الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
أقرَّ مجلس الوزراء السعودي السياسة الوطنية للسلامة والصحة المهنية في تاريخ 13/6/1442هـ؛ بهدف “تعزيز حماية العاملين في مختلف أماكن العمل على المستوى الوطني، بما يتوافق مع الأنظمة المحلية، والتزامات المملكة بموجب المعاهدات والاتفاقيات الدولية، ومواكبة أفضل الممارسات العالمية التي تتناسب مع سوق العمل السعودي”. وتهدف السياسة كذلك إلى تطوير التشريعات والأنظمة واللوائح والبرامج المتعلّقة بالسلامة والصحة المهنية، وتطوير آليَّات لمراقبة مدى الالتزام بالتشريعات، وتوفير نظام معلومات شامل لإحصائيات السلامة والصحة المهنية. ولا شك أن إقرار المجلس لهذه السياسة يعبّر عن حرص القيادة على توفير بيئة عمل آمنة وصحية للعاملين في المملكة.
ويُعتبر إقرار السياسة الوطنية للسلامة والصحة المهنية امتدادًا لأنظمة وتشريعات سابقة سعت إلى حماية العمال العاملين في المملكة؛ لعل أولها كان نظام تعويض عمال المشاريع الصناعية الفنية، والصادر في تاريخ 2/6/1356هـ. ولقد شهدت المملكة منذ ذلك الوقت تطويرًا في إقرار السياسات والأنظمة والتشريعات التي تدفع القطاع الخاص لتحقيق مستويات عالية من السلامة والصحة المهنية. فقد نصَّ نظام العمل ولائحته التنفيذية على العديد من الحقوق المكفولة للعمال في مجال السلامة والصحة المهنية. كما صدرت قرارات وزارية مختلفة تعزّز من حماية العمال؛ ومن ضمنها: قرار حظر التدخين في أماكن العمل، وقرار حظر العمل تحت أشعة الشمس، بالإضافة إلى الموافقة على لائحة إدارة السلامة والصحة المهنية، وغيرها من الحقوق الأخرى المكفولة للعمال بأدوات تنظيمية مختلفة.
إن البيانات الصادرة من المؤسسة العامة للتأمينات الاجتماعية تشير إلى انخفاض أعداد إصابات العمل المسجلة في منشآت القطاع الخاص بالمملكة خلال السنوات الماضية؛ حيث أشارت بيانات المؤسسة إلى تسجيل 28،813 إصابة عمل في عام 2020م، مقارنة بـ 102،259 إصابة عمل تم تسجيلها في عام 2005م، أي بنسبة انخفاض تساوي 72%. ولم تكن أعداد إصابات العمل المسجلة في عام 2019م (30،547 إصابة) مختلفة كثيرًا عن أعداد إصابات العمل المسجلة في عام 2020م. ولهذا، فإن تأثير جائحة كورونا وحدها على الأنشطة الاقتصادية المختلفة، قد لا يفسّر الانخفاض الحاصل في عدد الإصابات المهنية المسجلة.
وبعد كتابة هذه المقدمة، أعود إلى السؤال المطروح في العنوان: “ما واقع الإصابات المهنية في منشآت القطاع الخاص؟” إن قِلّة البيانات المتوفّرة عن هذه الجزئية تجعل الإجابة عن هذا السؤال أمرًا معقدًا. فلا يوجد -على سبيل المثال- سبب واضح يفسّر الانخفاض الكبير في عدد الإصابات المسجّلة خلال السنوات الماضية.
ويدفعني السؤال المطروح في العنوان إلى طرح أسئلة أخرى في هذا المجال: كم عدد الإصابات المهنية الواقعة في منشآت القطاع الخاص والتي لم تقم تلك المنشآت بالتبليغ عنها؟ وكم كان عدد الإصابات المهنية التي يمكن تجنّبها في حال وفَّرت المنشآت لعُمّالها سبل الوقاية ووفّرت لهم تجهيزات السلامة؟ وكم تبلغ تكلفة الإصابات المهنية على اقتصادنا الوطني؟ والهدف من طرح مثل هذه الأسئلة هو فهم واقع الإصابات المهنية في منشآت القطاع الخاص بشكل دقيق.
فإذا راجعنا إحصاءات إصابات العمل في قطاع التشييد والبناء، وقمنا بتحليل البيانات التي تم نشرها مِن قِبَل المؤسسة العامة للتأمينات الاجتماعية؛ فإننا سنجد أن معدل إصابات العمل في قطاع التشييد والبناء في المملكة يبلغ قرابة 5 إصابات لكل 1000 عامل في السنة. بينما يبلغ معدل إصابات العمل في الولايات المتحدة الأمريكية -والتي تطبّق مستويات عالية من السلامة- للقطاع نفسه نحو 26 إصابة لكل 1000 عامل في السنة. وهذا يدعونا إلى التأمل في التساؤل الذي طرحته في الفقرة السابقة عن عدد الإصابات المهنية في منشآت القطاع الخاص، والتي لم تقم تلك المنشآت بالتبليغ عنها.
وفيما يتعلق أيضًا بقطاع التشييد والبناء؛ نشرت المجلة السعودية لعلوم الحياة دراسة حديثة لمجموعة من الباحثين قاموا بدراسة أسباب الإصابات العمالية لعدد 300 عامل يعملون في قطاع التشييد والبناء في محافظة جدة. وقد توصّل الباحثون القائمون على هذه الدراسة إلى أن أهم أسباب تلك الإصابات تعود إلى غياب التوعية والخبرة اللازمة للعاملين، وعدم صيانة الآلات والمعدات بصورة دورية، وعدم تدريب العاملين على استخدامها، وعدم توفير معدات الحماية الشخصية لهم، بالإضافة إلى غياب مشرفي السلامة في الموقع. ولعل معظم تلك الإصابات كان من الممكن تجنّبها لو تم تطبيق معايير السلامة اللازمة نظامًا.
إن أضرار الإصابات المهنية لا تقتصر فقط على العناء الجسدي والنفسي الذي يصيب كلاً من العامل المصاب وأُسرته، وإنما تعود أضرارها على الاقتصاد الوطني كذلك. فلقد بلغت مصروفات المؤسسة العامة للتأمينات الاجتماعية على منافع فرع الأخطار المهنية منذ بداية تطبيقه في عام 1982م حتى نهاية عام 2019م أكثر من 11.45 مليار ريال، وبلغت نفقات العناية الطبية وحدها في عام 2019م أكثر من 451 مليون ريال. ولو أردنا حساب التكاليف غير المباشرة لهذه الإصابات؛ مثل: نفقات الأعباء الإدارية، والخسائر المالية الناجمة عن فقدان الإنتاجية، لكانت تكلفة الإصابات المهنية على اقتصادنا أكبر بكثير من الأرقام التي أشرتُ إليها.
لعل الأرقام التي ذكرتها في هذا المقال تُعطينا لمحةً عن واقع الإصابات المهنية لدينا في منشآت القطاع الخاص، لكنّها لا تعطينا إجابةً واضحةً عن السؤال المطروح في العنوان. إن غياب بعض البيانات المهمة؛ مثل: عدد أيام العمل الضائعة بسبب الإصابات المهنية، وعدد إصابات العمل مقارنة بحجم المنشآت، ومتوسط ساعات عمل العمال في القطاعات المختلفة؛ كل ذلك يشكّل عائقًا في حساب بعض المؤشرات الرئيسية للسلامة والصحة المهنية.
ولقد نصَّت السياسة الجديدة على ضرورة توفير نظام معلومات شامل لإحصائيات السلامة والصحة المهنية، والتي نأمل من خلالها أن تتطور البيانات المرصودة في هذا المجال؛ حتى نتمكن من فهم وتحليل واقع إصابات العمل في منشآت القطاع الخاص، ومعالجة مكامن الخلل، وتحقيق بيئة عمل آمنة وصحية ومستدامة.
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال