الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
تشكل العلاقة ما بين الميزانية العامة السنوية والنمو الاقتصادي أهمية بالغة في اقتصاديات دول العالم بشكل عام و في اقتصاد المملكة بشكل خاص، إذ يأتي ذلك التأثير من جانبين، أحدهما من خلال الإيرادات والتي تأتي من تحصيل الضرائب بجميع أنواعها وكذلك الرسوم الإدارية ورسوم الخدمات إلى جانب الإيرادات النفطية بالنسبة للمملكة. ومن الناحية الأخرى يأتي هذا التأثير من خلال الإنفاق الجاري بجميع فئاته وكذلك من خلال الإنفاق الإستثماري على البنية التحتية والإجتماعية. إن نموذج النمو الإقتصادي الذي تم إقراره على مدار العقود الأربع الماضية في المملكة، والذي يمثل فيه إعتماد الميزانية العامة بشكل أساسي على الإيرادات النفطية يواجه العديد من التحديات التي لايزال إقتصاد المملكة يعاني منها، وأهمها عدم تحقيق نمو مستقر و مستدام، وذلك بسبب الحقائق المتمثلة في تقلبات أسعار النفط المرتبطة بتطورات الإقتصاد العالمي من ناحية وكذلك المخاطر الجيوسياسية العالمية والإقليمية من ناحية أخرى. وبالتالي، فإن إيجاد مسار مختلف لتحقيق إستدامة المالية العامة والاستقرار الاقتصادي يتطلب اكتشاف محفزات وسياسات جديدة.
وفي سبيل ضمان استدامة السياسة المالية وكذلك تحقيق نمو إقتصادي مستقر، قررت المملكة العربية السعودية أن تسلك اتجاهاً آخر في إدارتها للسياسة المالية، وهو الأمر الذي سوف يستغرق بالتأكيد عددًا من السنوات حتى يتجسد تأثيرها على أرض الواقع. وبناءً على ذلك، أعلنت المملكة في عام 2016 عن أحد أهم برامج رؤية 2030 وهو برنامج التوازن المالي 2020، واستهدفت الدولة أن تصل خلال هذه التواريخ إلى ميزانية متوازنة، حيث عُدل هذا البرنامج لاحقاً ليمتد حتى تاريخ 2023. وقد جاء من ضمن التدابير لهذا البرنامج في البداية تخفيف الضغط على الموازنة العامة إذ قامت الحكومة ما بين 2017 و 2018 بإدخال إصلاحات على أسعار الطاقة، حيث تم خفض الدعم الذي شمل أيضاً أسعار الوقود. وبالإضافة إلى ذلك، قامت الحكومة بفرض رسوم العمالة الأجنبية، والضرائب على الأراضي البيضاء، وضريبة القيمة المضافة التي رفعت مرة أخرى في يوليو 2020 إلى 15%. وهذه الإجراءات لا شك أنها تمثل تحولاً جوهريًا في إدارة السياسات الاقتصادية والاجتماعية في المملكة.
واستشرافاً للمستقبل، لا شك في أن ترشيد الطلب المحلي على الوقود الذي كان ينمو بوتيرة عالية سوف يضمن قدرة المملكة في الحفاظ على مكانتها كمصدر رائد لتصدير النفط، في الوقت الذي تتقدم فيه نحو تحقيق الإستدامة المالية من ناحية إلى جانب تنويع الإقتصاد وذلك من خلال برامج الرؤية الأخرى. وتطمح المملكة العربية السعودية من خلال برنامجها لتحقيق التوازن المالي وكذلك برنامج التحول الوطني 2020 إلى مستقبل لا يعتمد فيه نموها الإقتصادي على عائدات النفط والإنفاق الحكومي فحسب، وإنما يعتمد أيضًا على نموذج جديد لتمويل البنية التحتية على أساس الشراكة بين القطاعين العام والخاص، وتخصيص المؤسسات الحكومية المنتجة، وكذلك على إستقطاب التقنية و زيادة الصادرات غير النفطية.
بيد إن أزمة كورونا قد فرضت واقعاجديداً، ليس في جانب إنخفاض الطلب على النفط فحسب وبالتالي التراجع الحاد في الأسعار منذ بداية شهر أبريل 2020، نتيجة القيود على حركة السفر وفرض الإغلاقات العامة وإجراءات التباعد الإجتماعي وإنعكاساتها على النشاط الاقتصادي للحد من إنتشار وباء كورونا، بل و في التحول السريع في استخدامات التقنية في جميع الأنشطة الاقتصادية وتأثيراتها العميقة في خفض استهلاك النفط والتي سوف تستمر حتى بعد إنتهاء أزمة كورونا. أنه وبعد أن هبط الطلب العالمي على النفط وتراجعت أسعار النفط إلى أدنى مستوى لها خلال أبريل ليصل سعر البرميل إلى 19 دولار للبرميل، تمكنت دول أوبك بالتوصل مع منتجين خارج المجموعة في مايو إلى إتفاق بخفض الإنتاج بنحو 10 مليون برميل يومياً. وقد ساهم هذا الإتفاق في التحسن التدريجي للأسعار، غير أن أسعار النفط لازالت تواصل التذبذب حتى الربع الأخير من العام الحالي، رغم حالة التفاؤل مؤخراً حول فعالية لقاحات كورونا، وقاربت الأسعار الفورية لخام برنت إلى مستوى 50 دولار للبرميل، حيث من المتوقع أن يبلغ متوسط السعر خلال هذا العام نحو 42 دولار للبرميل.
وقد عاود الطلب العالمي على النفط في التحسن البطيء خلال الربع الأخير من عام 2020، حيث تبدو أن أساسيات سوق النفط أخذةً في الإنتعاش بفضل ارتفاع الطلب في الأسواق الناشئة، وخصوصاً في الصين التي يتوقع أن تشكل ثلث نمو الطلب العالمي على النفط في عام 2021. أما على صعيد العرض، فقد أخذت وطأة مقيدات جانب العرض تنخفض بوتيرة متدرجة خلال الشهور الماضية وهو ما دعا مجموعة أوبك وحلفائها الإتفاق على زيادة الإنتاج بمقدار 0.5 مليون برميل يومياً إبتداءً من يناير 2021، والذي يمثل أول تعديل على الإتفاق السابق على خفض الإنتاج في شهر مايو 2020. وبناء على ذلك، من المتوقع أن يرتفع متوسط إنتاج المملكة من النفط بمقدار 1.2% في عام 2021، ليبلغ 9.3 مليون برميل يومياً.
لقد أدت أزمة كورونا وما تبعها من إقفال حركة النشاط الاقتصادي إلى انخفاض أسعار النفط وقيام المملكة بتخفيض إنتاجها من النفط الخام بعد إتفاق أوبك+ وبالتالي إلى تراجع الإيرادات النفطية بنحو 31% على أساس سنوي لتبلغ 412 مليار ريال في عام 2020. وقد كان هذا هو السبب الرئيسي في تراجع إجمالي الإيرادات بنسبة 8% عن تقديرات ميزانية 2020 لتبلغ 770 مليار ريال، رغم زيادة الإيرادات غير النفطية بنسبة 7.8% لتبلغ 358 مليار ريال، لتشكل 46% من إجمالي الإيرادات، وهو أعلى مستوى تحققه المملكة في إيراداتها الغير نفطية. ونظراً للإنعكاسات الإقتصادية السلبية التي فرضتها جائحة كورونا فقد إتخذت الحكومة عدداً من التدابير المالية لدعم القطاع الخاص إلى جانب تخصيص موارد مالية إضافية لأغراض الرعاية الصحية، مما أدى إلى إرتفاع إجمالي النفقات الفعلية بنسبة 5% عن تقديرات الميزانية لتبلغ 1.07 تريليون ريال، و قد أدى ذلك إلى إرتفاع عجز الميزانية إلى 298 مليار ريال (أو 12% من الناتج المحلي الإجمالي)، مقارنة بتقديرات الميزانية 2020 بنحو 187 مليار ريال.
وفي حين أن هذا العجز يمثل سادس سنة على التوالي منذ عام 2015، فقد تسببت هذه العجوزات المستمرة في زيادة الدين العام الذي يقدر بنحو 854 مليار ريال بنهاية العام الحالي. وتبعاً لتراجع إجمالي الصادرات السلعية والخدمية فقد سجل ميزان الحساب الجاري عجزاً كبيراً بلغ 67.42 مليار ريال في الربع الثاني للعام 2020 مقارنة بفائض قدره 8.34 مليار ريال في الربع السابق، و فائض قدره 42.86 مليار ريال في الربع الثاني للعام 2019. وقد ساهمت هذه الأوضاع إلى جانب تحويل ما مقداره 150 مليار ريال إلى صندوق الإستثمارات العامة في تراجع صافي الأصول الأجنبية التي تخضع لإدارة البنك المركزي السعودي بنهاية أكتوبر 2020 بحوالي 8.5% إلى 442 مليار دولار .
ورغم التحسن المتوقع في أسعار النفط وكذلك إرتفاع الإيرادات النفطية في عام 2021، إلا أن الميزان المالي سوف يستمر في تحقيق عجز يقدر أن يبلغ 5.2% من الناتج المحلي الإجمالي أو 141 مليار ريال، ويتوقع أن يرتفع الدين العام إلى 937 مليار ريال و ما يعادل 33% من إجمالي الناتج المحلي الإجمالي، كما جاء في بيان الميزانية للعام 2021. وإستناداً على التوقعات بأن يبلغ متوسط سعر النفط العربي الخفيف للسنة القادمة عند مستوى 50 دولار للبرميل، فإن ذلك سوف يؤدي إلى ارتفاع الإيرادات النفطية إلى 490 مليار ريال، أي أعلى بحوالي 18% عن المستوى الفعلي في عام 2020. أيضاً من المتوقع أن ترتفع الإيرادات الضريبية بنسبة 31% لتصل إلى 257 مليار ريال بناءً على بيان المالية، مستفيدة من تأثير تطبيق ارتفاع ضريبة القيمة المضافة إلى 15% على طول العام. و تحسباً للتوجهات المستقبلية التي تكتنفها حالة عدم اليقين حول الإقتصاد العالمي وأسواق النفط، جاءت تقديرات النفقات في بيان الميزانية للعام 2021 بنحو 990 مليار ريال، أقل بنسبة 2.9% عن النفقات المقدرة في ميزانية 2020، وأقل بنسبة 7% من الإنفاق الفعلي والذي بلغ 1.07 تريليون ريال. غير أن غالبية الإنخفاض جاءت في الإنفاق الرأسمالي، والذي خصص له نحو 101 مليار ريال فقط مقارنة مع 137 مليار ريال في ميزانية عام 2020، حيث أوعزت الحكومة قرراها بهذا الخفض و بنسبة 26% إلى إرتفاع الإستثمار في البنية التحتية خلال السنوات الماضية.
و قد تسهم خطط الإستثمار التي أعلن عنها صندوق الإستثمارات العامة بنحو 150 مليار ريال سنوياً للعامين 2021 و 2022 في تعزيز الإنفاق الرأسمالي، الذي قد يعوض إنخفاض حصة الإنفاق الرأسمالي في ميزانية 2021 وبما يساهم في رفع الطلب المحلي على السلع والخدمات وزيادة النشاط الاقتصادي. غير أنه من الأهمية بمكان الإسراع بإصدار نظام التخصيص، وتفعيل العمل بمشروع هذا النظام الجديد الذي ينظم الشراكات بين الحكومة والقطاع الخاص، وبما يمهد لترسية مشاريع البنية التحتية مثل المطارات والموانئ وكذلك مشاريع البنية الاجتماعية مثل المدارس والمستشفيات والمقرات الحكومية إلى جانب جذب الإستثمارات الأجنبية في هذه القطاعات، وإعادة تركيز دور الحكومة على الأمور التشريعية والتنظيمية.
وإن العمل في هذا التوجه نحو التخصيص يستوجب السرعة للحد من التأثير السلبي من إنخفاض الإنفاق الرأسمالي على نشاط قطاع التشييد والبناء بشكل مباشر وعلى العديد من القطاعات الأخرى المترابطة معه، وبما يعزز وتيرة الإنتعاش الإقتصادي خصوصاً في عام 20121، والتي لا يزال القطاع الخاص يعاني فيها من تأثيرات الإجراءات الإحترازية والتباعد الإجتماعي خلال العام الحالي ومن إرتفاع ضريبة القيمة المضافة إلى 15% إبتداء من يوليو 2020، حيث تسببت هذه الأمور في انكماش الناتج المحلي للقطاع غير النفطي بنحو 8.2% على أساس سنوي في الربع الثاني و من ثم إنكماشه بنحو 2.1% على أساس سنوي في الربع الثالث 2020. وقد أنعكست هذه التطورات على سوق العمل حيث إرتفع معدل البطالة بين السعوديين من 11.8% في الربع الأول إلى 15.4% بنهاية الربع الثاني 2020، كما وأنه من غير المتوقع أن يكون قد انخفض معدل البطالة بشكل ملحوظ عن هذا المستوى خلال النصف الثاني من العام الحالي.
وفيما يتعلق بالإنفاق الجاري، فقد قدر بأن يتراجع بنسبة 5% عن العام السابق ليبلغ 889 مليار ريال في كما جاء في بيان المالية 2021 ، حيث إن نسبة الإنخفاض هذه تأتي ملائمة في ظل الظروف الحالية التي تفرضها تناقص الإيرادات النفطية مع بقاء أسعار النفط أقل بكثير من مستوى السعر الذي يحقق التوازن في الميزانية العامة، والذي يقارب نحو 65 دولار للبرميل وبفارق 15 دولار للبرميل عن المستوى المتوقع لسعر النفط بنحو 50 دولار للبرميل في عام 2021. غير أن هذا الإنخفاض في الإنفاق الجاري للقطاع الحكومي، وإن كانت نسبته محدودة عند 5% ، فإنه يأتي مع إرتفاع ضريبة القيمة المضافة من 5% إلى 15% إلى جانب إرتفاع الرسوم الجمركية، مما سوف تؤدي إلى تراجع الإنفاق الإستهلاكي الخاص على السلع والخدمات، الذي انكمش بنسبة 16% على أساس سنوي في الربع الثاني ومن ثم انكمش بنسبة 5.9% على أساس سنوي في الربع الثالث 2020، ولكنه شهد تحسناً على أساس ربعي إذ نما بنسبة 14% في الربع الثالث مقارنة مع الربع الثاني، مما يشير إلى بداية الإنتعاش التدريجي. وفي حين أنه من المتوقع أن يستمر النمو على أساس ربعي في إجمالي الإنفاق الاستهلاكي خلال عام 2021 مع عودة النشاط الإقتصادي، إلا أنه من غير المتوقع أن يتجاوز إجمالي الإنفاق الإستهلاكي إلى ما قبل جائحة كورونا للعام 2019. وهذا الأمر يستدعي أيضاً مرة أخرى التسريع بمشاريع التخصيص لتحفيز الإستثمار الخاص وبما يعوض تراجع الإنفاق الإستهلاكي الخاص في الطلب على السلع والخدمات نحو زيادة النمو الاقتصادي ومن ثم قيام الشركات بتوسيع أنشطتها وخلق فرص عمل جديدة لمواجهة تحديات البطالة
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال