الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
شهدت المملكة العربيَّة السعوديَّة خلال السنوات الأربع المنصرمة ولادة اقتصاد وطني حديث، والشروع في تأسيس بنية اقتصاديَّة قائمة على محرِّكات ملبِّية لمتطلَّبات نموِّ الاقتصاد الوطني، أهمُّها تنوُّع مصادر الدخل القومي، وتحفيز القطاعات الاقتصاديَّة، وتقليل الاعتماد على الصناعات النفطيَّة وخفض نسبة إسهامها في الناتج المحلِّي الإجمالي.
بناء اقتصاد متوازن مستدام النموِّ، ومتناغم مع أهداف رؤية المملكة 2030 يتطلَّب تطويرالقطاعات الاقتصاديَّة بنسق متساوٍ، وتقارب نسب إسهامها في الناتج الإجمالي.
تقوم استراتيجيَّة الرؤية الاقتصاديَّة على محورين أساسين. يركِّز الأوَّل على تنمية القطاعات الاقتصاديَّة، وتحديث وسائل إنتاجها، ورفع طاقتها الانتاجيَّة. في حين تنصبُّ خطط المحور الثاني على خلق نشاطات استثماريَّة جديدة، وتحفيز القطاعات الراكدة -إن صح التعبير- أوغير المستغلَّة بكفاءة، منها قطاع الخدمات السياحيَّة.
يعدُّ قطاع السياحة من القطاعات المؤثِّرة في أداء الاقتصاد ونموُّه . وتستمدُّ أهمِّيَّته من تأثيره المباشر في المتغيِّرات الاقتصاديَّة الأساسيَّة؛ الإنفاقين الاستهلاكي والاستثماري، والطلب الكلِّي، والناتج المحلِّي الاجمالي، والدخل القومي. وتأثيره كذلك في سوق العمل ومستوى الاستخدام. و إسهامات مباشرة اخرى كخلق فرص استثماريَّة للمواطنين والمستثمرين الأجانب . ووفقًا لتقريرمجلس السياحة والسفرالعالمي الصادرعام 2018، بلغت مساهمة قطاع السياحة في إجمالي الناتج المحلِّي العالمي 8272.32 ترليون دولار أمريكي وبنسبة العشرة من المئة . كما أوجد القطاع 313.2 مليون فرصة عمل؛ بنسبة تقارب العشرة من المئة من إجمالي قوَّة العمل العالمي. و بيَّنت دراسة صندوق النقد العربي الصادرة في شهر أكتوبر الماضي (2020) وجود علاقة متينة بين نموالنشاط السياحي ونموِّ الاقتصاد. فارتفاع النشاط السياحي في الدول العربيَّة بنسبة واحد من المئة أدَّت الى رفع النمو الاقتصادي فيها بنحو 0.36%.
مع أهميَّة الاستثمارالسياحي وعلاقته بتطويرالقطاعات الخدميَّة والإنتاجيَّة، ودوره في ولادة نشاطات مبتكرة جديدة ، ألَّا أنَّه يحمل قدرًا عاليًا من المخاطر لتأثره بالصدمات الخارجيَّة والداخليَّة، وحساسيَّته العالية للأزمات الماليَّة والتقلُّبات الاقتصاديَّة وحالات عدم اليقين في أداء الاقتصاد العالمي.
بناء قطاع سياحي ناجح، قد تبدوا مهمَّة سهلة التحقيق إذا توفَّرت المصادر الماليَّة والقوى البشريَّة والبُنى التحتيَّة، إلَّا أنَّها مهمَّة معقَّدة تتطلَّب وجود مقوِّمات اقتصاديَّة، وبيئة اجتماعيَّة ملائمة. ثمَّة فرق شاسع بين تأسيس شبكة من الفنادق والمطاعم ومراكز الترفيه والتسوق ،وبناء قطاع سياحي فاعل. التجربة العالميَّة تشيرإلى اخفاق الكثير من الدول في تأسيس قطاع سياحي ناجح لعدَّة أسباب ،أهمُّها فشل الإدارات في إدراك طبيعة قطاع السياحة وعلاقاته وتحدياته . وعدم اعتمادها استراتيجيَّة قائمة على معاييراقتصاديَّة، كخيارات المستهلكين وسلوكهم ، واستثمار الميزة التنافسيَّة السياحيَّة للبلد أوالإقليم.
ما هي الاستراتيجيَّة المثلى لبناء قطاع سياحي ناجح وفعَّال؟ وماهي أسس الاستراتيجيَّة ومقوِّماتها؟
نجاح جهود تأسيس قطاع سياحي يسهم في تنمية الاقتصاد، يتوقَّف على تبنِّي رؤية سياحيَّة واقعيَّة منسجة مع الخصوصيَّات المحلِّيَّة. وكذلك توفير منظومة سياحة داخلية ودوليَّة متكاملة ، تقدِّم مزيجًا من النشاطات الثقافيَّة والفعاليَّات الترفيهيَّة والمواقع الحضاريَّة والطبيعيَّة ، إضافة إلى توفير بنى تحتيَّة وشبكة خدمات مكمِّلة للنشاطات السياحيَّة.
تخطِّي معوِّقات بناء صناعة سياحيَّة ناجحة، والوصول إلى أهداف خطَّة تنمية القطاع السياحي في المملكة، يتطلَّب مراعاة جملة من المقوِّمات ألاساسيَّة؛ أبرزها:
أوَّلًا، وضوح الاستراتيجيَّة والأهداف، وتحديد هويَّة النشاط السياحي المنشود. هل الهدف بناء قطاع سياحي متكامل ومستدام، أو تقديم أطر سياحيَّة قائمة على عرض فعاليَّات وأنشطة ثقافيَّة أوترفيهيَّة أوتجاريَّة موسميَّة موزَّعة وفق برنامج زمني ثابت يكرَّر سنويًّا ؟ وضوح الاستراتيجيَّة عامل أساس لتصميم خطَّة تسويق فعَّالة، وحثُّ الطلب على خدمات الدولة السياحيَّة.
ثانيًا، التوازن بين السياحتين الداخليَّة والدوليَّة، ورفع نسبة إسهام السياحة الداخليَّة من مجموع إسهام القطاع السياحي في الناتج المحلَّي الإجمالي. بناء قطاع سياحي ناجح، يتطلَّب اعتماد استراتيجيَّة متوازنة قائمة على تنمية السياحة الخارجيَّة والسياحة الداخليَّة. رفع حجم السياحة الداخليَّة يتيح للمخطِّط الاقتصادي استخدامها مستقبلًا لمجابهة انخفاض مستوى السياحة الدوليَّة نتيجة تراجع الطلب العالمي على السياحة. ويسهم كذلك في زيادة الطلب الكلِّي على السلع والخدمات ويقلِّل التسرُّب النقدي خارج دورة الاقتصاد الناجم عن سفر المواطنين خارج البلد لأغرض السياحة .
ثالثًا، بناء قطاع سياحي مثمر اقتصاديًّا مرهون بتقديم حزمة متكاملة من الخيارات الثقافيَّة والطبيعيَّة والترفيهيَّة الراقية والملبيَّة لطلب المستهلكين المحلِّيين والدولِّيين. استراتيجيَّة السياحة المستدامة، يجب ان تربط عناصر الثقافة الوطنيَّة والتراث بعناصرالترفيه والرفاهية، ومواقع الجذب الأثري والتاريخي. الإستراتيجيَّة تتطلَّب أيضًا استثمار التنوُّع الفصلي والجغرافي المحلِّي، والفروقات الإقليميَّة في برامجها السياحيَّة. الدول ذات القطاعات السياحيَّة الثلاث الأكبر في العالم؛ فرنسا وإسبانيا وإيطاليا، نجحت في تقديم مزيج متميِّز من النشاطات الثقافيَّة والترفيهيَّة والطبيعة الخلَّابة.
رابعًا، تجنُّب استخدام الاستراتيجيَّات المبنية على فرضيَّات ومعلومات ثانويَّة وقواعد بيانات غيردقيقة. قياس طلب المستهلكين الخارجيِّين والمحليِّين من خلال استطلاع آرائهم، وتشخيص أذواقهم وخياراتهم، يعدُّ العامل الأهمُّ في بناء استراتيجيَّة سياحيَّة فاعلة . كما أنَّ نجاح استراتيجيَّة السياحة، يتطلَّب أيضًا تفادي استنساخ تجارب الدول الأُخرى. فلكلَّ تجربة خصوصيَّتها وظرفها التاريخي. المملكة العربيَّة السعوديَّة زاخرة بعناصر الجذب السياحي الثقافيَّة منها والفكريَّة، والمواقع الأثريَّة والطبيعة المتنوِّعة. كما تمتلك خصوصيَّة وفرادة، ومقوِّمات أُخرى، تتيح بناء تجربة ناجحة ومتميِّزة.
خامسًا، تضمين استراتيجيَّة القطاع السياحي آلياتٍ دفاعٍ مُصمَّمةً لتقليل أثر الصدمات الخارجيَّة، وأن تحتوي عناصر القدرة على الاستمراريَّة. الطلب الخارجي على السياحة- كما سبقت الإشارة إليه- غير مستقرٍّ ويتأثَّرسلبًا بالأزمات الماليَّة الخارجيَّة، وبانكماش الاقتصاد العالمي . أحد أهمِّ الخيارات المتاحة لمجابهة الصدمات يكمن في رفع حجم نشاط السياحة الداخليَّة للتصدِّي لحالات تراجع الطلب الخارجي.
سادسًا، رسم سياسة سعريَّة تنافسيَّة فاعلة مستندة على تشخيص نقاط الجذب السياحي، وتحليل أسعارالخدمات السياحيَّة المعروضة في الأسواق المنافسة. كذلك، ضرورة تشخيص المزايا التنافسيَّة للنشاطات والمواقع السياحيَّة في المملكة.
إلى جانب المقوِّمات الأساسيَّة أعلاه، ثمَّة مجموعة أُخرى من متطلَّبات بناء قطاع سياحي مستدام، أهمها: توفيرالموارد الماليَّة والعناصرالبشريَّة الكفوءة، وبنية تحتيَّة حديثة ، وحملة تسويقيَّة فعَّالة ذات محتوى راق. وبرامج تشجيع الاستثمارات السياحيَّة، وتمويل نشاطات القطاع الخاص ومشاريعه.
بناء قطاع سياحي ناجح، مهمَّة تعتريها تحدِّيات ماليَّة واجتماعيَّة جادَّة ومعقَّدة، وتتطلَّب توفيرمقوِّمات اقتصاديَّة وبيئة اجتماعيَّة ملائمة، ووعي ثقافي سياحي. لا ريب في وجود ارتباط متبادل ووثيق بين تطوُّر الفعاليَّات السياحيَّة ومستواها وتطوُّر المجتمع . ازدهار النشاط السياحي يعتمد على مستوى رقيِّ المجتمع، لكنه في الوقت ذاته، يسهم في تنمية البُنى الاجتماعيَّة المتطوِّرة .
لقد تمكَّنت المملكة من اتخاذ خطوات نوعيَّة على صعيد بناء قطاع سياحي مستدام. لكن ما زال هناك العديد من المهام التنفيذيَّة الواجب إنجازها لبلوغ أهداف الرؤية .
أودُّ أن أختم هذه المشاركة المتواضعة باقتراح تنظيم ” ورشة عمل” تخصَّص لبحث سبل تطويرالقطاع السياحي، وتسريع الوصول إلى أهداف الخطَّة، يشارك فيه المختَّصون والاقتصاديون، وكليات الاقتصاد وإدارة الأعمال في الجامعات السعوديَّة، والمستثمرون إلى جانب الهيئات الحكوميَّة والخاصَّة المعنيَّة بتطوير القطاع السياحي والاقتصاد الوطني وإدارته.
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال