الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
تحظى اقتصاديَّات المدن بأهميَّة استثنائيَّة في عالمنا المعاصر، وتشغل حيِّزًا من اهتمام أصحاب القرار الاقتصادي والسياسي. تستمدُّ المدن أهميِّتها من كونها مراكز التفاعل بين المكوِّنات الاقتصاديَّة الأساس، ودورها في تنشيط الاقتصاد الوطني. هناك ترابط طردي بين حجم التبادل الاقتصادي داخل المدن، وحجم الإنتاج والدخل القومي. فالدول المتطوَّرة تمتلك شبكة متكاملة من المراكز الحضريَّة التي تخلق قيمًا اقتصاديَّة مضافة، وتوفِّر لساكنيها منافع وخدمات تعزِّز رفاهيَّتهم وأمنهم المجتمعي.
من إدراك هذه العلاقة وأهميَّتها، اعتمدت رؤية المملكة تطوير المدن وتوسيع هياكلها كأحد محرِّكات تنمية الاقتصاد الوطني. ولتحقيق ذلك، تبنَّت الأهداف التالية: تطوير البنى التحتيَّة والارتقاء بجودة الخدمات العامَّة، وتحسين المشهد الحضري للمدن، وحلِّ أزمات الطرق والتنقُّل، والحدِّ من التلوثين المناخي والبصـري. ولا شكَّ أنَّ مشـروع توسيع العاصمة الرياض الذي أُعلن تفاصيله سمو ولي العهد الامير محمد بن سلمان، الهادف الى تطوير دورها وجعلها إحدى أكبرعشـر مدن، أو مراكز اقتصاديَّة في العالم، هو في طليعة مشاريع التطويرالحضري للرؤية، وأكثرها تأثيرًا في مستقبل الاقتصاد السعودي.
ثمَّة معلومة تستحق الإشارة. غالبيَّة الاختلالات التي تعاني منها المدن والمراكز الحضـريَّة في الدول الناشئة، مردُّها إهمال المخطِّطين والمطوِّرين أسس “الاقتصاد الحضري” ومعاييره ، سواء في مرحلة إعداد المخطَّطات الأوَّليَّة للمدينة، أو عند وضع حلول للمشاكل الحضريَّة.
تهدف هذه المشاركة بأجزائها الخمسة إلى تقديم افكار ومقترحات قد تسهم في إنجاح مشـروع توسيع مدينة الرياض، وتفادي التحدِّيات التي جابهتها تجارب توسيع مدن كبيرة أُخرى من خلال تقديم عرض موجز لأهمِّ جوانب اقتصاد المدن، وشرح دور العوامل الاقتصاديَّة في نشوء المدن والمراكز الحضريَّة ونموِّها وتحليل المشاكل المتأتِّيَةِ من التركيز السكاني؛ ” ارتفاع الكثافة السكانيَّة في المدينة”.
ينصبُّ اهتمام الاقتصاد الحضري على تحليل العلاقات الاقتصاديَّة السائدة في المدن، ويفسِّرسلوك الأفراد وممارساتهم الاقتصاديَّة اليوميَّة المرتبطة بالحيِّز المكاني. كما يبحث في مشاكل التوسُّع الحضـري المتأتيَّة من ارتفاع الكثافة السكانيَّة وتأثيرها في منفعة الفرد ورفاهية المجتمع. إلى جانب ذلك، يقدِّم الاقتصاد الحضـري حلولًا للتحدِّيات التي تقلق مخطِّطي المراكز الحضريَّة، والحكومات المحليَّة وإدارات المدن.
تقدِّم المدن لسكانيها مزيجًا متناقضًا من المشاعر: إيجابيَّة، كونها مراكز الإنتاج والتجارة والفنون والعلوم والابتكار، وسوق العمل والخدمات الترفيهيَّة. وسلبيَّة مقلقة بسبب ما يفرزه الاكتظاظ السكاني من ضوضاء، وتلوُّث بيئي، وارتفاع معدَّل الجريمة، واختناق مروري، وبطالة، وضغط على الموارد الطبيعيَّة وسواها من المشاكل الحضريَّة.
يعرَّف الاقتصاد الحضري المدينة بـمنطقة جغرافيَّة “حيِّز مكاني”، يضمُّ عددًا كبيرًا من أفراد يمارسون أنشطة اقتصاديَّة واجتماعيَّة مختلفة في مساحة صغيرة نسبيًّا ذات كثافة سكانيَّة مرتفعة مماثلة بالمناطق المحيطة؛ (القرويَّة أو الريفيَّة). هذا التعريف، ينطبق على المناطق الحضريَّة بمختلف أحجامها، من المدن الصغيرة نسبيًّا إلى المناطق الحضـريَّة الكبرى (Metropolitan).
ما أسباب نشوء المدن؟ وكيف نشأت وتطوَّرت؟
يُعزى السبب الأساس لنشوء المدن إلى حاجة الأفراد لحيِّز مكاني يتيح لهم ممارسة نشاطاتهم الاقتصاديَّة الضـروريَّة خارج نطاق الأراضي المستخدمة في الزراعة. فالمدينة توفِّر قاعدة للإنتاج، وسوقًا للتبادل، يمكِّنهم من مبادلة إنتاجهم، وقوَّة عملهم، أو أفكارهم بسلع وخدمات استهلاكيَّة.
هناك تفسير آخر، يربط نشوء المدن بفشل الإنسان في تحقيق اكتفائه الذاتي، وإشباع حاجاته الماديَّةالخاصَّة؛ ” Sufficient – Self “. هذا الإخفاق، أوجد الحاجة إلى التبادل السلعي مع أفراد يقطنون مسافات قريبة. الكثافة السكانيَّة، تعدُّ العامل الأهم في نشوء المدن ونموِّها. فالتواصل المستمر بين الأفراد، وتفاعل الأنشطة الاقتصاديَّة المختلفة لا يمكن تحقيقه إلَّا إذا كان نشاط الأفراد والمنشآت محصورًا في حيِّز مكاني ضيِّق نسبيًّا.
تحوُّل الحيِّز المكاني إلى “مدينة” مرتبط بتوفر عدد من العوامل والموارد الاقتصاديَّة:
أوَّلًا، الفائض الزراعي. نشوء المدينة يقتضي أن ينتج السكَّان المقيمون خارج المدينة كميَّة من الغلل الزراعيَّة الغذائيَّة كافية لإشباع حاجاتهم وتغطية طلب سكَّان المدينة أيضًا.
ثانيًا، الإنتاج الحضري. نشوء المدينة يتطلَّب أن ينتج سكَّان الحيِّز المكاني سلع، أو تقديم خدمات لغرض مقايضتها “مبادلتها ” بكميَّات الغذاء المنتجة في المناطق غيرالحضريَّة؛ الريفيَّة أو الزراعيَّة.
ثالثًا، مصادر مياه كافية لإشباع استهلاك المقيمين داخل الحيِّز السكاني.
رابعًا، وجود نظام مواصلات يسهِّل التبادل السلعي بين سكَّان الريف والمدينة.
نشات المدن وفقًا لفرضيَّات الاقتصاد الحضري، من جرَّاء توسُع نوعين من الأنشطة الاقتصاديَّة ضمن نطاق الحيِّز المكاني: أنشطة تجاريَّة وصناعيَّة. نشأت المدن التجاريَّة نتيجة تباين المعدَّلات الإنتاجيَّة بين المناطق بسبب اختلاف الظروف المناخيَّة، أوتباين وفرة المواد الأوليَّة، أو نتيجة وجود قدرات بشريَّة متخصِّصة في إنتاج سلعة ما في إحدى المناطق. تباين مستوى القدرات، أو كميَّة الموارد، يُفضي إلى اختلاف معدَّل الإنتاجيَّة، وظهور ميز تنافسيَّة، وتقسيم عمل، وتخصُّص كلِّ إقليم في إنتاج سلعة، أو سلع معيَّنة. هذا التخصُّص والتباين في مستوى الإنتاجيَّة خلق حاجة لنشوء منشآت تجاريَّة متخصِّصة لتسهيل التبادل السلعي بين الأقاليم . وتوسُّع هياكل هذه المنشآت التجاريَّة وارتفاع عدد مستخدميها لاحقًا، وسكنهم بجوار مراكز الشركات كان سبب نشوء المدن التجاريَّة.
أمَّا نشوء المدن الصناعية، فمردُّه انتقال العمَّال للسكن بجوارموقع مصنع أو مجموعة مصانع لتخفيض تكاليف التنقُّل وتقليص أمدها. انتقال العاملين، رفع الطلب على الأراضي المجاورة للمصانع، وزاد أسعارها. كما أدَّى إلى تقليص مساحة الأراضي المخصَّصة للوحدة السكنيَّة، وارتفاع الكثافة السكانيَّة في المناطق المحيطة بالمصنع.
المدن أحاديَّة النشاط، نادرة. والمدن المعاصرة، تتَّسم بالشموليَّة وتنوُّع النشاطات الإنتاجيَّة، وعرض حزمة من الخدمات الإستهلاكيَّة والثقافيَّة الملبيَّة لطلبات الإنسان المعاصر واحتياجاته. بالإضافة إلى المدن الشاملة، توجد مدن متخصِّصة قد تنشأ لأسباب عديدة، منها توفُّر ميزات اقتصاديَّة محليَّة. غالبيَّة المدن المتخصِّصة تمارس أدوارًا مكمِّلة لأسواق المدن الشاملة، أو تقدِّم خدمات إنتاجيَّة أو أنشطة مرتبطة بخصائص موقعها الجغرافي. اللافت أن المنشآت الإنتاجيَّة العاملة في المدن المتخصَّصة غالبًا ما تبدأ نشاطها من المدن الكبيرة، وتنتقل إلى المدن المتخصَّصة بعد الانتهاء من إنجاز التصاميم والدراسات الأوَّليَّة بسبب انخفاض كلف الإنتاج في المدن المتخصَّصة.
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال