الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
لم يُغيِّرْ فيروس كورونا من طبيعة حياتنا اليومية فحسب، بل طالت آثاره السلبية شتَّى أنواع العقود، حيث بات المتعاقدين في حالةٍ أشبه بالاستحالة فيما يتعلَّق بنفيذ التزاماتهم تجاه بعضهم بعضاً؛ نظراً لظروفٍ التباعد الاجتماعي أو حظر التجول.
في نفس الوقت، انتشرت ثقافةٌ جديدةٌ بين فئاتٍ من المتعاقدين، تتلخَّص هذه الثقافة باستغلال أزمة كورونا حتى تتخلَّص من جميع التزاماتها أو الجزء الأكبر منها، رغم أنَّ الأزمة لا تكون مؤثِّرةً على العقود بالدرجة التي يدَّعيها هؤلاء المتعاقدين.
وهكذا، بات فيروس كورونا ظرفاً اجتماعياً طارئاً ومؤثِّراً في المراكز القانونية بشكلٍ مُباشرٍ وجوهريٍّ.
وفي دول القانون المدني، تحكم مثل هذه الحالات قاعدتَيْن؛ أولاً القوة القاهرة التي تفسخ العقد وتُنهي التزاماته في حال استحالة تنفيذه؛ مثل فسخ عقد النقل خلال حظر التجول، وثانياً الظروف الطارئة التي تسمح بتخفيف التزامات المتعاقد الذي نالت منه تلك الظروف، وهي ظروف غير مستحيلةٍ لكنَّها تجعل من تنفيذ العقد مكلفاً جداً على المتعاقد.
وقد استقرَّ اجتهاد محاكم القانون المدني على تطبيق هاتَيْن القاعدتَيْن وفق توافر شروطِهِمَا الواضحة، ويبقي على قاضي الموضوع دراسة حالة المتعاقدين ثم القياس على النص القانوني، وبالنتيجة؛ فسخ العقد في حالة القوة القاهرة أو تقدير كيفية تخفيض الالتزام على المتعاقد المُتضرِّر من الظروف الطارئة.
أما في المملكة، فلا توجد قواعدٌ نظاميةٌ جامعةٌ لحالات القوة القاهرة أو الظروف الطارئة.
حيث نجد قواعداً مبعثرةً عن القوة القاهرة والظروف الطارئة في الأنظمة السعودية، مثل:
*ضرورة تسليم البضائع ضمن المهلة الاتفاقية المُحدَّدة، باستثناء حالة المانع القاهر (م/24 نظام المحاكم التجارية).
*جواز التأخير عن 15 يوماً في تسليم المتعاقَد عليه الكترونياً في حالة القوة القاهرة (م/14 نظام التجارة الالكترونية).
*جواز تمديد العقد والإعفاء من الغرامة في حالة ظروف الطارئة (م/74 نظام المنافسات والمشتريات الحكومية).
كما يوجد مبدأٌ فقهيٌّ مأخوذٌ من الشريعة، وهو “الجوائح”؛ الذي يمنح القاضي سلطةً كبيرةً في التقدير إزاء فسخ العقد أو التخفيف من التزاماته أو وقف تنفيذ الالتزام، إلاَّ أنَّ الاجتهاد القضائي لم يستقرْ على تطبيق مُوحَّد لهذا المبدأ.
وقد شكَّل الظهور المفاجئ للفيروس حالةً خطيرةً على استقرار الاجتهاد القضائي في ظلِّ عدم وجود نظامٍ موحَّدٍ للظروف الطارئة أو القاهرة، فقد كان هذا الوضع كفيلاً بالاختلاف الجذري بمعالجة مواضيع الدعاوى المطروحة أمام المحاكم، رغم تشابه الوقائع.
في مثل هذه الحالة، كان يجب أن يتمَّ حصر الاختصاص القضائي بالنظر في دعاوى الخاصَّة بآثار أزمة كورونا ضمن محاكمٍ مُحدَّدةٍ بهدف توحيد الاجتهاد فيما بينها.
بناءً عليه، فقد صدر تعميمٌ من فضيلة رئيس مجلس القضاء الأعلى بالرقم 1677/ت بتاريخ 16-5-1442هـ، وكان الغرض من هذا التعميم، ما يلي:
– تحديد الدعاوى المشمولة بأزمة كورونا من فريق عملٍ يَجمَعُ أمانة مجلس القضاء الأعلى والتفتيش القضائي ووكالة الوزارة للشؤون القضائية (رابعاً-أ، التعميم).
– يخضعُ أيُّ نزاعٍ مُتعلِّقٍ بالالتزامات أو العقود التي تأثَّرت بأزمة كورونا إلى إجراء الوساطة أو المصالحة خلال مدة 30 يوم من تاريخ بدء الإجراء كحدٍّ أقصى، ويَحظى سند الوسيطِ أو المُصْلِحِ بالقوة التنفيذية (ثالثاً، التعميم).
– يبقى الاختصاص المكاني والنوعي بالنظر في الالتزامات والعقود المتأثِّرة بجائحة كورونا لمحاكم: “الرياض، مكة المكرمة، المدينة المنورة، الدمام، بريدة، أبها، جازان، نجران، الباحة، حائل، تبوك، سكاكا، عرعر” (أولاً، التعميم).
– تنظر فئة أخرى من محاكم المحافظات في دعاوى اختصاصها النوعي استثناءً من اختصاص منطقتها، وهي محاكم: “جدة، الطائف، الأحساء، حفر الباطن” (أولاً، التعميم).
– ينحصر النظر في دعاوى كورونا ضمن إطار غرفتَيْن قضائيَّتَيْن فقط من غرف كلِّ محكمةٍ مُختصَّةٍ، ذلك بالنسبة للدعاوى الجديدة والدعاوى التي لم يصدرْ فيها حكمٌ نهائيٌّ (ثانياً، التعميم).
يبدو أنَّ الغرض الأساسي من هذا التعميم هو حصر الاختصاص القضائي ضمن أقلِّ فئةٍ مُمكنةٍ من المحاكم من جهة، وضمن أضيق نطاقٍ مُمكنٍ من الغرف المُتخصِّصة داخل هذه المحاكم من جهة أخرى.
والهدف الأساسي من هذا الإجراء واضحٌ، وهو المساهمة في توحيد الاجتهاد بخصوص أحكام تعديل العقود أو فسخها بالنظر إلى درجة الظروف التي طرأت على العقود والالتزامات.
وسنرى في الجزء الثاني إن شاء الله المبادئ القضائية التي تَحكُمُ عمل الغرف القضائية المتخصصة بدعاوى العقود المُتأثِّرة بتداعيات فيروس كورونا.
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال