الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
في مقال سابق تحدثت عن جرائم الشركات التجارية وذكرت بعض الجرائم التي قد تقع فيها بعض الشركات إما إهمالاً أو عمداً، وضرر ذلك على الاقتصاد الوطني والدولي، ونظراً للاستشكال الذي قد يتصوره البعض، حتى بعض المنظمين في كيفية معاقبة الشركة كشخص معنوي أو اعتباري فالمعلوم لدى البعض أن العقوبات تقع على الشخص الطبيعي لا الاعتباري، خاصة والعقوبات جنائية، فأكثر ما يتبادر لذهن البعض في العقوبات الجنائية أنها عقوبات تشمل القتل (الإعدام) والقصاص والسجن والجلد، فكيف يمكن إيقاع هذه العقوبات الجسيمة على الشخصية الاعتبارية(الشركة)؟!
أولاً: أنواع الشركات في الفقه الإسلامي
اهتم الفقه الإسلامي بالشركات التجارية، ففصل في أحكامها، وبين أنواعها. وذلك لكثرة التعامل بها، ولأهميتها في تحقيق مصالح المجتمع الإسلامي بتنمية أمواله، وموارده واستثماراته وسد حاجاته ومتطلباته وتبادل خبراته.
الشركات المتفق عليها في الفقه الإسلامي نوعان: شركة الأملاك، وشركة العقود.
شركة الأملاك: امتلاك اثنان أو أكثر عيناً أو ديناً بسبب من أسباب التملك كالشراء أو الهبة، وتنقسم إلى نوعين: قسم ينشأ بفعل الشركاء ويسمى (الاختيار)، وقسم ينشأ بغير فعلهم ويسمى الجبر.
شركة العقود: إذا أطلق الفقهاء معنى الشركة فالمقصود بها شركة العقود، وتعني عقد بين اثنين أو أكثر يشتركان في المال وربحه، أو ربحه فقط دون رأس المال.
اختلف الفقهاء في أنواعها، فالأحنفاف يعدونها أربع: مفاوضة وعنان وصنائع ووجوه، والمالكية قسموها إلى ستة أنواع: المفوضة والعنان والجبر والعمل والذمم والمضاربة، والشافعية يعدونها أربع، العنان والأبدان والمفاوضة والوجوه، وأما الحنابلة فقسموها إلى خمسة أنواع: العنان والأبدان والوجوه والمضاربة والمفاوضة.
ثانياً: أنواع الشركات في النظام السعودي
لقد عرف نظام الشركات التجارية الصادر بالمرسوم الملكي رقم (م/3) بتاريخ 28/1/1437هـ في مادته الثانية بالشركة على أنها: عقد يلتزم بمقتضاه شخصان أو أكثر بأن يساهم كل منهم في مشروع يستهدف الربح بتقديم حصة من مال أو عمل أو منهما معاً لاقتسام ما ينشأ من هذا المشروع من ربح أو خسارة، وقد حددت المادة (3) من هذا النظام أنواع الشركات بخمس أنواع، وهي: التضامن والتوصية البسيطة والمساهمة والمحاصة وذات المسؤولية المحدودة ونصت الفقرة الثالثة من هذه المادة بعدم انطباق هذا النظام على الشركات المعروفة في الفقه الإسلامي، وبالتالي على من أراد أن ينشئ شركة عليه أن ينشئها وفق الأنواع المحددة في نظام الشركات التجارية فقط.
ماهية المسؤولية الجنائية:
المسؤولية الجنائية تعني إسناد الجريمة لمرتكبها، إسناداً مادياً ومعنوياً، فتكون الجريمة بفعله وصادرة عن أدراكه وإرادته أو خطئه وإهماله، وهي تعني أهلية الشخص لأن ينسب فعله إليه ويحاسب عليه، وهنا تكمن المشكلة في أن هذا لا يصلح إلا للإنسان (الشخص الطبيعي) وذلك لصلاحيته لاكتساب الحقوق وتحمل الالتزامات وبوعيه للخطاب الشرعي والقانوني وتحمله له.
لقيام المسؤولية الجنائية لابد من توفر عنصري الإدراك والإرادة وهما لا يتوافران إلا في الإنسان، لذا تعد المسؤولية الجنائية للشركات التجارية من المسائل التي ثار حولها جدلاً واسعاً واختلافاً كبيراً في الفقه الإسلامي والقانون الوضعي!
المسؤولية الجنائية للشركات التجارية في الفقه الإسلامي:
يُعد مصطلح الشخصية المعنوية أو الاعتبارية من المصطلحات الحديثة فلم يتناوله فقهاء الشريعة الإسلامية إلا في أواخر القرن الماضي، ولكنه يعرف أنواعاً متعدد مجتمعة أو منفردة مما تسمى في وقتنا الحاضر بالشخصيات المعنوية أو الاعتبارية، مثل، بيت المال والوقف وشؤون المساجد، والشركاء الذين يتحدون لتحقيق الربح والكسب المادي.
لذا من المرجح أن الفقه الإسلامي كان يعرف الشخصية الاعتبارية ويتعامل معها وينظم شؤونها حتى وإن لم ينطقها بصريح العبارة فقد نظم الفقهاء ما تتطلبه ظروفهم الحياتية وما يتطلبه واقعهم، فنظموا ما يتعلق بالمؤسسات الدينية والسياسية والاجتماعية كبيت المال، والوقف، والخراج، وديوان الجند، وشؤون الدولة السياسية، وكلها شخصيات اعتبارية، وأن لم يرد على ألسنتهم لفظ المسؤولية الجنائية والشخصية الاعتبارية أو المعنوية بصريح العبارة، فالعبرة للمقصد والمعاني لا للألفاظ والمباني.
المسؤولية الجنائية للشركات التجارية في القانون الوضعي:
الجدل حول المسؤولية الجنائية للشخص المعنوي (الشركات التجارية) في القانون الوضعي ضارب في عمق التاريخ، فهذا القانون الروماني القديم ينشق على بعضه ويظهر فيه مذهبان، أحدهما ينكر المسؤولية الجنائية للشخص المعنوي والآخر يقرها، أما القانون الوضعي الحديث الذي يؤرخ له من الثورة الفرنسية سنة 1789م فقد حصل فيه تعثرات ونكسات حول مفهوم المسؤولية الجنائية لشخص المعنوي منها مراسيم التأميم التي جاءت بعد هذه الثورة، ولكن مع بداية القرن التاسع عشر الميلادي عادت الأشخاص القانونية لتزدهر والتزم بعض القانونيين بالرأي التقليدي الذي ينكر مسؤولية الشخص المعنوي والقائم على بعض الحجج منها طبيعة الشخص المعنوي الذي لا يرون له وجود مادي وبالتالي لا يمكن مساءلته جنائياً؛ بل يُسأل عن ذلك الشخص الطبيعي الذي ارتكب الجريمة لمصلحة الشخص المعنوي، وقالوا: أن الشخص المعنوي نشأ لتحقيق هدف مشروع وهو الربح وليس له أهداف آخرى والذي حرف أهدافه لارتكاب الجريمة هو الشخص الطبيعي لذا الشخص الطبيعي هو المسؤول عن هذا الفعل، وقالوا: بشخصية العقوبة لذا وجب إنزالها بالشخص الطبيعي لا المعنوي؛ لأنه هو من ارتكبها وحده، وقالوا أيضاً: أن طبيعة العقوبات الجنائية مثل السجن والإعدام لا تتناسب مع طبيعة الشخص المعنوي، فلا يمكن إعدامه ولا سجنه!!
أما الرأي الآخر الذي ساد العالم وأخذ في الانتشار والقبول فهو القائل بمساءلة الشخص المعنوي جنائيا؛ لأن الرأي التقليدي بنى رأيه الرافض لمساءلة الشخص المعنوي جنائياً على حجج واهية يمكن الرد عليه ونقضها بسهولة، فلا يعد الشخص المعنوي مجرد افتراض قانوني أو مجازي فالقانون اعترف بوجوده الحقيقي واعترف بإرادته المستقلة ومصالحه الخاصة وذمته المالية وأهليته في إجراء العقود وتحمل المسؤولية التي يتضح من خلالها إرادة الشخص المعنوي المستقلة حتى وإن عبر عنها الأشخاص الطبيعيون اللذين يعملون باسمه ولحسابه ومصلحته، أما قولهم بأن الشخص المعنوي لا يمكن مساءلته فيما يتجاوز غايته التي نشأ من أجلها وهي الربح، فهذا يمكن الرد عليه بسهوله لأننا نعاقب الشخص الطبيعي الذي ارتكب الجريمة وهي تتجاوز غايته التي يعيش من أجلها وهي الحياة ( المسلم يؤمن أنه خلق من أجل عبادة الله)، أما قولهم أن معاقبة الشخص المعنوي هو إهداراً لمبدأ شخصية العقوبة ، فلا يعد ذلك مساساً بمبدأ شخصية العقوبة، فها نحن نعاقب الشخص الطبيعي رغم تعدي ضرر العقوبة إلى إفراد أسرته؛ بل إن معاقبة الشخص المعنوي حتى وإن سلمنا بتعدي العقوبة ففي ذلك التعدي فائدة مرجوة، وهي أن نجعل من المساهمين المتضررين من هذه العقوبة مراقبين على نشاط الشخص المعنوي والعمل على إدارته حتى لا يلجأ إلى طرق غير مشروعة فستحق العقوبة، أما قولهم أن طبيعة العقوبات الجنائية لا يتناسب بعضها مع طبيعة الشخص المعنوي فلا يمكن تطبيقها عليه، كالإعدام والسجن يمكن تطويعها لتتناسب مع طبيعته فعقوبة الإعدام يقابلها حل الشخص المعنوي أو تصفيته، وعقوبة السجن يقابلها تقييد حرية الشخص المعنوي وحرمانه من بعض المزايا أو وضعه تحن المراقبة أو وتضييق دائرة النشاط المسرح به، أو الإغلاق، كما أنه يمكن تطوير هذه العقوبات لتتواكب مع طبيعة الشخص المعنوي وأنشطته الإجرامية.
المسؤولية الجنائية للشركات التجارية في النظام السعودي وما عليه من ملاحظات:
تحدثت قديماً في عام 1430هـ، عن موضوع المسؤولية الجنائية للشخص المعنوي في النظام السعودي، وذلك في كتابي الموسوم بـــ (جرائم الشركات التجارية في قوانين دول مجلس التعاون الخليجي)، وفي مجمل ما ذكرت أن المملكة العربية السعودية تميل لتقبل فكرة مساءلة الشركات التجارية جنائياً، لكن النصوص النظامية لتجريم وعقاب الأفعال الجنائية للشخص المعنوي موجهة للشخص الطبيعي المسيّر للشركة، وبهذا فالنظام لا يميل للاعتراف المباشر بهذه المسؤولية الجنائية وأن عبر عنها على استحياء في بعض الأنظمة، وذكرت من وجهة نظري في ذلك الحين على أعادة النظر في النصوص النظامية لتكن أكثر جرأة في مساءلة الشخص المعنوي جنائياً بالتضامن مع الشخص الطبيعي الذي يعمل من أجل الشركة التجارية ولحسابها ومصلحتها وهذا ما يسمى بالمسؤولية غير المباشرة أو قد يسمى بالمسؤولية التضامنية وذلك لتنامي موقع الشركات التجارية في حياتنا اليومية ولانفتاح المملكة على العالم الخارجي ومشاركتها المتنامية في منظمة التجارة العالمية، وقد صدر نظام الشركات الجديد المتوج بالمرسوم الملكي رقم (م/3) بتاريخ 28/1/1437هـ ملبياً لبعض ما طالبت به وليس كله فهناك متسع من الوقت لتلافي قصور النظام، فقد جاءت العقوبات في الباب الحدي عشر من النظام، في ثمان مواد، ابتدأ المنظم بالنص على معاقبة الشخص الطبيعي (مواد، 211، 212، 213) سواء كان هذا الشخص من ذوي المراكز القانونية بالشركة كالمدير أو عضو مجلس الإدارة، أو مراجع الحسابات أو المصفي للشركة أو نحو ذلك، أو تلك الجرائم التي تقع من موظفي الدولة كالموظف الذي أفشى سراً من أسرار الشركة أطلع عليه بحكم عمله، وكذلك نص النظام على معاقبة أي شخص حتى وإن لم يكن له صفة قانونية أو مركز قانوني بالشركة حتى وإن كان غير موظف حكومي لكنه ارتكب فعلاً يجرمه نظام الشركات التجارية، ثم نص بعد ذلك على مساءلة الشخص المعنوي(213/ص) فقال: كل شركة أو مسؤول في الشركة لا يراعي تطبيق الأنظمة والقرارات المرتبطة …)، وهنا نلاحظ النص بجملة (كل شركة)، ثم جاء نص آخر صريح على مساءلة الشخص المعنوي جنائياً ( الشركة) وهذ النص نطقت به المادة(217)، وهو كالتالي:}إذا تعذرت إقامة الدعوى على من ارتكب الأفعال المجرمة المنصوص عليها في المادتين(الحادية عشرة بعد المائتين)و(الثانية عشرة بعد المائتين)، فلهيئة التحقيق والادعاء العام (النيابة العامة) إقامة الدعوى على الشركة للمطابة بالحكم عليها بالغرامة المقررة للجريمة أو المخالفة{.
يمكن القول بأن النظام الجديد للشركات فيما يتعلق بالعقوبات الجنائية (المساءلة الجنائية) كان متقدماً على النظام السابق لكنه لم يلبي كل التطلعات في هذا الجانب، فهو لم يوحد جهة الضبط الجنائي والادعاء العام في هذه الجرائم، فبعضها اسنده للنيابة العامة، وبعضها لوزارة التجارة، والبعض الآخر لهيئة سوق المال، وعطفاً على ذلك اختلف اختصاص النظر في هذه الجرائم، فمنها ما هو متصل بالقضاء العام (المحاكم التجارية) ومنها ما هو متصل بوزارة التجارة، ومنها متصل بهيئة سوق المال، وهنا اخرج النظام نظر بعض القضايا عن القضاء العام، لذا اصبح الاختصاص الولائي في نظر هذه الأفعال المجرمة (في جميع درجاته) مشتت بين القضاء العام والقضاء الإداري واللجان شبه القضائية!!!
يحسب لهذا النظام أنه شمل بالمساءلة الجنائية كل الأشخاص المعنويين والطبيعيين سواء كانوا هؤلاء الأشخاص الطبيعيين أصحاب مراكز قانونية بالشركة أو موظفين حكوميين أو أشخاص عاديين.
هذا ما سمح به الوقت والمساحة ولعل لنا عودة.
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال