الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
نشأت فكرة ميزانية الدولة بالأساس من فكرة توقُّع مسار الأحداث الاقتصادية لعامٍ كاملٍ قادمٍ، وتخصيص الموارد الكافية لكلِّ نفقاتٍ مُتوقَّعةٍ، وتُعتبرُ مهمَّة وضع الميزانية من المهام الصعبة والحسَّاسة على مستقبل الدولة؛ فهي تحتاج إلى خبرةٍ وحسن تقديرٍ لمجرى الأحداث الاقتصادية على المدى القصير.
هذا إن كانت الظروف التي تمرُّ بها الدولة ومحيطها الإقليمي والعالمي طبيعيةً، أمَّا إذا كانت الظروف مُرتَبِطَةً بعواملٍ سلبيةٍ طارئةٍ شديدة التأثير مثل أزمة كورونا 2020، فإنَّ مهمَّة وضع الميزانية العامة للدولة قد تكون مهمَّةً شبهَ مستحيلةٍ.
والسبب أنَّ مفرزات الواقع المُرتَبِطَةِ بشكلٍ مباشرٍ وجوهريٍّ بالموارد والنفقات تَتَغيَّرُ بشكلٍ يوميٍّ ومُفاجئٍ، دون إمكانية توقُّعها من جهة، ودون إمكانية تحديد ردَّة فعلٍ استباقيةٍ لها من جهة أخرى.
وعلى الرغم من كلِّ هذه الظروف الصعبة، فلا بدَّ للدولة من وضع ميزانية للعام المالي القادم 2021، هذا مع الإشارة إلى أنَّ مسار أزمة كورونا الذي بدأ يتَّضح بعد انحسار الفيروس في الصيف، عاد هذا المسار إلى حركةٍ سلبيةٍ مُخيفةٍ وغير مسبوقةٍ بعد انتشار الموجة الثانية من الفيروس في خريف 2020، الأمر الذي أعاد فرض القيود على الحركة؛ ممَّا سبَّب تباطؤاً جديداً -إن لم نقلْ شللاً- في الاقتصاد الدولي وحركة الصناعة والطلب على النفط.
فعلى الرغم من انتشار اللقاحات الواعدة للفيروس، إلاَّ أنَّ مسألة التحفير الاقتصادي العالمي وتشجيع الطلب على النفط تحتاج إلى أثرٍ إيجابيٍّ فوريٍّ، هذا الأثر يقتصر اليوم على التوقُّعات في ظلِّ حاجة اللقاحات لوقتٍ ليس بالقصير حتى تنتشر حول العالم، حيث إنَّ أثرها في نشر مناعةٍ كافيةٍ لن يظهر قبل فترةٍ كافيةٍ حتى تعود الأمور إلى نصابها الطبيعي قبل ظهور هذا الفيروس التنفُّسي شديد العدوى.
في ظلِّ كل هذه الضبابية في الرؤية، تأتي ميزانية المملكة 2021 بشكل توقُّعاتٍ لحركة الاقتصاد السعودي الذي ما فتئ يتعافى من صدمة الموجة الأولى لفيروس كورونا.
لكن ما تأمله ميزانية 2021 هو استمرار انتشار حالة التفاؤل الإيجابية في سوق الطلب على النفط مع انتشار التلقيح، كما أنَّ هذه التوقُّعات الإيجابية ستدعم باقي القطاعات غير النفطية التي تعمل عليها الدولة في الطريق إلى رؤية 2030.
وحتى نأخذ المشهد بمجمله، علينا النظر بالأساس إلى الإيرادات والنفقات (نشرة وزارة المالية عن الميزانية العامة 2021 في 16 ديسمبر 2020)؛
الإيرادات الفعلية ستنخفض من 927 مليار ريال في 2019، إلى 770 مع نهاية 2020؛ أي أنَّ قيمة تعمُّق الخسارة المتوقَّعة في الإيرادات تبلغ 157 مليار ريال، وهو ما يُوضِّح الأثر الجوهري لأزمة كورونا على الاقتصاد السعودي.
لكن الميزانية تتوقَّع ارتفاع الإيرادات إلى 849 مليار ريال في 2021.
أمَّا النفقات الفعلية في 2019 فقد بلغت 1059 مليار ريال، فيما يتوقع أن تبلغ مع نهاية 2020 مبلغ 1020 مليار ريال، أي بانخفاضٍ مقداره 39 مليار فقط، وهو انخفاضٌ أقلُ بكثيرٍ من انخفاض الإيرادات، حيث كان يجب أن تنخفض النفقات بأربعة أضعاف الانخفاض الذي حقَّقته حتى تتوازى مع انخفاض الإيرادات.
في حين تتوقَّع ميزانية 2021 انخفاض النفقات إلى حدود مبلغ 990 مليار ريال.
وبالنسبة للعجز، فإنَّ ما سينتهي إليه العام المالي 2020 من عجز في الميزانية يصل إلى 298 مليار ريال، بالمقارنة مع 133 مليار ريال عام 2019؛ أي أنَّ عجز الميزانية سيبلغ أكثر من الضعف بسبب آثار أزمة كورونا.
وبالمحصَّلة، إذا أردنا الحلول التقليدية لهذا الوضع المالي الصعب، فإنَّ من واجب الوزارات تخفيض نفقاتها مع ضرورة العمل على تحفيز القطاع النفطي ودعم الموارد غير النفطية بشكلٍ يُعيدُ التوازن للميزانية، الأمر الكفيل بتخفيض العجز وحتى إعادة الربحية للميزانية.
لكن الحلول الحقيقية المنطقية لهذه الوضعية هو إدراك جميع المواطنين والوافدين لأهمية وخطورة فيروس كورونا، وأنَّ مفتاح الخلاص من الأزمة المالية المُرَافِقَة له، ليس في إجراءات التحفيز الاقتصادي وعودة أسعار النفط للارتفاع، بل في الوعي المجتمعي والتصدِّي لانتشار العدوى والعودة بحذرٍ إلى الحياة الاجتماعية الطبيعية.
إذا تحقَّقت هذه الرؤية الواعية للمجتمع السعودي، فإنَّ القدرة على تحريك السيولة الاستثمارية الوطنية ستدفع عجلة الاقتصاد محلياً مع السيطرة الجزئية على الفيروس ثم الكلية عليه بعد نجاح عملية التلقيح إن شاء الله، وفي نفس الوقت ستجذب هذه الوضعية الإيجابية بقية دول العالم الراغبة بالعودة هي الأخرى إلى الاستثمار في قطاعات الاقتصاد السعودي.
هذه هي الحلول الحقيقية لمعالجة العجز في الميزانية العامة، فإنَّ الرهان هو على وعي المجتمع السعودي بالدرجة الأولى.
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال