الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
كان لا بدَّ للمملكة -في طريقها نحو رؤية 2030- أن تمرَّ بمرحلة التخصيص أو كما يُطلَقُ عليها أيضاً: “الخصخصة” “Privatization”؛ تلك الآلية الاقتصادية التي تَنقُلُ ملكية رأس المال من القطاع العام إلى الخاص وفق الخُطط التقدُّمية للدولة.
لقد أصبح المنهج الاقتصادي الذي يعتمد على الدولة كمُحرِّك لعجلة الإنتاج والخدمات، قديماً بعض الشيء، في الوقت الذي تجاوزتها المشاريع الخاصة، فأصبح القطاع الخاص يتمتَّع بخبرةٍ أكبر وتنافسيةٍ أعلى بكثيرٍ.
حيث إنَّ الإبقاء على سيطرة الدولة في الفضاء الاقتصادي، سيؤدِّي -مع مرور الوقت- إلى تصلُّب رأس المال، وتراكم الخسائر، وضعف التنافسية، وانخفاض جاذبية السوق الوطنية للاستثمار الأجنبي.
ومن هنا، فقد رسم مجلس الوزراء في المملكة سياساتٍ واضحةٍ للتخصيص بالقرار 60 لعام 1418هــ تتلاءم مع مجموعة من الأهداف الأساسية التي تسعى إليها هذه السياسات، بحيث يتركَّز السعي إلى تحصيل إيجابيات التخصيص من جهة، وتفادي سلبياته المتمثِّلة بارتفاع القدرة السوقية للقطاع الخاص على حساب القوة الشرائية للمواطنين من جهة أخرى.
وبعدها، فقد أصدر مجلس الوزراء القرار رقم 257 لعام 1421هــ حتى يقوم المجلس الاقتصادي الأعلى للمملكة بتنفيذ برنامج التخصيص، وما كان من المجلس إلاَّ أن أصدر استراتيجيةً شاملةً للتخصيص مؤخَّراً.
بناءً عليه، فقد استند المجلس على ثمانية أهدافٍ استراتيجيةٍ لتنفيذ عمليات التخصيص، وقام بوضع مجموعةٍ من السياسات الكفيلة بانضباط تنفيذ التخصيص.
وحتى نستكشف صعوبة تنفيذ التخصيص، علينا مقارنة الأهداف بسياسات التنفيذ كما وردت في استراتيجية المجلس.
الهدف 1: “رفع كفاءة الاقتصاد الوطني وزيادة قدرته التنافسية لمواجهة التحديات والمنافسة الإقليمية والدولية”
الإشكالية في تحقيق هذا الهدف تكمن في إمكانية زيادة القدرة التنافسية للاقتصاد متمثِّلاً بالمشاريع الخاصة، فعلى الرغم من إمكانية ارتقاء مستوى تنافسية القطاع الخاص محلياً وعالمياً، إلاَّ أنَّ فكرة القطاع الخاص تشمل الوطني والأجنبي منه.
لهذا أكَّد المجلس على فكرة “إخضاع جميع منشآت القطاع الواحد للعمل في نفس ظروف المنافسة”؛ وهذا يعني أنَّ التخصيص يجب ألاَّ يخلَّ بتوازن القوى السوقية، وهو أمرٌ صعبٌ خاصةً خلال بداية تنفيذ التخصيص، حيث تكون لبعض المشاريع قوةٌ اقتصاديةٌ أكبر من غيرها اعتماداً على سيولتها وخبرتها.
الهدف 2: “دفع القطاع الخاص نحو الاستثمار والمشاركة الفاعلة في الاقتصاد الوطني وزيادة حصته في الناتج المحلي بما يحقق نمواً في الاقتصاد الوطني”
من الغايات الأساسية لدفع القطاع الخاص باتِّجاه المبادرة في الاقتصاد الوطني في الابتعاد عن اقتصاد النفط كما جاء في استراتيجية المجلس، هذا بهدف تحويل أسلوب إدارة المشاريع الاقتصادية إلى منهج القطاع الخاص.
لكن إتاحة المجال للقطاع الخاص حتى ينافس القطاع العام في القطاعات الاستراتيجية من الأفضل أن تَسبِقَهُ عملية تدريبٍ وتقييمٍ للمشروع، تماماً كما يحدث لدى مرور المشروع في مرحلة الدعم من حاضنات الأعمال.
الهدف 3: “توسيع نطاق مشاركة المواطنين في الأصول المنتجة”
وهو من آليات التنمية اعتماداً على أسواق المال بالأساس؛ كأن يتمَّ طرح أسهم شركات القطاع العام الاستراتيجية للاكتتاب العام، فهذا يُساعِدُ على توفير سيولةٍ هائلةٍ لتقدُّم المشروع من جهة، ويُساهمُ في توسيع نسبة الاستثمار والأرباح على أوسع نطاقٍ اجتماعيٍّ ممكنٍ في الناتج المحلي الإجمالي.
لكن يجب العمل هنا على توعية الجمهور من المكتتبين، حيث إنَّهم سيتحوَّلون إلى مساهمين في الشركات المطروحة على الاكتتاب، وهذا ما سيضع عليهم مسؤوليات اتِّخاذ قراراتٍ مصيريةٍ تؤثِّر في اقتصاد الدولة من خلال الجمعيات العامة لهذه الشركات.
حيث إنَّ نجاح التخصيص بأسلوب اكتتاب الجمهور لا يتمُّ بالترويج للاكتتاب، بل إنَّ هذا النجاح محكومٌ بمقدار وعي الجمهور لحقوقهم كمساهمين ومدى وجود حسٍّ من المسؤولية عندهم تجاه اقتصادهم الوطني، وليس فقط مصلحتهم الشخصية.
الهدف 4: “تشجيع رأس المال الوطني والأجنبي للاستثمار محلياً”
يمكن اعتبار تشجيع رأس المال الأجنبي بالذات من أكثر الأهداف التي يسعى الاقتصاد السعودي إلى تحقيقها، والسبب أنَّ تدفُّق رؤوس الأموال الأجنبية من الخارج إلى النظام المالي للمملكة سيؤدِّي إلى دعم المخزون النقدي من العملات الأجنبية ويُساهِمُ في تطوير قدرة الاقتصاد على النمو، كما، أنَّه يُوفِّرُ بيئةً مناسبةً لتنفيذ مشاريعٍ استراتيجيةٍ يَصعُبُ التخطيط لها وتحقيقها بالإمكانيات الوطنية.
لكن تكمن مشكلة الاستثمارات الأجنبية في مسألة تسوية المنازعات التي تكتسي الصفة الدولية في معظم الأحيان، حيث تقوم مراكز التحكيم الدولية بالفصل بهذه المنازعات وفق أنظمة أجنبية قد لا تخدم الاقتصاد الوطني، الأمر الذي يوجب توفير قاعدةٍ تشريعيةٍ واضحةٍ ومتينةٍ لمسألة اختصاص القضاء الوطني بالفصل في منازعات الاستثمار الأجنبي.
الهدف 5: “زيادة فرص العمل والتشغيل الأمثل للقوى الوطنية العاملة ومواصلة تحقيق زيادة عادلة في دخل الفرد”
يُعتبرُ هذا الهدف الأكثر أهميةً بخصوص التخطيط الاستراتيجي لاقتصاد المملكة، حيث إنَّ تسخير سياسة التخصيص في خدمة تشغيل الشباب السعودي سيُساهمُ في إيجاد فرص العمل وخفض نسب البطالة.
لكن تشغيل الشباب السعودي في منظومة اقتصاد المستقبل الذي تسعى المملكة لبنائه، يجب ألاَّ يكون على أساس توفير الفرص من بابٍ اجتماعيٍّ، فهذا الأسلوب يؤدِّي إلى زيادة أعباء الاقتصاد الحكومي بالبطالة المقنعة، بل يجب أن يصل الشباب السعودي من حيث التعليم الأكاديمي والخبرات العملية والرؤية العصرية الواسعة إلى درجات تجعل من هذا الشباب فرصةً حقيقيةً وكنزاً بشرياً ثميناً للمشاريع في المملكة.
الهدف 6: “توفير الخدمات للمواطنين والمستثمرين في الوقت وبالتكلفة المناسبين”.
أكّد المجلس على ضرورة وجود هيئة تسعى إلى تجنُّب سلبيات سياسة التخصيص التي قد تؤدِّي إلى انتشار الممارسات الاحتكارية، الأمر الذي قد يزيد من الأسعار في مقابل بقاء أو انخفاض القوة الشرائية للمواطنين.
في الحقيقية، إنَّ نجاح هيئة مكافحة الاحتكار هو صمَّام الأمان خلال تنفيذ التخصيص.
الهدف 7: “ترشيد الإنفاق العام والتخفيف عن كاهل ميزانية الدولة بإتاحة الفرصة للقطاع الخاص بتمويل وتشغيل وصيانة بعض الخدمات التي يمكنه القيام بها”.
بهذه الطريقة، سينتقل عبء تشغيل بعض الخدمات الحكومية إلى القطاع الخاص، مع الإبقاء على بعض الخدمات الحكومية.
لكن المشكلة تظهر في مدى قدرة القطاع الخاص على تحمُّل المسؤولية بمفرده، ومدى قدرته على إدارة تعارض المصالح مع المواطنين؛ أي أنَّ تنفيذ سياسة التخصيص يجب أن يكون مُتدرِّجاً بالترافق مع ارتقاء مستوى مشاريع القطاع الخاص مهنياً وأخلاقياً من جهة، وبالتوازي مع ثقافة المستهلكين ومرونة الطرق الإدارية والقانونية الكفيلة بحفظ حقوقهم من جهة أخرى.
الهدف 8: “زيادة إيرادات الدولة ..”
بالتأكيد أنَّ اقتصاد المملكة بحاجةٍ إلى المزيد من الإيرادات التي ستُوفِّرها عمليات التخصيص بشكلٍ مباشرٍ عبر بيع الحصص الحكومية من المشاريع أو تقديم الامتيازات فيها من جهة، وبشكلٍ غير مباشرٍ عبر تخفيض عبء الدعم الحكومي المالي والتشغيلي لهذه المشاريع والخدمات من جهةٍ أخرى.
لكن يجب النظر إلى زيادة إيرادات الدولة على أنها زيادةٌ وقتيةٌ سريعةٌ، وأنَّ الهدف من التخصيص هو زيادة نوعية وكفاءة ونطاق تشغيل الاقتصاد وسرعة جريان السيولة على المدى الطويل.
وفي النهاية، يجب القول بأنَّ:
التخصيص سياسةٌ اقتصاديةٌ ضروريةٌ وحتميةٌ لتحقيق النمو وزيادة التنافسية مع الاقتصاد العالمي، لكنها ليست شرَّاً لا بدَّ منه؛ فلا يجوز تنفيذها إذا لم تكن الظروف مواتية، كما لا يجدر الاستعجال بتنفيذ مراحلها قبل حلول التدرِّج المطلوب في بيئة الاقتصاد.
وجود هيئة لمكافحة الاحتكار يجب ألاَّ يكون رسمياً روتينياً، بل عملياً قادراً على التدخُّل السريع والمرن في مصلحة الاقتصاد الوطني دون تردِّدٍ.
الانتقال من الاقتصاد النفطي إلى الاستثماري الحر يجب أن يكون عبر طريقٍ يمكن السير فيه ببطءٍ أو حتى الرجوع فيه للخلف إذا كانت الظروف غير مواتيةٍ، فلا يجب أن تَترُكَ الدولة مسؤولياتها الاقتصادية دفعةً واحدةً.
التعامل مع الاستثمار الأجنبي المباشر يجب أن يكون على مبدأ السماحة والعدالة، لكن دون أن يؤثِّر ذلك في مصلحة الاقتصاد الوطني، لأنَّ تحمل أعباء تعثِّر المشاريع وطنية أهون بكثيرٍ من الالتزام بدفع تعويضاتٍ خياليةٍ للشركات الأجنبية العابرة للقارات.
إنَّ بوصلة التخصيص هي ثقافة المجتمع، حيث إنَّ مدى القدرة على زيادة وتيرة التخصيص يجب أن تكون مترافقةً مع قدرة الجمهور على تحمُّل مسؤولية القرار الإداري في الشركات العامة الاستراتيجية التي ستتحوَّل إلى الملكية الخاصة.
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال