الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
عند التفضيل بين المصالح، يتمُّ تفضيل المصلحة العامة دوماً؛ والسبب هو أنَّها المنفعة الأجدر بالحماية فهي تُمثِّل منفعة الدولة بما يخدم كامل شعبها، وليس المصلحة الشخصية.
إلاَّ أنَّ تفضيل المصلحة العامة يُعتبر مسألةً حساسةً، فهذا التفضيل يَنالُ من حقِّ الملكية الفردية، ذلك الحقُّ المُصَاْنُ من الدولة ذاتها التي تحاول إدارتها نزع الملكية للمصلحة العامة.
بالتالي، يوجد في هذه النقطة تناقضٌ ظاهرٌ يتمثَّل في حماية الملكية الفردية ونزعها في ذات الوقت، لكن هذا التناقض ينتهي بمجرَّد التأكُّد من أنَّ الملكية الفردية تَقِفُ في وجه المصلحة العامة، وفي هذه الحدود الدقيقة فقط، يحقُّ لجهة الإدارة أن تنزع ملكية الأفراد في مقابل التعويض.
وفي إحدى الدعاوي المُميَّزة، قامت إدارة الطرق بمنطقة عسير بمدِّ طريق أبها-محايل، في الوقت الذي كانت أرض زرع تقف في وجه الطريق، وقد قدمت منطقة عسير التعويض لمالك الأرض بعد نزع ملكيتها للمصلحة العامة.
ولكن الإشكالية ظهرت عندما تفاجأ المالك بأنَّ إدارة الطرق بمنطقة عسير قد استحوذت على مساحة أكبر من المساحة التي دفعت عنها التعويض، والسبب أنَّ مقاول مشروع الطريق أقام ردميَّاتٍ تجاوزت بكثير المساحة المُعوَّض عنها.
ولذلك، فقد أقام مالك الأرض دعواه أمام محاكم عسير رقم 28/4/ق 1413هـ، وكان على المحكمة البحث في موضوع الدعوى، وسألت إدارة الطرق المذكورة عن الجزء الزائد عن التعويض، فأجابت الإدارة بأنَّها دفعت للمالك مبلغاً وقدره 695.000 ألف ريال في مقابل الجزء المستقطع من الأرض وفق رفع مساحي للمساحة المستقطعة لصالح أملاك الدولة، وأنَّ المالك قد وقَّع على إقرار بالاستلام، وأنَّه لا توجد أيَّة ردميَّات كما يدَّعي المالك.
وفي تبريرها للمساحة الزائدة التي يدَّعيها المالك، قالت إدارة الطرق بأنَّ المالك قد قام بتعديل على أجزاءٍ من الحدِّ الجنوبي لمزرعته وغيَّر حدود حجَّته حتى يتداخل ملكه مرَّة أخرى مع الطريق العام، وحتى يُطالب بالتعويض مرةً أخرى.
وهنا لجأت المحكمة للخبرة، وطلبت تقريراً من مساح محكمة عسير، وأصدر تقريره بالتأكيد على وجود الردميَّات، ورغم ذلك استمرت إدارة الطرق بادِّعاء أنَّ المالك قد غيَّر من حدود أرضه، بينما طالب المالك بالتعويض عن الجزء الزائد عن المصلحة العامة الذي استحوذت عليه الإدارة أو إزالة الردميَّات وتسليمه هذا الجزء سليماً من الشوائب.
فلم تجدْ المحكمة حلاًّ سوى الطلب من المساح وأعضاء هيئة النظر لحصر الزيادة في الملكية المُنتَزَعَة، وهكذا تبيَّن بالدليل الحسابي أنَّ الإدارة قد انتزعت أرضاً مساحتها 942 متراً مربعاً مع مساحة الردميات، في حين أنَّ الإدارة قد عوَّضت المالك عن 655 متراً مربعاً فقط.
بناءً عليه، طالبت المحكمة إدارة الطرق بمنطقة عسير بإثبات قيام المالك بتغيير حدود مزرعته كما ادَّعت، لكن الإدارة عجزت عن تقديم الدليل، وهكذا صدر حكم المحكمة الأول بإلزام وزارة المواصلات (النقل حاليا)
بتعويض المالك عن 287 متراً مربعاً إذا أرادت قطعة الأرض الزائدة هذه أو ردَّها للمالك خالية من الشوائب.
لكن هيئة التدقيق الأولى نقضت هذا الحكم على أساس أنَّ المحكمة لم تُحدِّد المساحة المطلوبة من الأرض لمدِّ الطريق للمصلحة العامة، ولم تُحدِّد إن كان هذا الجزء الزائد من مستلزمات الطريق أم لا.
ولذلك، قامت هيئة النظر في المحكمة بالردِّ بأنَّ المساحة الزائدة نتجت عن ردميَّات مقاول الطريق، وليست من أعمال المالك كما زعمت إدارة الطرقات، وأنَّ هذه المساحة هي من مستلزمات الطريق.
لكن هيئة التدقيق الثانية نقضت الحكم مرةً أخرى، هذه المرة على أساس أنَّ كلام هيئة النظر ليس الحاسم في تحديد مستلزمات الطريق والمنفعة العامة بل الرسوم والمخطَّطات الأساسية للطريق كما وضعتها إدارة الطرقات، وأنَّ المحكمة أخطأت بإلزام وزارة المواصلات بالتعويض عن جزءٍ لم تتأكَّدْ إن كان داخلاً في الطريق العام أم لا من خلال مراجعة تلك المخطَّطات.
وهنا، قامت المحكمة بالاستماع لإدارة الطرقات بمنطقة عسير التي أقرَّت أمام المحكمة بأنَّ مساحة الطريق المطلوبة هي 655 متراً مربعاً فقط، إلاَّ أنَّ الإدارة امتنعت عن تسليم مخطَّطات ورسومات الطريق عندما طلبتها المحكمة، حيث لم يحضرْ مُمثِّلها جلسة التسليم.
بناءً عليه، حكمت المحكمة بإلزام وزارة المواصلات بتسليم المالك الجزء الزائد عن المصلحة العامة خالياً من الشوائب، وقد أيَّدت هيئة التدقيق هذا الحكم بحكمها رقم 132/ت/1 لعام 1417هـ مع تعديل الحكم الأصلي حتى يُصبِحَ إلزام الوزارة بإزالة الردميَّات من الأرض.
ومن خلال هذه الدعوى، يتبيَّن لنا أنَّ:
نزع الملكية للمنفعة العامة ليس غامضاً، بل يجب أن يكون مُحدَّداً ضمن مساحةٍ دقيقةٍ لا يجوز تجاوزها.
تجاوز حدود الأرض المنزوعة بسبب أعمال المقاولات لا يعفي جهة الإدارة من ردِّ التجاوزات بعد إزالة الشوائب.
الزعم بسوء نية المالك يجب أن يُرافقه تقديم الدليل من الإدارة، فالطرفان متساويان أمام المحكمة.
ادِّعاءات جهة الإدارة يجب أن تكون موثقةً بالدليل أمام القضاء، أمَّا الكلام المرسل فلا يتعدُّ به حتى وإن كان القائل ممثلُ جهةٍ إداريةٍ حكوميةٍ.
إلزام الإدارة بالتعويض للمصلحة العامة ينحصر في احتياجاتها الموثَّقة بالمخطَّطات والرسومات، أما التعديات الإضافية منها فيجب عليها إصلاحها.
إقرار مُمثِّل جهة الإدارة أمام القضاء يُعتبرُ من وسائل الإثبات.
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال