الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
كانت زيارتي لدولة ماليزيا عام 2006 بهدف البحث عن فرصة جادة لإكمال دراسة درجة الماجستير في علم الإدارة، وقد لفت انتباهي آنذاك انتشار الأسواق الصينية “تشاينا تاونس” في المنطقة وجزرها، الأمر الذي ساهم بشكل مباشر في تحوير عملية البحث من دولة ماليزيا إلى جمهورية الصين الشعبية، الدولة الأكثر سكانًا في العالم. كما أن التغيرات التي حدثت في شرق اسيا مطلع الالفية الجديدة، شجعتني ايضا على اتخاذ القرار المفصلي في حياتي العلمية، وقد كانت مغامرة لا تنسى لشابان قادمان من الدلم (بالقرب من محافظة الخرج) لاكتشاف الصين واقتصادها وأسواقها وثقافتها.
ورغم صعوبة القرار فقد كنت على يقين ان رحلة الابتعاث هذه بمثابة رحلة العودة إلى المستقبل، وتجربة متعددة الابعاد خاصة مع قرار شقيقي لدخول تخصص الجراحة والطب البشري، ودراستي لمرحلة الماجستير في تخصص الإدارة والأعمال، وفي مدينة شنغهاي بلد المال والأعمال، وفي جامعة شنغهاي جياوتونغ، إحدى الجامعات البحثية الحكومية في الجمهورية، والتي تصدر التصنيف الأكاديمي العالمي للجامعات.
ففي ذلك الوقت كانت نسبة نمو الاقتصاد الصيني 10٪ سنوياً، ورغم قلة المراجع العربية التي تناقش حال الصين الحديث حينها، إلا أن لغتي الإنجليزية المتواضعة وقتها ساعدتني على قراءة البعض من تلك المراجع، وعلى فهم كيف أصبحت الصين مصنعاً للعالم؟ بل كيف أصبح كل شيء حولنا صنع في الصين، أجهزة الهواتف الذكية، التلفاز، شاشات العرض، الاضاءات والقائمة تطول، وقد يجيب أحدنا على هذا السؤال بالإجابة النمطية التي تقول: السبب “رخص الايدي العاملة”، وللأسف هذه الصورة الذهنية لدى بعضنا عن الصين ونمو اقتصادها، فنمو الصين لم يكن بسبب رخص الايدي او وفرتها، بدليل أن جارتها الهند تملك ارخص الايدي العاملة، لكن !
الحقيقة تقول ان الصين اتخذت عام 2000 سياسات جلب الاستثمارات الأجنبية وفتح المجال امام أكبر الشركات العالمية لفتح مصانعها داخل اراضيها، في الوقت ذاته ضاعفت الجهود لدفع الاستثمارات المحلية تجاه البنية التحتية والخدمات اللوجستية الداعمة، وتركيز الصناعات جغرافياً، كما وسهلت التعقيدات التشريعية على المصانع الأجنبية، وتحفيز عودة الطلبة الصينيين الدارسين في الخارج كأهم محور لدعم عجلة التنمية، ورفع المستوى الاقتصادي والقوة الشرائية. فالطبقة المتوسطة في الصين الان تربو على 800 مليون من إجمالي السكان، وقد باتت سوق خصب للصناعات من مراحل سلاسل الأمداد إلى المشاركة في حصص السوق، لاسيما أن الصين قد اطلقت منذ سنوات حملة ” صنع في الصين 2025″ التي تطمح من خلالها ان تجعل من الاقتصاد في العقود القادمة اكثر اعتماداً على التقنية العالية والصناعات المبتكرة والذكية.
واليوم متى ما أردنا اعادة قراءة المشهد الاقتصادي، نجد أننا نملك تجربتنا الخاصة، بداية من الإصلاحات الاقتصادية والقرارات التي اتخذتها القيادة مؤخراً، وكانت أحد أهمها – من وجهة نظري- تحويل الهيئة العامة للاستثمار إلى وزارة الاستثمار التي ستعمل بالتركيز على متطلبات المستثمرين، وهذا ما ذكره معالي وزير الاستثمار المهندس خالد الفالح مؤخراً خلال مشاركته في الجلسة الخامسة لملتقى الميزانية التي جاءت بعنوان : استدامة وتمكين الاستثمار في دعم الاقتصاد المحلي، “وزارة الاستثمار تعمل بموجب منهجية تقوم بالتركيز على احتياجات ومتطلبات المستثمر المحلي أكثر من أي وقت مضى، الأمر الذي سيعزز الخدمات والدعم اللذين يحتاجهما المستثمر المحلي، وستحرص على تكثيف وتسهيل الربط بين المستثمر المحلي والأجنبي”.
ومن نافلة القول حديثي هنا عن وزارة الاستثمار لا يقلل من سعي الهيئة العامة للاستثمار خلال الفترة السابقة وجهودها في استقطاب وتمكين الاستثمارات النوعية وفي قطاعات محددة، إذ عملت على متابعة وتقييم أداء الاستثمارات وذللت الصعاب التي واجهت المستثمرين، كما قدمت الدراسات والبحوث واقترحت العديد من الخطط التنفيذية بهدف تعزيز الاستثمارات داخل المملكة. وفي اعتقادي أن منصة “استثمر في السعودية” كانت من أهم إنجازات الهيئة العامة للاستثمار، إذ صدر وقتها أمر سام بأن تكون منصة “استثمر في السعودية” هوية وطنية موحدة لتسويق وجذب الاستثمارات؛ وتوحيد الرسائل التسويقية للقطاعات الاستثمارية المستهدفة.
وستواصل اليوم وزارة الاستثمار سعي هيئة الاستثمار من خلال تلك الهوية بالتعاون مع الجهات الحكومية ذات العلاقة لاستخدام “استثمر في السعودية” في جميع أعمالها المتعلقة بجذب وتسويق الفرص الاستثمارية، والعمل على إعداد محتوى ورسائل تسويقية ذات علاقة مباشرة بحسب اختصاص كل جهة، الأمر الذي سيساهم في تعزيز الدعم والتنوع في النمو الاقتصادي للمملكة، خصوصا في القطاعات المستهدفة.
وهنا أرى انها فرصة عظيمة أمام (السعودية العظمى) لمواصلة الجهود في التعليم الصناعي وتعزيز الشراكات الاستراتيجية مع هذا التوجه الصيني في ربط التعليم والتدريب بالصناعة التقنية الحديثة وانشاء منظومة تبادل تدريبي صناعي صيني سعودي، ومتى ما طُبقت مخرجات تلك الشراكات على أرض الواقع فستصب نتائجها في المساهمة بتحويل المملكة كوجهة استثمارية عالمية المستوى، وتمكين المستثمر المحلي من الفرص وجذب الأجنبي لها وتوسيع استثماراتهم، وذلك من أجل تحقيق نمو اقتصادي وإبراز قوة وتنوع اقتصادنا الوطني في ظل الإصلاحات الاقتصادية، والتي جعلت من (السعودية العظمى) بيئة جاذبة لجميع المستثمرين على حد سواء.خاتمة :”إذا أردت أن تزرع لسنة فازرع قمحاً، وإذا أردت أن تزرع لعشر سنوات فازرع شجرة، أما إذا أردت أن تزرع لمئة سنة فازرع إنساناً” – مثل صيني.
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال