَّة موروثة، ومفاهيم اجتماعيَّة خاطئة، حالت دون مشاركة العمالة الوطنيَّة في العديد من النشاطات الي كانت تصنف خطلًا بالمتدنية!
ثالثًا، حلُّ أزمة البطالة مسؤوليَّة مجتمعيَّة تكافليَّة، ولا تقع على كاهل المؤسَّسات الحكوميَّة حصرًا، بل يتطلَّب إسهام منشات القطاع الخاص، والمنظَّمات الاقتصاديَّة الإنسانيَّة “غير الربحيَّة”، وأفراد المجتمع أيضًا. من المؤكَّد أنَّ دور المؤسَّسات الحكوميَّة في قيادة الاقتصاد الوطني، ومعالجة اختلالاته الهيكيَّلة هامٌّ ومؤثِّر. إلَّا أنَّها لن تتمكَّن من رفع مستوى الاستخدام، وتنمية الدخل الفردي والأسري، وبناء اقتصاد مستقر دون إسهام فعَّال من المكوَّنات الاقتصاديَّة الأساسيَّة الأُخرى. إسهام منشآت القطاع الخاص في حلِّ أزمة البطالة، لا تفرضها مسؤوليتها المجتمعيَّة، بل تقتضيها مصالحها التجاريَّة أيضًا. كما أنَّ دور الأفراد وتفاعلهم وسعيهم لتطوير قدراتهم ومهاراتهم وإنتاجيَّتهم عامل مهمٌّ في رفع نسب المشاركة في قوَّة العمل. إلى جانب الدور الحيوي لمكونات الاقتصاد الأساسيَّة الثلاثة، هناك دور مهمٌّ أيضًا للمؤسسات الاقتصاديَّة الإنسانيَّة “غير الربحيَّة” في تقليص معدَّل البطالة، من خلال طرح المبادرات الاقتصاديَّة المجتمعيَّة، وتبنِّي برامج تطوير القدرات البشريَّة الوطنيَّة وتمكينها.
تقديم مقترحات نظريَّة لمعالجة أزمة البطالة قد يبدو أمرًا يسيرًا، إلَّا أنَّ سياسات خفض معدَّل البطالة تعتريها جملة من التحديات الاقتصاديَّة والماليَّة الجادَّة، وتتطلَّب حلولًا بنيويَّة متوازنة، ووضع برامج إعداد الطواقم الوطنيَّة متَّسقة مع خطط التنمية الوطنيَّة لتجنُّب إشكالات نقص القوى البشريَّة كمًا ونوعًا، وضمان انسيابيَّة تنفيذ مشاريع التنمية الاقتصاديَّة والاجتماعيَّة، وتجنُّب فجوة تنفيذيَّة في النشاطات التي تعاني من نقص في الطواقم الوطنيَّة التنفيذيَّة في المرحلة الراهنة.
دروس الأزمات الاقتصاديَّة الماضية أكدت عدم توفُّر علاجات سريعة وحاسمة للتحدِّيات الاقتصاديَّة والاجتماعيَّة المعقَّدة، ومنها أزمة البطالة. لكن اعتماد السياسات الناجعة؛ واستراتيجيَّة تعظيم الاستخدام، وإنجاز الخطط الكفيلة في زيادة الطلب على العمل، ورفع مستوى الدخل الفردي في مقدَّمتها، تسهم في تسريع عودة التوازن إلى سوق العمل. فإستراتيجيَّة تعظيم الاستخدام، وتنمية دخول الأفرد، تسهم في إعادة استثمار الطاقات البشريَّة المعطَّلة وتحويلها إلى زخم اقتصادي منتج في الأنظمة الاقتصاديَّة الزاخرة بالطاقات الشابَّة المؤهَّلة والقادرة على بناء مستقبل زاهر.
الأزمة الاقتصاديَّة الراهنة بكلِّ مصاعبها وقسوتها، تتيح للحكومات والمنشآت الخاصَّة فرصة مراجعة خططها الاقتصاديَّة والتنمويَّة وأهدافها، وإعادة صياغة استراتيجيَّاتها وفق مفاهيم تنفيذيَّة وآليات جديدة، قادرة على بناء اقتصاد مستقرٍّ ومُستدامٍ.
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال