الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
استحوذ الجدل الخاص بتأثير السياسة الماليَّة التحفيزيَّة، ودورالإنفاق الحكومي في معالجة الصدمات الاقتصاديَّة على حيِّز واسع من اهتمام المدارس الاقتصاديَّة ونشاطها الفكري.وتركَّز الجزء الأكبر من الجدال على تأثير “التوليفة الكينزية” لإدارة الطلب، وقدرتها على معالجة حالات الانكماش والكساد الاقتصادي.
أحد التحدَّيات النظريَّة للسياسة الماليَّة التوسعيَّة، استند على نظريَّة “التعادل الريكاردي التي قدَّمها عالم الاقتصاد الكبير (ديفيد ريكاردو-David Ricardo ) في كتابه: ( مباديء الاقتصاد السياسي والضـرائب” الصادر سنة 1821. يعتمد منطوق النظريَّة نتيجةً مفادها؛ أنَّ تمويل الإنفاق الحكومي من خلال تخفيض نسبة الضرائب، “عجز الميزانيَّة “، أو عن طريق الاقتراض الداخلي “زيادة الدين العام”، يترك نتائج متعادلة التأثيرفي كلٍّ من الطلب الكلِّي وحجم الإنتاج . كما أنِّ تمويل الإنفاق الحكومي عن طريق الأدوات الماليَّة المذكورة، لن يزيد حجم الطلب الكلِّي على السلع والخدمات. السبب في ذلك، وفقًا لريكاردو، يعود إلى كون الأفراد يدركون بأنَّ الحكومة قد ترفع نسب الضـرائب في قادم السنوات لتغطية عجز الميزانيَّة، أو تسديد الدين العام. لذلك، يرفعون نسبة ادِّخارهم ويخفضون من استهلاكهم خلال المرحلة الراهنة، ممَّا يحول دون ارتفاع الطلب الكلِّي والإنتاج. برغم طرحه فكرة “التعادل ” ، الا أنَّ ريكاردو ما كان متأكِّدًا من سلامة تطبيقاتها أو قوَّتها العمليَّة.
في منتصف سبعينيَّات القرن الماضي، أدخل الاقتصادي (روبرت بارو- Robert Barro )؛ أحد أبرز اقتصاديِّ “المدرسة الكلاسيكيَّة الحديثة” إضافة مهمَّة إلى نظريَّة “التعادل الريكاردي” من خلال توظيف (التوقُّعات العقلانيَّة- Rational Expectations ) . وأبراز تأثيرها في قرارت الادِّخار والاستهلاك الفردي. لقد دافع بارو بقوَّة عن منطوق نظريَّة “التعادل الريكاردي”، وأكَّد صلاحيَتها وعقلانيَّتها وقوَّتها التطبيقيَّة. مساهمته التي عرفت لاحقًا بـ ( مقترح بارو – ريكاردو التعادلي)، شكَّلت تحدِّيًا جديدا للفكرالكنزي والسياسات الماليَّة الكينزيَّة التحفُّيزيَّة تحديدا.
فشل زيادة الإنفاق الحكومي في تحفيز الطلب الكلِّي، يُعزى – وفقًا لما طرحه (بارو) – إلى قدرة الأفراد على تكوين توقُّعات عقلانيَّة عن المتغيِّرات المستقبليَّة. فالأفراد؛ ” دافعو الضـرائب “، يدركون سياسة الحكومة المالية وعزمها على زيادة نسب الضرائب مستقبلًا لغرض تغطية عجزالميزانيَّة، أو تأدية التزمات الدين العام، ممَّا يدفعهم إلى رفع نسبة الادّخارالفردي في المرحلة الراهنة ، وتأجيل زيادة الاستهلاك للمراحل المقبلة لغرض تسديد الأعباء الضـريبيَّة المستقبليَّة. لذلك، فنتائج تمويل الزيادة في الإنفاق الحكومي، سواءٌ عن طريق “عجز الميزانيَّة”، أو رفع “الدين العام” تكون متعادلة التأثير. وان كلا الخيارين لن يفضي إلى زيادة الطلب الكلِّي على السلع والخدمات، ورفع حجم الإنتاج. هذه الاستنتاجات النظريَّة تلغي كلِّيًّا دورالسياسة الماليَّة التوسعيَّة كأدة فعَّالة لمعالجة تقلُّبات الطلب الكلِّي وتغيرات الناتج المحلِّي الإجمالي.
تعرَّضت النظريَّة إلى انتقادات ورفض من رموز المدرسة الكينزيَّة، وإهمال أصحاب القرارالاقتصادي وواضعي السياسات الماليَّة. تركَّزت الانتقادات على عدم واقعيَّة النظريَّة، لاسيما فرضيَّة قدرة الإفراد على تكوين توقُّعات عقلانيَّة مستقبليَّة صائبة خاصَّة بقرارات الاستهلاك والاستثمار. وكذلك قدرتهم على استشراف نهج السياسة الماليَّة، وتقدير حجم الضرائب المستقبليَّة. شملت الانتقادات أيضًا إهمال “بارو” تأثير النموِّ الاقتصادي والسكّاني في الطلب الكلِّي ومستوى الإنتاج. مقابل هذه الانتقادات ، طرح المدافعون عن سلامة النظريَّة بأنَّ فرضيَّة “التعادل الريكاردي” لا تعني الفشل الحتمي للسياسات الماليَّة التحفيزيَّة والمضادَّة لـ (الدورات الاقتصاديَّة -Countercyclical )، بل إنَّ فعاليَّة السياسات الماليَّة التحفيزيَّة وتأثيرها تتطلَّب مراعاة عددٍ من الفرضيَّات والشروط الأُخرى.
مع انتفاء الأدلَّة الكمِّيَّة على سلامة نظريَّة “التعادل الريكاردي”، إلَّا أنَّها حفزت العديد من الدراسات والبحوث التي توصَّلت إلى نتائج متباينة لتأثير زيادة الإنفاق الحكومي في الطلب الكلِّي على مراحل زمنيَّة متباينة واقتصاديَّات مختلفة.
خلال العقود الثمانية المنصـرمة، تعرَّضت (التوليفة الكينزيَّة) وآليَّتها الأكثر فعاليَّة؛ السياسة الماليَّة التحفيزيَّة إلى انتقادات عنيفة وتشكيك واسع. لكن هذه المواقف المؤدلجة والمبالغ في رفضها لم تدم طويلًا، وسرعان ما انهارت من جرَّاء صدمة الأزمة الماليَّة الكونيَّة 2008، فهرع المشكِّكون في فعاليَّة السياسة التحفيزيَّة إلى الحكومات طالبين تدخُّلها، وتحفيز آليَّات السياسة الماليَّة وزيادة الإنفاق العام. كما انهم اقروُّا بفعاليَّة السياسة الماليَّة وتأثيرها في مستوى النشاط الاقتصادي ، وفي أنَّ عجز الميزانيَّة العامَّة يقود إلى زيادة الناتج المحلِّي الإجمالي على المدى المنظور.
أهم المآخذ على نظريَّة “التعادل الريكاردي”، يكمن في اهمالها تاثير تراجع معدل الدخل الفردي خلال الأزمات الاقتصاديَّة ومراحل تراجع النمو الاقتصادي، وعدم قدرة غالبيَّة الأفراد على تقليص استهلاكهم أو تأجيله للمراحل المقبلة ، أوزيادة ادِّخارهم . لذلك فزيادة الإنفاق الحكومي؛ سواءٌ عن طريق “عجز الميزانيَّة”، أو زيادة “الدين العام” لا بد ان يقود إلى تحفيز الطلب الكلِّي على السلع والخدمات وزيادة حجم الإنتاج.
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال