الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
وقاية الاقتصاد العالمي من أزمات “الفقاعات الماليِّة”، وتجنُّب آثارها المدمِّرة لم يحظيا باهتمام الاقتصاديِّين والمؤسِّسات المعنيَّة مع مَّا أفرزته من تحدِّيات اقتصاديَّة واجتماعيَّة. فخلال العقود التسعة المنصرمة، تعرَّض الاقتصاد العالمي لسلسلة من صدمات الركود والانكماش الاقتصاديِّين جراء الازمات المالية المتعاقبة ،عانت من تداعياتهما الاقتصاديَّات الوطنيَّة، وأسفرا عن خسائر اقتصاديَّة واجتماعيَّة هائلة.
لقد أخفق هيكل الاقتصادي العالمي الراهن في تطوير منظومة قادرة على الصمود إزاء كوارث الأسواق الماليَّة وأزماتها، وعجز في حماية النظم الاقتصادية الوطنيَّة من تبعاتها التي ارتفعت وتيرتها، وتعاظمت تداعياتها الاقتصاديَّة والاجتماعيَّة المدمِّرة . النظام الحالي المعمول به غير مؤهَّل ولا قادر على تحقيق نموٍّ اقتصادي مستقرٍّ ومستدام خالٍ من الصدمات.
ضعف مقاومة الاقتصاد العالمي من تأثيرات “الفقاعات الماليَّة” يُعزى لجُملة من العوامل، أهمُّها: الانفتاح الاقتصادي والمالي الواسع، والتداخل الاقتصادي والتجاري المتشابك بين الدول . والترابط الافقي والعميق بين الأسواق والمؤسَّسات الماليَّة عبر القارَّات الذي أسهم التطوُّر الكبير في وسائل الاتِّصالات والتقنيات الرقميَّة في تعزيزها. يُضاف إلى ذلك عوامل بنيويَّة واختلالات هيكليَّة مزمنة عديدة أُخرى.
ثمَّة علاقة سببيَّة متينة بين أزمات الأسواق الماليَّة والصدمات الاقتصاديَّة. جميع حالات تراجع النموِّ الاقتصادي التي شهدها الاقتصاد العالمي منذ “الكساد العظيم”، باستثناء حالة الانكماش الراهن، تعود مصادرها الى أزمات الأسواق الماليَّة. الجدير بالإشارة، أنَّ الأزمات الماليَّة الأكثر خطورة وتأثيرًا في الاقتصاد العالمي، وُلِدَت من رَحِمِ الاقتصاد الأمريكي الذي يشكّل نموُّه أحد أهمِّ محرِّكات الاقتصاد العالمي. ولكونه يمثِّل أيضًا الميدان الأهم للاستثمارات الأجنبيَّة؛ واستثمارت دول الفائض المالي خاصَّةً.
لقد كشفت تجارب العقود المنصرمة حالة الإخفاق الشديد في إدارة توازن الأسواق الماليَّة واستقرارها، وعجز المؤسَّسات الماليَّة عن تأسيس نظام مالي منضبط، ومعالجة جذور أسباب الاختلالات الهيكليَّة المزمنة. لن نتوسَّع في هذه المشاركة في سرد تفاصيل الأزمات الماليَّة العالميَّة وتحليل أسبابها، لكنَّنا نورد أهمَّ مسبِّباتها التي يمكن إيجازها بالآتي:
ا. خلل في آليَّات إصدار الأصول الماليَّة وقواعد إصدارها، والتوسُّع في المشتقَّات الماليَّة، وتوليد أصول ماليَّة مستندة على أصل واحد ؛ “الانشطار المالي “.
ب. القرارات المصرفيَّة الخاطئة، والتوسُّع غير المنضبط في القروض الاقل جودة ، والإقراض غير المشروط.
ت. تراكم إخفاق السياسات الماليَّة والنقديَّة، وعدم توفُّر قواعد تنظِّم آليات الإقراض والاقتراض وفق معايير اقتصاديَّة وماليَّة شفَّافة .
ث. ضعف الرقابة الفعَّالة على أداء المؤسَّسات الماليَّة وسلوكيَّة إدارتها وتصرُّفات المدراء التنفيذيِّين. إلى جانب أخطاء في نظام حوافز الإدارات العليا، وعدم تحمُّلها مسؤوليَّة أخطائها الكارثيَّة.
ج. سياسات مؤسَّسات التصنيف الائتماني ومبالغتها في تقييم الأصول الماليَّة والماديَّة.
ح. الإفراط في التفاؤل، والتوسُّع الائتماني السريع من العديد من البنوك.
خ. تداخل الأهداف السياسيَّة والماليَّة ، وتوظيف الأسواق الماليَّة لخدمة مصالح سياسيَّة وانتخابيَّة.
لقد تسبَّبت أزمات الأسواق الماليَّة المتعاقبة في حدوث تصدُّعات واسعة في جدران الاقتصاد العالمي، وعطَّلت نموَّ الكثير من المجتمعات، وأفرزت كمًّا هائلًا من المعاناة البشريَّة. كما أسفرت عن تآكلٍ هائل في ثروات الأفراد ودخولهم، وعن معدَّلات بطالة قياسيَّة، وتدهور في الإنتاج.
” انفجار الفقاعات الماليَّة ” أدَّى إلى سلسلة من الارتدادات السلبيَّة أسفرت عن تدهور قيمة الاستثمارات في الأسواق الماليَّة والبنوك العالميَّة، وانخفاض اقيام أصول الصناديق السياديَّة واستثمارتها، وتراجع الاستثمارات الأجنبيَّة في الاقتصاديَّات الناشئة ، وهجرتها المعاكسة إلى البلد المصدر” الأم”. كما اثرت بحدة في أسعار المواد الأوليَّة والنفط خاصَّة، وهزت ثقة المستهلكين والمستثمرين وتوقُّعاتهم المستقبليَّة، وخفضت بنسب كبيرة قيمة الأصول العقاريَّة في دول عدَّة، وأعاقت مشاريع التنمية الاقتصاديَّة والاجتماعيَّة. هذه العوامل السلبيَّة مجتمعة، أدَّت إلى انخفاض حادٍّ في الطلب الكلِّي على السلع والخدمات، وتراجع الناتج المحلِّي الإجمالي لغالبيَّة الاقتصاديَّات الوطنيَّة.
هل يمكن وقاية الاقتصاد العالمي، وتحصين الاقتصاديَّات الوطنية، من تداعيات أزمات الأسواق الماليَّة و”فقاعاتها”؟
إيجاد نظام وقاية مطلقة ، وبناء جدار حماية كاملة من أزمات الأسواق الماليَّة ربَّما يعدُ أمرا مستحيلًا. لذلك، حريٌّ بالاستراتيجيَّة البديلة؛ “الخيار الأفضل الثاني” أن تركِّز على آليات تقليل آثار الأزمات وتجنُّب تكرارها. أسباب الأزمات الماليَّة السابقة – كما سبق ذكرها- مرتبطة بالاختلالات الهيكليَّة للنظامين الاقتصادي والمالي العالمي، ونتاج العلاقات المختلَّة بين القوى الاقتصاديَّة الكبرى ومصالحها المتضاربة. تقليل آثار الأزمات الماليَّة بستوجب إيجاد حلول متوازنة ودائميَّة لمسبِّباتها المشار إليها أعلاه.
بقدر تعلق الامر في حماية الاقتصاديَّات الوطنيَّة؛ الناشئة منها خاصَّة، فخياراتها في ظلِّ ضعف هياكلها الاقتصاديَّة، وتدنِّي أداء أسواقها الماليَّة وتبعيَّتها للأسواق الماليَّة العالميَّة وحركة رأس المال الأجنبي محدودة جدًّا.
تقليل أثر الأزمات الماليَّة الخارجيَّة مرتبط بقدرة الدول على حلِّ اختلالاتها الاقتصاديَّة الهيكليَّة وتطوير أسواقها الماليَّة، وضرورة رفع كفاءة النظم الماليَّة الوطنيَّة وفعاليَّتها من خلال تبنِّي معايير القدرة على الاستمراريَّة وبناء اقتصاد مضاد للصدمات الخارجيَّة.
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال