الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
قدَّمنا في الجزء الأوَّل من هذه المساهمة تفسيرالاقتصاد الحضري لأسباب نشوء أزمة التنقُّل، والاختناق المروري في طرق المدن الداخليَّة التي تعدُّ من أصعب التحدِّيات التي تواجهها إدارة المدن حدَّة وتعقيدًا. كما استعرضنا عددًا من الخيارات الضريبيَّة المتاحة للحكومات المحليَّة لمعالجة الأزمة، أو تخفيف تبعاتها.
بالإضافة إلى ما قُدَّمَ من خيارات ضريبيَّة، ثمَّة أُخرى غيرضريبيَّة تستخدم بشكل واسع في غالبيَّة المدن الكبرى للحدِّ من آثار أزمة الطرق السلبيَّة على منافع السكَّان. أدناه عرضٌ مختصرٌ لأكثرها استخدامًا وفعاليَّةً ونجاحًا:
1- تخصيص مسار أو عدد من مسارات الطرق الداخليَّة الرئيسة (ممرًّا سريعًا- Express Lane ) لاستخدام وسائط النقل العام خلال ساعات الذروة. ويُسمح للمركبات الخاصَّة استخدامها وفق شروط محدَّدة؛ أهمُّها وجود حد ٍّ أدنى- راكبٍ واحدٍ أو اثنين مع السائق في المركبة.
2- تبنِّي خيار المسارات المرنة والمتغيِّرة بتخصُّص غالبيَّة مسارات الطرق الواسعة في ساعات ذروة الصباح المروريَّة للسير في اتِّجاه مركز المدينة، ويُعكس توجُّه سير المسارات في ذروة المرور المسائيَّة. تبنَّت هذه السياسة المروريَّة مدن عديدة، منها العاصمة اليابانيَّة “طوكيو” التي نجحت في تطبيقه منذ بداية ثمانينيَّات القرن الماضي واحدًا من أدوات استراتيجيَّة إدارة طرق العاصمة.
3- السيطرة على إصدر تراخيص جديدة للمركبات بتقنين إصدارها، أو تحديد مدَّة صلاحيَّتها بسنوات معدودة تلغى بعدها الرخصة، ولايمكن تجديدها تلقائيًّا إلَّا بدفع مبلغ نقدي مرتفع جدًّا. طبَّقت سنغافورة هذا النظام من أجل تخفيض عدد المركبات في شوارعها، فتمكَّنت من السيطرة على الازدحام المرورري.
4- تحفيز استخدام وسائط النقل العام، واعتمادها في تنقُّل الأفراد داخل المدن الكبيرة والمتوزِّعة أفقيًّا. يعدُّ هذا الخيار من أكثرحلول أزمة الاختناق المروري فعالية.
ويتطلب نجاحه بناء منظومة نقل عام حديثة ومتكاملة، متكوِّنة من شبكة خطوط المترو، وحافلات النقل العام الداخلي، وخطوط السكك الحديديَّة الخفيفة، وشبكة من مواقف المركبات . التوسُّع في استخدام وسائط التنقل العام، يقابله غالبًا انخفاض في عدد المركبات الخاصَّة في الطرق الداخليَّ ، ويؤدِّي إلى رفع انسابيَّة المرور، ويخفِّف من حدِّة الاختناق المروري.
ومع انتشار استخدام وسائط النقل العام، وأثرها الواضح في تقليل أزمات الطرق الداخليَّة ومخاطرها، وفي زيادة منافع سكَّان المدينة إيضًا، ما تزال نسبة استخدام الأفراد لها متدنِّية نسبيًّا في غالبيَّة مدن العالم، مماثلة بنسب استخدام المركبات الخاصَّة. كما تتباين نسب الاستخدام تبعًا لحجم المدينة، ومعدَّل الدخل الفردي أو الأسري ، فترتفع معدَّلات استخدام الأفراد والأسر ذوي الدخل المحدود، وسكان مراكز المدن الكبيرة.
لقد أخفقت تجارب النقل العام في العديد من المدن ، منها مدن خليجيَّة في الوصول إلى معدَّل استخدام مجدٍ اقتصاديًّا وكفوء. فتحوَّل نظام النقل العام إلى وسيلة تنقُّل “طبقيَّة” إن جاز التعبير، بدلًا من اتِّخاذها وسيلة نقل عام أساس من شرائح المجتمع كافَّة.
من الضرورة أن تبادر إدارات المدن المقبلة على توسيع شبكات النقل العام، أو التنقُّل الجماعي، ومنها مدينة الرياض إلى دراسة تجارب المدن الأُخرى، ومراجعة أسباب إخفاقها في تعميم ثقافة التنقُّل العام، وإطلاق حملة إعلاميَّة شاملة لتوعية السكاَّن بمنافع استخدام وسائط النقل العام في تنقُّلاتهم اليوميَّة.
لا جدال في أهميَّة دورالحكومات المحليَّة ومسؤوليَّاتها عن كفاءة إدارة الطرق الداخليَّة، وفرض السياسات الكفيلة في حلِّ أزمات الطرق، وتصحيح تبعاتها السلبيَّة على منافع السكَّان. تتوقَّف فعاليَّة السياسات الحكوميَّة ونجاحها إلى حدٍّ كبير على نهج السكَّان وسلوكيَّة سائقي المركبات الخاصَّة، والتزامهم بقواعد القيادة، وسياقاتها السليمة، واحترامهم آداب استخدام الطرق. إنَّما الأهمُّ من كلِّ ذلك، احترام حقِّ الآخرين في استخدام الطرق بأمان. التزام الأفراد بالقواعد المرورية يفضي إلى تخفيف أزمات الطرق الداخليَّة من خلال تقليل حوادث الطرق، وتحسين انسيابيَّة مرورالمركبات.
المؤسَّسات العامَّة والخاصَّة بمقدورها الإسهام في تخفيف الضغط على الطرق الداخليَّة أيضًا من خلال جدولة توقيت بدء ساعات العمل اليومي للعاملين، ووقت انتهائها، وتوزيعهم على وجبات عمل زمنيَّة متباينة وتبني عدد اخر من الخيارات.
ماذا عن حلول إدارة عرض الطرق! هل يُجدي توسيع طاقة الطرق الاستيعابيَّة؛ توسيع الطرق الداخليَّة، أو إنشاء طرق جديدة في حلِّ أزمة الاختناق المروري؟
تحديد حجم الطاقة الكفوءة للطرق الداخليَّة، أو توسيعها يجب أن يستند على معايير اقتصاديَّة محدَّدة. أوَّل هذه المعايير، ضرورة مماثلة المنافع الاجتماعيَّة المترتِّبة عن توسيع طاقة الطرق بكلفها. فإن كانت الحكومة المحليَّة تجبي “ضريبة الزحام” من مستخدمي الطرق الداخليَّة ، يجب عليها مماثلة حصيلة الإيرادات الضريبيَّة المتوقَّعة من توسيع الطريق أوالطرق بكلف الإنشاء، ويتمُّ التوسيع إذا فاقت الإيرادات كلف التوسيع. في هذه الحالة، تتمُّ تغطية كلف الإنشاء والتوسُّع من قبل مستخدمي الطريق في مدَّة زمنيَّة محدَّدة.
ما يهمُّنا في هذا السياق، تحديد أثر سياسة توسيع الطرق في حلِّ أزمة الزحام والاختناق المروري. برهنت تجارب العديد من العواصم والمدن الكبرى عدم فعالية سياسة إدارة العرض؛ (توسيع، أو إنشاء طرق جديدة ) وإخفاقها في تصويب الاختلال المروري، وإزالة أسباب الاختناق. فالأزمة المروريَّة ليست (مشكلة عرض)، بل أزمة طلب، وحلُّها لا يكمن في الخيارات الهندسيَّة، بل بتقليل استخدام المركبات الخاصَّة بمعدَّلات عالية.
يرجع فشل خيارات عرض الطرق إلى ما يطلق عليه خبراء الاقتصاد الحضـري (الطلب المكبوت- Latent Demand). منحنى طلب الأفراد على التنقُّل في وقت الذروة عالي المرونة، حيث يتوقَّف عدد كبير منهم عن استخدام الطرق الداخليَّة المزدحمة خلال ساعات الذروة خاصَّةً بسبب بطء حركة سير العربات. لكنَّهم سرعان ما يعودون لاستخدامها بعد توسيعها. هذه العودة تقود إلى رفع مستوى الطلب، وزيادة عدد المركبات في الطرق الداخليَّة، وعودة الاختناق المرورري مجدَّدًا .
توسيع الطرق – كما أسلفنا – لا يقدِّم حلولًا لمشكلات المرور والتنقُّل. وإدارات المدن لا يمكن لها الاستمرار في توسيع طرقها أو إنشاء طرق جديدة لسببين؛ كلف الإنشاء الباهظة أوَّلًا، وعوامل تتعلَّق بتوازن توزيع مساحة المدينة بين الاستخدامات المختلفة. الاستراتيجيَّة الأمثل للحد ِّمن تبعات الاختناق المروري، تكمن في تتنظيم الطلب على التنقُّل وتخفيض عدد المركبات في طرق المدينة الداخليَّة، المحوريَّة والأساسيَّة خاصَّة. تحفيزسكان المدينة على استخدام وسائط النقل العام، واعتمادها في تنقُّل الأفراد داخل المدن الكبيرة والمتوزِّعة أفقيًّا يعدُّ اكثر الخيارات فعاليةَ ونجاحاَ.
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال