الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
يعدُّ نموُّ الناتج المحلِّي الإِجمالي من المتغيِّرات الأكثر أهميَّة في الاقتصاد الكلِّي، الى جانب معدُّل البطالة ونسبة التضخُّم. هذه المتغيِّرات الأساسيَّة وعلاقاتها المتداخلة وتأثيراتها ، تقدم صورة جليَّة عن أداء الاقتصاد الوطني واستقراره.
ثمَّة علاقة ترابط متينة وواضحة بين نموَّ الناتج المحلِّي الإجمالي ومعدَّل البطالة. هذه العلاقة المعروفة بـ “قانون أُوكُن – Law Okun’s “، الذي قدَّمه الاقتصادي الأمريكي “آرثر أُوكُن- Arther Okun” “ سنة 1960، يعدُّ أحد أهمِّ اسس الاقتصاد الكلِّي. يقدم القانون نوعين من العلاقة بين نموِّ الإنتاج المحلِّي وتغيرات معدَّل البطالة. الاولى؛ نموُّ الناتج المحلِّي الإجمالي غالبًا ما يُصاحبه نخفاضٍ في معدَّل البطالة، والعكس صحيح . والثانية؛ مع معدَّل بطالة مرتفع جدًّا، يحتاج الاقتصاد إلى مدَّة نموِّ انتاج طويلة ومتواصلة لتخفيض معدَّل البطالة. قوَّة العلاقة هذين المتغيرين ، وقدرة نموِّ الناتج المحلِّي على تخفيض معدل البطالة وسرعة التأثير، تتوقَّف بشكل اساس على سلوك المنشآت الخاصَّة، وحجم طلبها على عنصر العمل . الاستجابة الإيجابيَّة والسريعة للمنشات الخاصَّة، وزيادة طلبها على العمل يفضي إلى تقليص كبير وسريع في معدَّل البطالة، وزيادة نسبة النموِّ دون استجابة المنشآت الخاصَّة لن يقلل معدَّل البطالة.
في ظلِّ الانكماش الحاد والمتفاقم الذي يعاني منه الاقتصاد العالمي، والتحدِّيات الاقتصاديَّة والماليَّة المعقَّدة التي تواجهها غالبية الاقتصاديَّات الوطنيَّة، واستمرار حالة عدم اليقين من التطوُّرات المستقبليَّة، واستمرار تهديدات الجائحة للصحَّة العامة وسلامة المجتمعات، فأداء الاقتصاديَّات الوطنيَّة خلال المراحل المقبلة يبقى عرضة لكلِّ الخيارات والاحتمالات. من ضمنها، احتمال نجاح السياسات الاقتصاديَّة في زيادة ٍّ الناتج المحلِّي الإجمالي دون تخفيض معدَّل البطالة.
توقُّعات النموِّ الخاصَّة في غالبيَّة الاقتصاديَّات متباينة ومتضاربة . فالنموُّ المستقبلي، يعتمد بشكل أساس على قدرة الاقتصاد على عكس الصدمة الطلبيَّة التي تعرَّض لها ، ومدى نجاح سياسات ادارة الطلب” المالية والنقدية” في إعادة تفعيل دورة التبادل الاقتصادي الداخلي والخارجي، وتعزيز ثقة المستهلكين والمستثمرين في الاقتصاد ، إلى جانب السيطرة الكاملة على الجائحة بشكل حاسم.
من بين الأسئلة المهمَّة والملحة التي تواجه المخطِّطين الاقتصاديِّين، وتثير قلقهم في هذه المرحلة الصعبة؛ سؤالان جوهريَّان: هل ينجح الاقتصاد في استرداد عافيته، وزيادة الناتج المحلِّي الاجمالي في المدى القصير؟ والأهمُّ عمَّا إذا كان نموُّ الانتاج قادرًا على خفض معدَّل البطالة كما طرح “قانون أوكُن”؟.
سنتجاوز الإجابة عن السؤال الأوَّل، لنركِّزعلى الثاني؛ محورهذه المشاركة وهدفها. قدرة نمو الناتج الإجمالي على تقليص معدَّل البطالة، يعتمد -كما أشرنا سابقًا- على سلوك المنشآت الخاصَّة، وحجم طلبها على عنصر العمل. رفع مستوى استخدامها لمواجهة زيادة الطلب على منتجاتها، يقود بالضرورة إلى خفض معدَّل البطالة، وإلَّا فنمو الناتج المحلِّي لن يؤثر في معدَّل البطالة.
ثمَّة قلق مشروع ينتاب شريحة واسعة من الاقتصاديِّين ؛ مصدره احتمال أن يشهد عدد من الاقتصاديَّات الوطنيَّة نموًّا في ناتجها الإجمالي في المرحلة المقبلة ، دون انخفاض معدَّل البطالة! هذه الظاهرة ليست جديدة. فقد سبق أن عانى منها العديد من الاقتصاديَّات إثر نجاحها في زيادة الناتج المحلِّي الإجمالي، بعد مرحلة انكماش اقتصادي مرهق.
أبرز تلك التجارب، ما واجهه الاقتصادان الأمريكي والكندي إبَّان فترة (الكساد العظيم) ومابعدها. فقد انخفض الناتج المحلَّي لكلا البلدين خلال 1929 – 1933 بنسبة قاربت الثلاثين من المئة، بينما اقترب معدَّل بطالة من نسبة عشرين من المئة. وفي نهاية سنة 1933، ارتفع الناتج المحلِّي الإجمالي للبلدين، إلَّا أنَّ معدَّل البطالة السنوي بقي مرتفعًا في كلا البلدين؛ (13.3 في كندا، و 16.5 في الولايات المتَّحدة الأمريكية ). ولم يعد معدل البطالة إلى مستوى ما قبل سنة 1929 حتَّى دخول البلدين الحرب العالميَّة الثانية في السابع من سبتمبر/ كانون أوَّل سنة 1941.
ما هي العوامل التي قد تدفع الاقتصاديَّات إلى مازق النموِّ المصاحب للبطالة في المراحل المقبلة ؟
أنَّ أهمِّ العوامل وأكثرها تأثيرًا في دفع الاقتصاديات الى هذا المازق يكمن في الاثر الاحلالي للخوارزميات ، واندفاع المنشآت الخاصَّة والعامَّة المتزايد إلى استخدام التقنيات الخوارزميَّة بدلًا من عنصر العمل في عمليَّاتها الإنتاجيَة ونشاطاتها الخدميَّة والإداريَّة. إقبال المؤسَّسات العامَّة والمنشآت الخاصَّة على استخدام تطبيقات الذكاء المصنَّع لدواعي الكفاءة وتخفيض النفقات بشكل واسع ،سيحول دون زيادة طلبها على عنصر العمل في حالة نمو الاقتصاد . معطيات أسواق العمل خلال السنوات القليلة الماضية، ونجاح (التقنيات الخوارزميَّة) في تجفيف فرص العمل البشري في العديد من القطاعات ، تقدِّم لنا أدلَّة داعمة لاحتمال مواجهة الاقتصاديات الوطنية تحديات حالة النموّ المصاحب للبطالة في المراحل المقبلة .التقنيات الخوارزميَّة، كما أوضحنا في مشاركة سابقة1 ، ليست محض معدَّات مبرمجة وفق خطوات محدَّدة مسبقاَ من قبل بشرٍ، بل هي نظمٌ متطوِّرة قائمة على أسس رياضة متقدِّمة وقادرة على تحليل كمٍّ هائل من البيانات، وإيجاد الحلول والبدائل، واتِّخاذ القرارات، وتقديمها للعنصر البشري. دور التقنيات لم يعد تسهيل أداء مهام داخل الوظيفة، بل غدا الوظيفة نفسها.
خلال العقود الثلاثة الماضية، صدرت بحوث ودراسات عديدة عن مؤسسات ومراكز دراسات متقدمة ، تناولت مخاطر الأَتمتة والتقنيات الرقميَّة على سوق العمل، وقدَّمت أدلَّة تحليل كميَّة برهنت مخاطرالخوارزميات على سوق العمل ، وأشارت إلى احتمال خسارة العاملين في القطاعات الاقتصاديَّة المختلفة في العالم مئات الملايين من الوظائف بحلول سنة 2030.
لا خلاف في أنَّ أنجع السياسات الاقتصاديَّة تلك التي تستشرف المستقبل وتحدَّياته، وتضع خططًا لتفادي أزمات المستقبل وتداعياتها الاقتصاديَّة والاجتاعيَّة . في التحوُّلات الاجتماعيَّة الكبرى التي تشكِّل تهديدًا للمجتمع والاقتصاد الوطني خاصَّة، ثمَّة حاجة إلى التدخُّل الاستباقي للمؤسَّسات الرسميَّة لصياغة لوائح تنظيميَّة تحمي مصالح أفراد المجتمع. المطلوب؛ تقييم فوري وجاد وشامل لمخاطر التقنيات على سوق العمل لتفادي تكوين جيوش من العاطلين ، والبدء في إعداد شبكات أمان اجتماعيَّة فعَّالة كأحد خيارات معالجة تداعيات الذكاء المصنَّع. حماية سوق العمل، يتطلَّب مواقف حاسمة لرسم الحدود بين توسُّع (الخوارزميَّات) وحقوق العاملين ومصالحهم .
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال