الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
لحد الان لم تتأثر أسواق النفط بإرهاصات الاعلام السلبية، لكن المستقبل قد يكون مختلفا. حيث مازال التصدي لتغطية الاعلام لقضايا النفط يمثل نقطة ضعف مؤثرة لصناعة النفط على المستوى العالمي. بشكل عام، صورة النفط لدى أذهان المستهلكين وصناع القرار مركبة ومتراكمة من منافع استهلاكه الى الصور الذهنية السلبية عن تسعيره، وتأثيرات استيراده على الاقتصاد وأمن الطاقة، ومؤخرا الى تأثير انبعاثات استهلاكه على التغير المناخي، الا أنها في المحصلة سلبية عند اغلب المجتمعات. استطاع الاعلام العالمي، وخصوصا الغربي، بعدم مهنية تغطيته الإعلامية تجاه النفط وعدم وجود رؤية إعلامية مقابلة لتتصدى لها في تكوين صورة سلبية عن النفط تراكمت على مر العقود. فمنذ سبعينيات القرن الماضي، يتضخم الجانب غير الايجابي لقضاياه على حساب الجوانب المنفعية. هنالك جانبان وفي غالب الأحيان يتقاطعان لهذه التغطية: التحيز ضد النفط والذي يصل في بعض الأحيان لدرجة التحامل الفج من قبل وسائل الاعلام ومن المؤثرين في التغطية الاعلامية، وكذلك عدم احترافية الاعلام في نقل الاخبار والتحليلات والتوقعات.
يلاحظ أن وسائل الإعلام المناهضة للنفط في تناولها للأحداث الشائكة والقضايا الخلافية فهي إما أن تؤطر سلبيا، أو أن تضع نفسها في موقع الحكم من هذه القضايا و الأحداث بما يتناسق مع أيديولوجية معينة أو ثقافة بعينها، أو قد تثير الرأي العام لقضية ما دون غيرها، أو تجاهل قضية أساسية، أو “تشويش” المعلومات في قضية ما لتشتيت الانتباه، أو تستدعي الصورة الإدراكية الجمعية المتراكمة عند تغطيتها لحدث ما، أو تغطي بشكل غير دقيق وغير حيادي القضايا المختلفة بشكل متعمد، فهي سمة عامة لها ولا تقتصر على قضية ما دون غيرها، فالمهنية الإعلامية أصبحت تقاس بالمقدرة على تمرير القضايا للرأي العام وإقناعهم بشكل مباشر أو غير مباشر بما يريد صانعوا المادة الإعلامية بها. في قضايا النفط، ما يهم هو استغلال الاعلام المقابل وغير المهني لطبيعة تأثير الاعلام المرتبط بالنزعات التحيزية البشرية على صناع القرار وتفضيلات المستهلكين. استطاع المغرضون وعديمي المهنية الإعلامية استغلال هذه الطبيعة في تكوين الصورة الذهنية المتراكمة السلبية عن النفط، وتكريسها لخدمة اجندات بعينها.
يستخدم الاعلام غير المهني النزعات التحيزية في إطار لغة مبالغ في مفرداتها أو تراكيبها، أو قصص مثيرة غير حقيقية على حساب الدقة، بغرض الإثارة لتحقيق الانتشار والارباح على حساب الموضوعية. والهدف الرئيسي هو زيادة الانتشار والتأثير لاستقطاب المعلنين. فأسلوب التابلويد هو التأكيد على العناصر المثيرة للقصة، فهي لا تثبت دائمًا حقائق القصة في اذهان المتلقين. فإذا كان هناك مجرد تلميح من الشائعات حول موقف ما، فقد يتم نشره على أنه حقيقة. من غير المحتمل أن يكون الجمهور المستهدف على درجة عالية من التعليم. بينما قد لا يُنظر إلى هذه الصحافة على أنها مهمة أو ذات مصداقية، لكن الحقيقة أن هذا النمط من الصحافة يحتل مكانًا في عالمنا ومن غير المرجح أن يختفي في أي وقت قريب.
نتيجة لذلك، يرزح تناول وسائل الإعلام بالكثير من المفاهيم “غير المحكمة” علميا، والتي تُتناول بأيدي غير المختصين، ويكون تناولها إما لهدف الإثارة دون المحتوى، أو تحقيق أجندات معينة. من الممكن تصنيف هذه القضايا إلى قسمين: قضايا فنية بحتة يمكن البت فيها، وقضايا أخرى هي موضع عدم اتفاق بني المختصين، والبت فيها لا يؤدي لأي نتيجة، وإثارتها للرأي العام تهدف إلى التشاؤم بمستقبل النفط والتشكيك في موثوقية صناعة النفط. إن استخدام الأطر العلمية المناسبة لشرح المفاهيم العلمية والفنية هو من الأمور الصعبة وأن مل تكن المستحيلة، وقد يرجع السبب في أن المتلقين للخبر أو المعلومة يفتقدون الأطر العلمية المناسبة، والتي لم تكتسب في مراحل التعليم والحياة المختلفة، أو قد يرجع لعدم استطاعة المتصدي لهذه المفاهيم استدعاء الأطر العلمية والفنية المناسبة للاستنباط أو الاستقراء.
إن أسوء ما في هذا الأمر هو تصدي غير المختصين لها، أو تداولها في وسائل الإعلام من قبل عامة الناس، وخصوصا في وسائل الإعلام الاجتماعية. وهنا يجب التأكيد على الفرق بين التأطير العلمي والفني، والاتصال الاجتماعي البحت. من جهة أخرى، إن ميل عدد من العلماء والإعلاميين والسياسيين، لعدم تحييد النقاشات العلمية والفنية يغذي جذور الصراع السياسي والقيمي ويضعف ثقة الجمهور في العلماء والبحث العلمي بشكل خاص. لذلك يجب مناقشة المفاهيم بتحكيم علمي، ومحاولة إبعاد عامة الناس عن التنازع في القضايا العلمية التي لم تدخل مرحلة التيقن، وعدم طرحها مباشرة على الجمهور لتجنب الجدال الذي لا طائل منه وتجنب تسيس العلوم والأمور الفنية.
لسوء الحظ، بدأت نزعة أخرى تنتشر وهي عدم الثقة بالآراء العلمية وكذلك آراء الخبراء، حيث إن ثقة المجتمعات المختلفة بالآراء العلمية والمتخصصة بدأت تتبدد. إن الفجوات بين العلم والرأي العام فيما يتعلق بقضايا الطاقة والنفط حاسمة لأن القرارات النهائية لا يتخذها العلماء أو صناع القرار فقط. فالأفراد لديهم القدرة على التأثير على السياسة من جهة، ومن جهة اخرى تغيير أنماط استهلاكهم تبعا لقناعتهم. يمكن تفسير الفجوة بين العلم والرأي العام من خلال “تدني المعرفة الاساسية” من قبل عامة الناس.
القضايا الرئيسية في الاعلام:
• أصبح تأطير العلاقة بين التغير المناخي وكل من الوقود الاحفوري والتنمية الاقتصادية من الأمور المستجدة والتي تشغل بال العلماء وصناع القرار حول العامل، فلم يبدأ الاهتمام بالتغير المناخي إلا في العقود الأربعة الأخيرة. تعتبر قضية التغير المناخي القضية الأخطر والتي تؤثر سلبا على موثوقية صناعة النفط، ويؤطر فيها النفط في مجموعة الوقود الاحفوري. مع ذلك، مازال الإطار العلمي للتغير المناخي غير واضح بشكل جلي لكثير من المتابعين والمهتمين بهذا الشأن. تساعد الأطر التي تستخدم في وسائط الإعلام في تحديد شروط النقاش بني الفاعلين السياسيين والجمهور. لذلك، سوف يتأثر مستقبل النفط بالأطر المستخدمة في الاعلام لشرح العلاقة بين التغير المناخي واستهلاك النفط. حيث ستتأثر صناعة النفط بشدة بالتدابير التشريعية في إزالة الكربون العميق التي سيتم تبنيها.
• تدخل أوبك في الأسواق وموثوقية النفط: إن حتمية وجود صناع للسوق، من غير المشاركين فيه، أمر واقع وإلا لشهدنا مزيدا من الصدمات السعرية، على الرغم مما ينادي الاقتصاديون الليبراليون به من مبدأ “السوق الحرة” للنفط والذين يرون بقدرة السوق الذاتية على اكتشاف السعر العادل. كنتيجة لذلك، يقوم كبار المستهلكين بسن جملة من التشريعات والسياسات التي توجه سياسات الاستهلاك، وفي الطرف المقابل يقوم كبار المنتجون بتنسيق سياسات الإنتاج على المدى القريب والاستثمار للمحافظة على استقرار أسواق النفط على المدى البعيد.
• عدم مهنية الاعلام: يعتمد متداولو اسواق النفط في تعاملاتهم على تصوراتهم المستقبلية للعرض والطلب. بغض النظر عن ديناميكية الطاقة العالمية الحالية، من المهم أن نتذكر أن متداولي العقود الآجلة يتاجرون بالنفط في المستقبل. أي انهم مهتمين بقيمة النفط في المستقبل. في سياق متصل، التغطية الإخبارية والتحليلات والتوقعات قد تكون صدمات غير متوقعة تؤثر على أسواق النفط في الفترة الحالية على الرغم من أنها قد تستغرق بعض الوقت حتى تتحقق. فإذا أحدثت صدمة كبيرة غير متوقعة لسعر النفط الفوري، فسوف يدخل عدد أكبر من المضاربين إلى السوق، لأن زيادة عدم اليقين تؤدي الى تعظم ارباحهم. يشير الارتباط بين الأخبار وصدمات عدم اليقين في أسعار النفط إلى أنه عندما تضرب صدمات عدم اليقين أسعار النفط سوق النفط، تتكيف السعار الفورية مع التوقعات في المدى المتوسط.
• توسع الفجوات المعلوماتية: قد تؤدي الفجوات المعلوماتية إلى إحداث صدمات في أسعار النفط وصدمات العرض و/أو الطلب، خاصةً خلال فترات ارتفاع معدلات المخاطر وعدم اليقين. في مثل هذا السياق، يمكن أن تكون التوقعات محركًا رئيسيًا لتحركات أسعار النفط ويمكن أن يختلف تأثيرها بمرور الوقت. كموجات من التفاؤل والتشاؤم تدفع الاقتصاد العالمي، وهو المحرك الرئيسي لأسعار النفط، وبالتالي يؤدي الى زيادة أو نقص الاستثمار. ومن ثم، فإن التحولات في التوقعات، سواء كان ذلك جزئيًا بسبب التغيرات في الأساسيات أو جزئيًا بسبب الأخطاء في التوقعات، هي مصدر لتقلب الاسعار الشديد. علاوة على ذلك، قد لا تحدث التحولات في التوقعات بسبب “الصدمات الإخبارية” حول الحالة المستقبلية للاقتصاد ولكن بسبب عدم قدرة المتداولين على استيعاب المعلومات.
هنالك مسوغات كثيرة تحتم الحاجة لاستراتيجية إعلامية نفطية عصرية، ومنها:
• التأقلم مع مرحلة مختلفة بفوز بايدن ومؤتمر المناخ القادم: إن تكوين اجماع في مؤتمر المناخ القادم في جلاسكو الاسكوتلندية على تنفيذ الحياد الكربوني سيكون مصدر قلق كبير إذا لم تستطع صناعة النفط استحداث نموذج اعمال جديد يقوم بفصل الانبعاثات الكربونية عن استهلاكه. مازالت وسائل الاعلام تشكك بان تكون صناعة النفط قادرة على هذا الاستحداث، وهو ما يؤثر على موثوقيته. لا بد من للاستراتيجية الإعلامية العتيدة أن تؤكد قدرة الصناعة على استخدام الابتكار التكنولوجي لاستحداث نموذج اعمال جديد لاستهلاك النفط قادر على فصل استهلاكه من الانبعاثات.
• مقاومة هجوم الاطراف الاخرى الشرس وخصوصا الرأسمالية الخضراء: لا بد من أن تكون الاستراتيجية الإعلامية مقاومة للهجوم الشرس من لأطراف الأخرى، بالانتقال من الدفاع للهجوم باستيعاب النزعات التحيزية فيها. يسعى اللاعبون الساعون في اجنداتهم في السوق النفطية إلى التأثير على السياسات واللوائح عبر قناتين وهما: وسائل الإعلام المختلفة والضغط المباشر والمنظم على صانعي السياسات. فخصوم الصناعة النفطية يستثمرون بشكل مكثف وكبير جهودهم في استخدام وسائل الإعلام بأشكالها المتنوعة التقليدية والحديثة، لتوجيه الرأي العام والتأثير على العواطف لتشويه صورة الصناعة النفطية. إن الآلية التي يتم بها التأثير هي عن طريق تسييس الرأي العام والذي بدوره يحفز عملية توجيه السياسات في مسار معني ومن ثم التأثير على صانعي السياسات. فقد اختطفت الرأسمالية الخضراء الخطاب الاعلامي لقضية تغير المناخ من الفصل بين كل من الانبعاثات والاقتصاد إلى عدمية الوقود الأحفوري. من خلال منصاتهم الكثيرة وجماهيرهم المتحمسة، يتمتعون بميزة في نشر تفسيراتهم لتغير المناخ عن طريق تحويل المناقشة لصالح الرأسمالية الخضراء.
• عكس التراكم السلبي حول قضايا النفط: أن الحل الأمثل لعكس التراكم السلبي حول قضايا النفط يكمن في وضع استراتيجية تعبويه في وسائل الاعلام لتصحيح الصورة النمطية السلبية عن صناعة النفط، ضمن إطار الاستراتيجية النفطية.
• لا بد من استيعاب رؤية اعلامية جديدة لجيل مختلف (فجوة بين الأجيال) يصعب الوصول إليه بشكل متزايد عن طريق وسائل التواصل الاعلامي. العمل على ملئ الفضاء المعلوماتي في الشبكة العنكبوتية، سوف يعزز فرصة صناعة النفط في إحداث تغير جوهري في الرأي العام تجاهها. إن ترك الفضاء المعلوماتي لمعاديها ليملؤوها، سيؤثر على الأجيال الجديدة، وهم أكثر استخداما له وأكثر تأثرا في نفس الوقت، وسيكون التغير والإقناع في المستقبل أصعب حينها، فلا بد من مجابهة استراتيجيتهم هذه بأخرى مضادة، من خلال العمل على تزويد الفضاء المعلوماتي بالمعلومات الإيجابية عن صناعة النفط.
• لا بد كذلك من التصدي مقاومة الاثارة الإعلامية المغرضة ومقاومة الاخبار غير الاحترافي.
وختاما، لا بد من أن تأخذ صناعة النفط المبادرة من أعدائها الاستراتيجيين، فبقائها في موقف المتلقي يكلفها أكثر. يجب على صناعة النفط التعلم من الماضي لمجابهة هذه القضايا في الحاضر والمستقبل باستباق المرجفين بها باستخدام الأطر العلمية المناسبة للجمهور، في مراحل التعليم أو في وسائل الإعلام، لتكون أكثر حصانة ضد التشكيك بموثوقية صناعة النفط، كتأثير التكنولوجيا على كل من تكلفة الإنتاج والجيولوجيا والبيئة، و كذلك ملئ الفضاء المعرفي في وسائل الإعلام والإنترنت بالشئون العلمية المناسبة للجمهور عن النفط، فالجيل الجديد أكثر ميلا لتصفح الإنترنت والتشارك في الآراء في وسائل الإعلام الاجتماعي وبالتالي الاستماع لجهات متعددة.
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال