الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
عندما انتهى Ross Cranston من شرح دور البنك المركزي و أهم وظائفه من الجانب القانوني في كتابه الرائع Principles of Banking Law، طرح تساؤلاً جميلاً: ما المقصود باستقلال البنك المركزي؟
في مقال سابق لي تطرقت إلى أبرز الأحكام النظامية التي تضمنها نظام البنك المركزي الجديد الذي صدر من السلطة التنظيمية في المملكة ، والذي تمت الإشارة فيه إلى أن نظام البنك المركزي يرتكز إلى ثلاثة ركائز : الاستقلال ، الحوكمة العالية، الشفافية والرقابة ، وهذا الأمر طرح تساؤلاً لدى القراء الكرام هل الاستقلال الوارد في النظام الجديد يعني عدم وجود استقلال لمؤسسة النقد وفق نظام مؤسسة النقد العربي السعودي السابق!
مسألة استقلال البنوك المركزية ليست مسألة حديثة ، وإنما هي علاقة تاريخية وقانونية بين حكومات الدول وبنوكها المركزية وتعتبر في غاية التعقيد، ولهذا الأمر انتهت الأدبيات والمناقشات التي وقعت بعد الكساد الكبير ١٩٢٩-١٩٣٩ إلى اعتبارين لتحقيق الاستقلال لأي بنك مركزي وهو: ابتعاد البنك المركزي عن التأثير السياسي في تحديد سياساته النقدية ، والاعتبار الثاني: حرية البنك المركزي في تنفيذ تلك السياسة النقدية بعيداً عن التأثير السياسي.
لعل من المناسب ابتداءً معرفة المقصود باستقلال البنك المركزي بشكل عام في القانون المقارن ؛لكي تتضح الفكرة بصورة أفضل. شهدت فترة السبعينات والثمانينات الميلادية تطوراً قانونياً واقتصادياً فيما يتعلق بدلالات استقلال البنوك المركزية حول العالم ؛ نظراً لارتفاع التضخم بشكل كبير واستمراره في الإرتفاع خلال تلك الفترة. حاول البعض تبسيط و تعريف الاستقلال بقوله: حرية صانعي السياسة النقدية من التأثير السياسي أو الحكومي المباشر في تسيير السياسة. وكان السبب في هذا التعريف تدخل الساسة المنتخبين الذين كانوا بركزون على تخفيض معدلات البطالة التي لا تعد هدفاً صريحاً من أهداف البنوك المركزية في إدارة السياسة النقدية وربط ذلك بمستويات الإنتاج ؛ لأن الإرتباط بين التضخم والبطالة ارتباط أزلي من الستينات الميلادية التي تم تأكيدها من خلال منحى فيلبس الشهير
Curve Phillips إلا أن هذا التعريف قد لا يساعدنا في الإجابة على التساؤل السابق ، لأننا نحن بحاجة إلى معيار نستطيع من خلاله قياس استقلال البنك المركزي، وهنا أعتقد بأن المعايير القانونية الأربعة التي أكد عليها Cukierman و Webb و Neyapti تسهل للقانوني والاقتصادي والباحث على حد سواء تحديد ما إذا كان أي بنك مركزي مستقل أما لا.
المعايير الأربعة تتمثل في الآتي : تعيين رئيس للبنك(محافظ) من قبل مجلس إدارة البنك المركزي أو من قبل الرئيس الأول في الدولة وليس من قبل الحكومة ثانياً: قدرة البنك على اتخاذ قراراته بعيداً عن التدخلات الحكومية ، ثالثا: أن يتم النص في قانون البنك المركزي على أن الاستقرار النقدي هدفاً من أهدافه لتحقيق السياسة النقدية، و أخيراً أن توجد قيود على قدرة الحكومة على الاقتراض من البنك المركزي.
بالعودة إلى التساؤل الذي طرح في بداية هذا المقال نجد أن مؤسسة النقد العربي السعودي كانت مستقلة في تبني سياساتها النقدية وتنفيذها ، و بمنأى عن تدخل حكومة المملكة، وهذا يقودنا إلى التساؤل إذاً ما الذي أضافه نظام البنك المركزي الجديد؟
خلال العقد الأخير شهدت المملكة ثورة تشريعية وتنظيمية ضخمة شملت العديد من المجالات القضائية، والاقتصادية، والاجتماعية، والإدارية من خلال تعديل الأنظمة النافذة ، وإلغاء بعضها، و إصدار أنظمة وتنظيمات جديدة ، ونظام مؤسسة النقد العربي الصادر بالمرسوم الملكي رقم ٢٣ لعام ١٣٧٧هـ، كان واحداً من تلك الأنظمة التي شملها التحديث والتعديل،،فعلى الرغم من أن مؤسسة النقد كانت تعمل باستقلال تام في اتخاذ قراراتها إلا أن نظام البنك المركزي الجديد كان واضحاً و مؤكداً على هذا الأمر بمصطلحات وعبارات لا تحتمل التأويل ، بل ويساعد المعنيين بالأمر في استحضار نصوص النظام في المحافل والمناسبات الدولية للدلالة على استقلال البنك المركزي، فعلى سبيل المثال؛ نصت المادة (الثانية )من نظام البنك المركزي على ما يلي: ” يتمتع البنك بالشخصية الاعتبارية و الاستقلال المالي والإداري ، ويرتبط تنظيمياً بالملك…” ،و هذا النص في حقيقته امتداد لاستقلال مؤسسة النقد في تبني السياسات النقدية وتنفيذيها بعيداً عن أي تدخلات ، إلا أن الجديد كما أسلفت سابقاً رغبة المنظم السعودي في وضع قواعد ونصوص نظامية واضحة وغير قابلة للتفسير أو التأويل.
إضافةً إلى ذلك فإن نص هذه المادة تضمن حكماً جديداً وتأكيداً لاستقلال البنك المركزي و ذلك بارتباطه بالملك باعتباره مرجع السلطات الثلاث : التنظيمية، القضائية، التنفيذية وفق المادة( ٤٤) من النظام الأساسي للحكم ، وهنا أود إيضاح أن مقالي السابق تضمن معلومة غير دقيقة عندما قارنت الارتباط التنظيمي بالملك بين نظام البنك المركزي مع نظام السوق المالية لأن هيئة السوق المالية ترتبط برئيس مجلس الوزراء -رئيس الحكومة- في حين أن ارتباط البنك المركزي بالملك باعتباره Head of State ، وهذا الأمر يحقق أحد المعايير الأربعة التي تم ذكرها سابقاً.
أيضاً مثال آخر ما نصت عليه المادة (السادسة) من نفس النظام التي حظرت على البنك القيام بعدة أعمال ؛ ومنها” إقراض أي شخص ذي صفة طبيعية أو اعتبارية، ويستثنى من ذلك المؤسسات المالية لغرض إدارة السيولة أو مواجهة الأزمات ….” فعلى الرغم من أن حكم هذه المادة كان موجوداً في المادة (السادسة) من نظام مؤسسة النقد الملغى ،، إلا أنه لم يتضمن الاستثناء لمنح المؤسسة التدخل لإنقاذ المؤسسات المالية التي تعاني من مشاكل في إدارة السيولة، ولهذا أستطيع القول بأن نظام البنك المركزي إضافة إلى ارتكازه إلى الركائز الأربع التي تمت الإشارة إليها، يتميز بوضوح الأحكام، ودقتها، وتفصيل الأحكام والاستثناء منها، فهو من ناحية الصياغة القانونية أكثر شمولاً ودقةً ، ومحققاً للأهداف التي يريدها أي بنك مركزي من حيث تحديد أهدافه، ومنحه الاستقلال في وضع السياسات النقدية، ووضع الخطط لتنفيذها بعيداً عن تدخل الحكومة.
و استكمالاً للمعايير الأربعة المحققة لاستقلال البنك المركزي وفق نظامه نجد أن المادة (الثالثة) من نفس النظام أكدت على أن من أهداف البنك المركزي هو الاستقرار النقدي. في حين أن المادة (السادسة) حظرت على البنك المركزي وبشكل واضح منع تمويل الحكومة أو إقراضه وهو تأكيد لما تضمنه نظام مؤسسة النقد الملغي.
وبهذا يتبين لنا أن الاستقلال الذي تضمنه نظام البنك المركزي هو امتداد لاستقلال مؤسسة النقد في نظامها السابق، مع اتجاه المنظم السعودي إلى إيضاح العبارات والمصطلحات ، وجعلها أكثر شمولية ودقة. ما يهمني كقانوني هو كيفية استفادة البنك المركزي من هذا النظام الجديد بممكناته النظامية في تحديث التشريعات والقوانين المصرفية بما يتواكب مع المرحلة والمتغيرات التي تمر بها المملكة ، خاصةً ما يتعلق بـ مستهدفات رؤية المملكة 2030.
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال