الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
تناولنا في الجزء السابق من هذه المساهمة جوانب من اقتصاد المدن، وعرضنا بإيجاز منافع التكتُّل الصناعي الموضعي ودوره في نشوء المدن. كما بيَّنا دور العوامل الاقتصاديَّة في تباين حجم المدن. سنقدم في هذا الجزء جانبين أساسين من اقتصاد المدينة: الأوَّل، عرض منافع توسيع حجم المدينة، وتكاليف التوسُّع الاجتماعيَّة. والثاني، تبيان أهم المعايير الاقتصاديَّة الواجب مراعاتها عند اتِّخاذ قرارتوسيع حجم المدينة.
الالتزام باعتماد أسس الاقتصاد الحضري في توسيع حجم المدينة؛ (مساحة أو سكَّانًا) قد يفضـي إلى عدد من النتائج الاقتصاديَّة الإيجابيَّة، منها: ارتفاع الإنفاقين الاستهلاكي والاستثماري، وزيادة قيمة خزين الوحدات السكنيَّة والأبنيَّة التجاريَّة، وتنشيط قطاع الخدمات الإستهلاكيَّة، وزيادة مستويات الإنتاج والمبيعات، وارتفاع معدَّل الربحيَّة والطلب على العمل.
هذه المكتسبات الإيجابيَّة من التوسع تحفِّز الطلب الكلِّي على السلع والخدمات، وتزيد قيمة الناتج المحلِّي الإجمالي. إلى جانب هذه المنافع الاقتصاديَّة المباشرة، ثمَّة مكاسب اقتصاديَّة غيرمباشرة من توسيع نطاق المدينة، كإعادة توزيع الكثافة السكانيَّة، وحل المشكلات الحضريَّة الناجمة عن ارتفاع نسبة التمركز السكَّاني .
ماذا عن نفقات توسيع حجم المدينة؟ نموُّ المدينة ليس خاليًا من الكلف، بل تترتَّب عن الزيادة نفقات ماليَّة وكلف اجتماعيَّة متعدِّدة اهمها التناقص المحتمل في منافع قاطني المدينة ورفاهيَّتهم. تجارب المدن التي أغفلت معاييرالاقتصاد الحضري ولم تعتمد الأسس الاقتصاديَّة الخاصة بتوسيع حجم المدينة، برهنت على وجود علاقة سببيَّة وثيقة بين توسع حجم المدينة والتناقص التدريجي في منفعة القاطنين ورفاهيَّتهم.
في المراحل الأوليَّة لنشوء المدينة وتوسُّعها، تكون قيمة المنافع المترتِّبة عن زيادة حجمها أكبر من التكاليف الاجتماعيَّة. فنموُّ المدينة، يحفِّز النشاط الاقتصادي، ويرفع حجم التبادل السلعي والخدمي، ويزيد منافع السكَّان ومستوى رفاهيَّتهم. لكن في مراحل لاحقة، وبعد بلوغ حجم المدينة مستوى معيَّن، يقود التوسُّع غير المبني على أسس الاقتصاد الحضري إلى تغيير معادلة المنافع والكلف، فتزداد كلف التوسُّع الاجتماعيَّـة، ويبدا التراجع التدريجي في منافع السكَّان وتناقص مستوى رفاهيتَّهم. لذلك من الضرورة أن يتمَّ قياس أو تقدير مستوى منافع الزحف الحضري وكلفه قبل الشروع في تنفيذ خطط النموِّ العمراني. قد يكون الوصول إلى هذه الحسابات، أو التقديرات ليس بالسهولة التي تطرحها الفرضيَّات الاقتصاديَّة، لكنَّها ممكنة! وقد نجحت في احتسابها وتقديرها إدارات مدن عدَّة.
هناك نمطان رئيسان لتوسع حجم المدينة ونموِّها:
الأوَّل، النموَّ الطبيعي أو المتدرِّج الناجم عن التكاثر السكَّاني داخل المدينة، أوعن الهجرة الداخليَّة والخارجيَّة. زيادة السكَّان ترفع الطلب على الوحدات السكنيَّة، وعلى طرق المواصلات والخدمات الإداريَّة والسلع العامَّة والخاصَّة. وهذه التغيرات تؤدِّي الى اتِّساع نطاق المدينة. حجم النموِّ الطبيعي وسرعته تحدِّدهما قوَّة تفاعل العلاقات الاقتصاديَّة السائدة في المدينة، ونشاط أسواقها، وسوق العمل خاصَّة. بالإضافة إلى تأثير عوامل خارجية أُخرى، من أهمِّها الطلب الخارجي على السلع والبضائع المنتجة داخل المدينة.
أمَّا النمط الثاني؛ النموُّ المخطَّط، ويقصد به التوسُّع الناتج عن قرار الحكومة المركزيَّة، أو الحكومة المحليَّة في توسيع نطاق المدينة إلى حجم محدَّد يتناسب ومتطلبات خطط التنمية ، ويعزِّز قدرات الاقتصاد الوطني واستقراره. لا ريب أنَّ دور الحكومة الحيوي في تطوير المدن وتوسيعها منطلق من قدرتها على تغطية كلف النموِّ الماليَّة والهندسيَّة، وفي توفير السلع العامَّة، بالإضافة إلى قدرتها على معالجة آثار النموِّ السلبيَّة المحتملة في منافع المواطنين ورفاهية المجتمع .
الوصول إلى نموذج النموِّ الحضري الأمثل الفعَّال، وتحقيق النتائج الاجتماعيَّة والاقتصاديَّة المنشودة من خطَّة توسيع المدينة، يتطلَّب اعتماد معاييرالاقتصاد الحضري والالتزام في تطبيقها. اتِّباع هذه المعايير، لا يضمن تحقيق النتائج المثلى، لكنَّه على الأغلب، يقلِّل من تبعات توسيع حجم المدينة السلبيَّة على منافع المواطنين ورفاهيتَّهم.
أهمَّ ما يتوجَّب اعتماده من معايير:
أوَّلًا، تشخيص أهداف النموَّ الحضري” توسع المدينة”، وتحديد آليَّاته وتوقيته الزمني بوضوح ودقَّة. توسيع المدينة، يجب ان يكون مرتبطا بخطَّة التنمية الاقتصاديَّة والاجتماعيَّة ، وعلى أن يسهم في نموِّ الاقتصاد الوطني. كما أنَّ نمو المدينة، يجب أن يكون جزءًا من خطَّة تنمية المناطق أوالأقاليم ومنسجمًا مع أهدافها ومسيرتها وليس بمعزلٍ عنها.
ثانيًا، ضرورة ارتباط التوسَّع العمراني، وحجم الاستثمارالعام بالبنى التحتيَّة، وعرض السلع العامَّة، بمتطلَّبات نموِّ سكَّان المدينة وطلباتهم. حجم التوسُّع المطلوب، يجب أن يكون مشتقا من طلبات السكَّان وحاجاتهم لتوسيع الحيَّز المكاني. لذا، يجب مراعاة نسب الأشغال، أو نسب الوحدات السكانيَّة والتجاريَّة الشاغرة في المدينة عند تصميم نطاق التوسُّع . كما يجب استناد التوسُّع على دراسات النموِّ السكَّاني والتوقُّعات الديموغرافية المستقبليَّة الدقيقة لتجنُّب إشكاليَّات عدم التوازن بين عرض الخدمات الحضريَّة والطلب عليها .
ثالثًا، التحليل المسبق لتبعات توسيع حجم المدينة على منافع الأفراد ورفاهيَّة المجتمع، وتجنُّب تأثيره السلبي في جودة الحياة في المدينة ، وضرورة ابتكارمصادر جديدة لتمويل مشاريع التوسُّع وكلف السلع العامَّة، وتفادي زيادة العبء الضريبي على سكَّان المدينة ومنشآتها، وعدم تحميلهم كلف الزحف العمراني.
رابعًا، تهيئة مستلزمات الحياة الضروريَّة ومتطلَّبات الأمن الاجتماعي الأساسيَّة كالمياه والغذاء وخدمات الرعاية الصحيَّة والأمن والسلامة ومصادر الطاقة. بالإضافة إلى توفير البنى التحتيَّة الأساسيَّة والمنافع العَّامة الأُخرى. طلب سكَّان المناطق الجديدة يجب ألَّا يخلق ضغوطًا على عرض الخدمات والموارد في المدينة.
خامسًا، تأمين نموِّ حضري متوازن، وتفادي خلق مناطق (جيوب سكنيَّة) متباينة الجودة ومستوى الرقي. خطَّة التوسَّع، يجب أن تتجنَّب خلق ظاهرة “الفلترة”؛ انتقال سكَّان أحياء المدينة القديمة (مركز المدينة) إلى المناطق الحديثة. هجرة السكَّان إلى المناطق الحديثة غالبًا ما يفضي إلى زيادة عرض الوحدات السكنيَّة وانخفاض أسعارها، وبروز ظاهرة المساكن المهجورة، وتردِّي مستوى الحياة في وسط المدينة، وظهور الفجوة الحضـريَّة، وتباين جودة الحياة بين قطاعات المدينة وأحيائها.
سادسًا، مراعاة أسس التوازن بين الأقاليم. استراتيجيَّة توسيع المدينة، يجب أن تراعي تبعات الهجرة الداخليَّة الضارَّة على توازن الاقتصاد الوطني، وعلى توزيع الاستثمار الحكومي، وتوازن التنمية بين المحافظات والأقاليم.
إلى جانب المعايير أعلاه، يتحتَّم على استراتيجية توسيع المدينة اعتماد عناصر الاستدامة الاقتصاديَّة والبيئية، وإعداد الأطقم الإداريَّة الكفوءة الملمَّة بماديء الاقتصاد الحضري، وبالطرق الحديثة لإدارة المدن وعرض السلع العامَّة.
( يتبع)
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال