الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
التفكير الإستراتيجي هو التفكير الذي يساعد على إبتكار مستقبل أفضل برؤية واقعية عملية جديدة. وتوون و هورن طرحا في كتابهما (التكفير الإستراتيجي) أن التفكير الإستراتيجي يتم ممارسته من خلال ثلاث مراحل. المرحلة الأولى تسمى مرحلة الهروب من الماضي و تكون فيها عملية تحليل نقاط القوة و الضعف في المؤسسة. المرحلة الثانية تسمى مرحلة التركيز على الحاضر و يكون فيها بحث عن فرص جديدة و التخلص من نقاط الضعف القديمة ببدائل تقنية أو بشرية في نظام العمل. المرحلة الثالثة تسمى إبتكار المستقبل و يكون فيها وضع خارطة الطريق الإستراتيجية. التفكير الإستراتيجي له ثلاث رُتب معرفية. الرتبة الدنيا هي التخطيط الإستراتيجي و يهتم التفكير هنا بوضع أهداف إستراتيجية و طُرق العمل لتحقيقها. الرتبة المتوسطة هي الخطة الإستراتيجية و يكون التفكير مركز على رسم خريطة طريق إستراتيجية واضحة مع إنشاء بطاقة قياس متوازن تساعد على متابعة و مراقبة و إدارة الخطة الإستراتيجية. الرتبة العليا هي الميزانية الإستراتيجية.
سام ريبنيك و ناثان ليفنسون كتبا مقال في مجلة ” ديسترك مانيجمينت” بعنوان (الميزانية الإستراتيجية). هذا المقال عرف الميزانية الإستراتيجية بإنها عملية تحويل الخطة الإستراتيجية إلى حسابات مالية تبين إيرادات و مصاريف و كلفة المبادرات و عائدات الإستثمارات في مؤسسة أو مشروع لمدى طويل من الزمن. إيجابية وجود ميزانية إستراتيجية في الدولة أو المؤسسة يحقق 5 منافع. أولا، الميزانية الإستراتيجية تساعد القيادة على توضيح الأولويات الأستراتيجية بشكل محسوب ماليا. ثانيا، الميزانية الإستراتيجية تساعد المنظمة لترشيد المصروفات و الموارد عبر توقعات مالية لميزانيات سنوات متعددة عوضا عن حسابات لميزانية سنوية ضيقة الأفق. ثالثا، الميزانية الإستراتيجية ترسم بوضوح عائدات الإستثمار و جدوى الإقتراض عبر مدى زمنى طويل. رابعا، الميزانية الإستراتيجية تدفع لحوكمة عملية إعتماد الميزانية السنوية حيث إن التعديلات في الميزانية السنوية لا يتم إعتمادها إلا من خلال حسابات الميزانية الإستراتيجية. خامسا، الميزانية الإستراتيجية تنظم التواصل الشفاف و الموثوق بين السلطة التنفيذية و السلطة التشريعية في الدولة أو بين مجلس الإدارة و الجمعية العمومية في الشركة من أجل صنع قرارات راشدة في إعتماد أو تعديلات الميزانية السنوية.
تشارلز ستيوارت الثالث نشر مقال في مجلة “بوليتكس” بعنوان (إصلاح الميزانية كإجراء تشريعي استراتيجي). ستيوارت عرض تجربة الكونجرس الإمريكي في إعتماد الميزانية السنوية ما بين سنة 1865 و 1921 ميلادي. ستيوارت بين بغياب الميزانية إستراتيجية أن الكونجرس الإمريكي عاش تحت إرهاصات أربع أنواع من الإجرائات التشريعية. الإجراء الأول هو التقشف المركزي حيث يقوم بتقليص مصاريف جميع الولايات من خلال السلطة التشريعية المركزية و لا يسمح بزيادة المصروفات للجميع إلا من خلال موافقة أغلبية السلطة التشريعية مما يجعل الأقلية البرلمانية في عجز من أن تطالب برفع ميزانيتها لسد عجز خاص بولايتهم الصغيرة. الإجراء الثاني هو التوسع المركزي برفع مصروفات جميع الولايات بمعدل زيادة ثابت على حسب نسبة حجم الولاية بغض النظر عن مقدار العجز المتفاوت بين ميزانيات الولايات. سلبية التوسع المركزي أنه لا يتضح أثر معدلات الصرف المتضخمة إلا بعد مدى زمني طويل حيث أن الكونجرس الأمريكي أقر التوسع المركزي في 1878 و لم تستطع السلطة التشريعية تقدير تضخم معدل صرف إلا بعد 6 فصول تشريعية. الإجراء الثالث هو التوسع المتجزء حيث أن كل ولاية تحدد مصروفاتها وفق الطلب و الإحتياج. هذا الإجراء إعتمده الكونغرس قبل 1878 و تسبب بزيادة المصروفات السنوية في الميزانية العامة بشكل يصعب إدارتة مما حد بالكونغرس إلى إعتماد التوسع المركزي للميزانية. الإجراء الرابع هو التقشف المتجزء الذي يجعل كل ولاية تتحكم بمصروفاتها وفق معدل العجز في ولايتها إلا أن هذا الإجراء يصعب تطبيقه بدون منظومة رقابية عُرفت حديثا بالحوكمة الإدارية أو الحوكمة الإقتصادية أو الحوكمة التنظيمية.
لطيف الحسيناوي بالإشتراك مع إلينا أشرف زاده و صلاح الدهش نشروا مقال في مجلة إكوفورم بعنوان (التخطيط المالي الاستراتيجي في الميزانية العامة). المقال بين أن أهم خصائص التخطيط المالي الإستراتيجي يكون بوجود إطار عام للحوكمة التي تفعل عملية تكاملية تربط و تنسق بين الأقسام و الإدارات و الهيئات في المؤسسة أو الحكومة من أجل شراكة كلية في عملية التوقعات و الحسابات المستقبلية للميزانية الإستراتيجية. فيوبيو فريزاتي بالإشتراك مع أندسون أغيار و أماوري ريزيندي نشرو مقال في المجلة الدولية للمحاسبة و إدارة المعلومات بعنوان ( الاستجابات الاستراتيجية لضغوط المؤسسية من أجل النجاح في تحقيق أهداف الميزانية). هذا المقال طرح نموذج الحوكمة التنظيمية التي تمكن المؤسسات و المنظمات من حوكمة الميزانية الإستراتيجية وفق الخطة الإستراتيجية. نموذج حوكمة الميزانية الإستراتيجية تم تصميمه وفق دراسة مسحية شملت 3000 موظف و مقابلة شخصية إلى 70 مدير في شركة متعددة الجنسيات. فكرة النموذج بإن هناك ثلاث مراحل لحوكمة الميزانية الإستراتيجية. المرحلة الإولى هي عملية الإعتياد على المستجدات الأقتصادية من خلال تخطيط إستراتيجي يهدف لتغيير التكنولوجيات المستخدمة و لسن الحلول القانونية الجديدة و لإعادة تنظيم سوق العمل. المرحلة الثانية هي عملية تجسيد الخطة الإستراتيجية في المنظمة من خلال تحديث بطاقة القياس و الهيكلية الإدارية المعنية بالمراقبة و التنسيق و المحاسبة و الإمتثال بالخطة الإستراتيجية. المرحلة الثالثة هي عملية الرسوخ الإستراتيجي من خلال حوكمة ممنهجية تحول الضغوط (التجارية أو السياسية أو الإجتماعية) إلى إستجابات إستراتيجية في ميزانية مالية.
حوكمة الميزانية الإستراتيجية تستطيع أن تتحكم بضغوط على الميزانية الإستراتيجية من خلال 5 إستراتيجيات للإستجابة. الإستراتيجية الأولى هي الرضوخ للضغط بإشتراط الإمتثال لقانون جديد مدروس أو تقليد نموذج مجرب وناجح. الإستراتيجية الثانية هي المساومة مع الضغوط من خلال توزيع المطالبات المالية في ميزانيات متعددة السنوات أو التفاوض حول إقرار ميزانية صفقة مقابل التنازل عن صفقة أخرى أو تهدئة الضغط بطرح بدائل مؤقته. الإستراتيجية الثالثة هي تجنب الضغوط من خلال تبيان عدم مطابقة المطالب مع مبادرات الخطة الإستراتيجية أو إحداث تغييرات جزئية في الخطة بحسب مراجعة دورية للمنجزات أو من خلال إقناع الجمهور بجدوى المسار الإستراتيجي لحل المشكلة في المراحل القادمة. الإستراتيجية الرابعة هي رفض الضغوط من خلال وضع السياسات التفصيلية للميزانية الإستراتيجية أو تجميد مواقع الضغط أو تجاهل المطالبات لحين إتضاح نتائج الخطة الإستراتيجية. الإستراتيجية الخامسة هي معالجة الضغط من خلال وضع نظام تحكم صارم في مواقع الضغط أو إشتراط معايير تفصيلية جديدة للرضوخ للضغط أو البحث عن تحالفات أو شركاء جدد لتنفيذ الخطة الإستراتيجية.
إدارة الإستجابات في الميزانية الإستراتيجية يجب أن تكون لها منهج منظم تمارسة لجنة الحوكمة في الشركة أو لجنة عليا في وزارة التخطيط الإستراتيجي للدولة.
أعضاء هذه اللجنة يجب أن يكونو بمستوى عالى من الخبرة في التخطيط الإستراتيجي المالي مع قدرة عالية في القرائة السياسية أو التجارية لتمكن من تحديد التجاوب الإستراتيجي المناسبة لكل نوع من أنواع الضغط بعد دراسة و تقدير مواقع و شخوص و مبررارت الضغط. الخطة الإستراتيجية يجب أن تكون خطة ديناميكية تتأثر بالمستجدات في البيئة العملية و المناخ العام. فعندما يتم وضع خطة إستراتيجية جامدة لمدة عقد من الزمان فإنها قد تفصل تفكير قيادة الدولة أو الشركة عن الواقع فيتم الجري وراء أوهام بإسم الأهداف الإستراتيجية. و كذلك عندما يتم الإستجابة للضغوط و المستجدات بشكل غير منظم و مدروس فإن هذه الإستجابة قد تؤدي لحرف الخطة و الميزانية الإستراتجية لطُرق غير مدروسة و قد تكون بها مخاطر مستقبلية عالية. فبعد إقرار الخطة الإستراتيجية و الميزانية الإستراتيجة فإن المستجدات يجب أن تخضع لمراحل حوكمة الميزانية الإستراتيجية الثلاث: (1) تقدير فوائد و أخطار المستجدات، و (2) تحديث بطاقة القياس المتوازن ، و (3) تنظيم إستراتيجية الإستجابة. إستراتيجية الإستجابة لا تكتفي فقط بتحديد نوع الإستجابة كتجنب الضغط أو معالجة الضغط. إستراتيجية الإستجابة يجب أيضا أن تحدد منهج الصرف في الميزانية العامة. مثلا، الشركة تعتمد حاليا منهج التوسع المركزي لمصروفات الشراء. أما بحصول المستجدات فعلى الدول أو الشركة إقامة دراسة جدوى لإنتقال إلى منهج صرف أخر مثل لتقشف المتجزء. و بهذه الكيفية تتمكن الدولة أو الشركة أن تكون لها ميزانية إستراتيجية ديناميكية لها ثوابت و لها أيضا متغيرات تتكيف بها مع المستجدات.
إدارة الميزانية الإستراتيجية تتطلب خبرة واسعة في التفكير الإستراتيجي و أيضا هيئات محترفة في إدارة التخطيط الإستراتيجي. النجاح في إدارة الميزانية الإستراتيجية من الإدارات الصعبة و التي يحتمل فيها الفشل في عدة محاولات لحين الوصول لإدارة ناضجة للميزانية الإستراتيجية. لذلك هذه الورقة ستعرض أربع تجارب دولية مختلفة لإدارة الميزانية الإستراتيجية لمعرفة خصائص تلك التجارب و لوضع معيار لتصنيف أنواع التجارب الإستراتيجية لإستخدامها في المقارنات بين التجارب الدولية. التجربة الأولى هي التجربة الأمريكية و هي تجربة متطورة نكشف من خلالها عناصر التطور في إدارة الميزانية الإستراتيجية. التجربة الثانية هي التجربة اللاتيفية و هي تجربة ناجحة في الإدارة الإستراتيجية العامة و سيتم عرض عناصر النجاح في هذه التجربة. التجربة الثالثة هي التجربة الصربية و هي تجربة مجتهدة في الإدارة الإستراتيجية و سنكشف توصيات التجربة التي تساعد على نجاح إدارة الميزانية الإستراتيجية. التجربة الرابعة هي التجربة البحرينية و هي تجربة ناشئة في الإدارة الإستراتيجية و سنعرض تصورات لتطوير التجربة.
1- التجربة الإمريكية
التجربة الإمريكية هي أحد أكثر التجارب المتطورة في إدارة الميزانية الإستراتيجية. الإدارة الأمريكية تصدر بعد إنتخابها الخطة الإستراتيجية المشتركة التي يعتمدها الكونجرس مع الميزانية العامة. الإدارة الإمريكية تصدر سنويا تقرير الأداء السنوي متضمن على عرض نتائج المؤشرات و مركزا على أولوية الأهداف في خطة الإدارة المنتخبة. الإدارة الإستراتيجية في الولايات المتحدة ترتكز على قانون ساربينز أوكسلي الذي أرسى نظام الحوكمة الإدارية في جميع المؤسسات الإمريكية و نظم المحاسبة و التدقيق و الشفافية فيما يتعلق بالميزانية المالية للمؤسسات و الهيئات و الشركات. جيمس ويتاكر في كتابه (بطاقة القياس المتوازن في الحكومة الفيدرالية) يذكر أن أهم عناصر النجاح للحكومة الأمريكية في إدارة الميزانية الإستراتيجية إنها طبقت منهجية بطاقة القياس المتوازن في جميع مؤسسات الدولة بمتتابعات من بطاقات قياس متوازن في الحكومات المحلية. هذه البطاقات قد سهلت حسابات الميزانية الإستراتيجية و إعتماد الميزانيات العامة و جعلت التغييرات في بيئة عمل الحكومة ممكن متابعتها من خلال أرقام مقاسات و مؤشرات. البطاقات كان لها أثر إيجابا في معالجة العجز في حسابات الميزانية العامة.
سام ريبنيك و ناثان ليفنسون في مقال (الميزانية الإستراتيجية) بينا إن تطور الإدارة الأمريكية في إدارة الميزانية الإستراتيجية جعلها تتمكن من الإدارة الناجحة لميزانية أصعب قطاع عام و ألا و هو القطاع التعليمي. الإدارة الأمريكية أستطاعت إن تدير ميزانيات إستراتيجية للقطاع التعليم في مقاطعات متعددة. الإدارة الأمريكية نجحت في طرح ميزانية إستراتيجية متعددة السنوات ساعدت قيادة المقاطعات التعليمية على التركيز على العمل للوصول لإحتيجات مستقبلية كبيرة عوضا عن التشبث لتغطية عجوزات مؤقتة في الميزانية السنوية. الميزانية الإستراتيجية ساعدت القيادة التعليمية على ضبط الرواتب في عقود المعلمين و وضع منهج لزيادة الرواتب وفق تحسنات في المؤشرات الإستراتيجية. الميزانية الإستراتيجية حسنت التوازن بين التوظيف و التقاعد و الترقيات و التنقلات الوظيفية بين المدارس . الميزانية الإستراتيجية رشدت إستخدام الموارد و مكنت المدارس من وضع خطط إستراتيجية تضبط العجوزات بوضع سقوف لسعة الصفوف، و ساعات العمل الإضافية و إستخدام المتقاعدين. الميزانية الإستراتيجية جعلت لإدارة الإمريكية مقياس دقيق لقياس المردود من الإستثمارات التعليمية التي تعرف بسببه كيف تصرف الأموال في المدارس و ما هي النتائج المرتقبة وراء ذلك الصرف من ناحية جودة التعليم و خفض المصاريف و رضا الطاقم التعليمي و تطوير المدارس و تنمية سوق العمل و إرتفاع الدخل الوطني و متوسط دخل الفرد و إنخفاض كلفة الجرائم. التطبيق الراشد للميزانية الإستراتيجية في قطاع التعليم جعل الولايات المتحدة أحد الدول العشر الأوائل من الدول المتعلمة وفقا لأكثر من مؤشر عالمي. فالولايات المتحدة تأتي في الرتبة السادسة بين الدول المتعلمة وقفا لمعيار ” يو إس فُند” و هي في الرتبة الأولى كأفضل نظام تعليم في العالم وفقا لإستبيان “يو إس نيوز” العالمي لعام 2020.
2- التجربة اللاتيفية
جمهورية لاتفيا هي دولة تقع في منطقة بحر البلطيق في أوروبا الشمالية. سجلت لاتفيا أكبر ناتج محلي إجمالي في أوروبا بين 1998-2006. رغم أن الأزمة العالمية في 2008 جعل الناتج المحلي الإجمالي ينخفض 26% إلا أن لاتفيا تمكنت من التعافي من الأزمة المالية خلال سنتان فقط . الأمم المتحدة تصنف لاتفيا كدولة ذات مؤشر تنمية بشرية “مرتفع جدًا”. كل هذه الإنجزات سببها أن لاتفيا جعلت محور الإدارة الإستراتيجية في الدولة هو الشعب.
كارنيتيز و كوتشينسكيس نشرا مقال في مجلة ” الإدارة و إقتصاد الأعمال” بعنوان (التخطيط الاستراتيجي وإدارة عمليات التنمية الوطنية في لاتفيا). المقال يذكر أن لاتفيا بدأت أولا بتأسيس هيكلية إدارية عليا لحوكمة التخطيط الإستراتيجي في لاتفيا. نظام التخطيط الإستراتيجي في لاتفيا إرتكز على مجلس التطوير الوطني الذي يتلقى التوجيهات الإستراتيجية من رئيس الجمهورية ليحولها إلى خطة إستراتيجية. منتدى خبراء إستشاري يعمل تحت مظلة مجلس التطوير الوطني. منتدى الخبراء عبارة عن مجموعة لجان فرعية من الخبراء المختصين بإصدار برامج قطاعات الشأن العام المختلفة مثل الصناعة و التجارة و الصحة إلخ. مجلس التطوير الوطني يحول البرامج المتعددة إلى خطة عمل للفصل التشريعي تتناغم مع أولويات الخطة الإستراتيجية و مستجدات المناخ العام. ثم ينقل مجلس التطوير الوطني خطة العمل إلى مجلس الوزراء من أجل التنفيذ.
مجلس التطوير الوطني في لاتفيا إستشعر مبكرا بأزمة مالية عالمية قادمة فوضع خطة تطوير سباعية مثلت إستراتيجية الدولة ما بين 2007 و 2013. خطة لاتفيا الإستراتيجية ركزت على إدارة مصادر المعرفة في الدولة. خطة إدارة المعرفة اللاتيفية شملت على أربع برامج إستراتيجية. الإستراتيجية الأولى هي إكتساب المعرفة من خلال تعليم و تدريب المواطنين حيث وضعت خطة لزيادة نسبة الخبرات الإحترافية الشابة (أقل من 45 سنة) من 57% إلى 62%. الإستراتيجية الثانية هي خلق المعرفة من خلال تطوير مراكز البحث و التطوير حيث وضعت خطة لتوزيع مراكز البحث و المعاهد العلمية على المحافظات الخمس في الجمهورية عوضا عن تركزها في محافظة ريغا التي كانت تحتضن 70% من مراكز البحث و 80% من الباحثين. الإستراتيجية الثالثة هي إستخدام المعرفة في الإبتكار و الإمتياز التكنلوجي. لاتفيا أدارت ميزانية إستراتيجية لدعم ريادة الأعمال و تطوير الشركات الصغيرة و المتوسطة و زيادة الصادرات في قطاع التقنيات المتقدمة و قطاع تقنيات الإتصالات و المعلوماتية. حسب إستبيان منظمة التعاون و التطوير الإقتصادي لعام 2019، فإن صادرات المعدات الثقيلة إرتفعت في لاتفيا من 20% في 2010 و إلى 30% من إجمالي الصادرات في 2017. يأتي إرتفاع نسبة صادرات المعدات الثقيلة على حساب إنخفاض نسبة صادرات الصناعات الخشبية و الورقية التي أنخفضت من 20% إلى 15% من إجمالي الصادرات. لاتفيا أيضا رفعت نسبة صادرات خدمات الإتصالات و المعلوماتية من 5% إلى 15% من إجمالي صادرات الخدمات. الشركات الصغيرة و المتوسطة في لاتفيا اليوم تساهم بمقدار 7% من عدد الإبتكارات التقنية و تحتضن 68% من عدد الوظائف في الدولة و 35% من اللاتيفيين يعملون في شركات متناهية الصغر.
الإستراتيجية الرابعة في خطة تطوير لاتيفيا الوطنية كانت إستراتيجية المحافظة على المعرفة المكتسبة من خلال حفظ الأمن و تحسين الشؤون الإجتماعية و التنمية المستدامة. حوكمة الميزانية الإستراتيجية في لاتفيا كانت تخطط لتحقيق مؤشرات التنمية المعرفية الخاصة بالإتحاد الأوربي، مما جعل لاتفيا تلتزم بحوكمة صعبة تستهلك وقت طويل في صنع القرار الإستراتيجي و لا تستشعر أثر كبير في المؤشرات رغم الإجتهاد في التخطيط الإستراتيجي. إستبيان منظمة التعاون و التطوير الإقتصادي لعام 2019 مازال يصنف لاتفيا كأفقر رابع دولة في الإتحاد الأوربي لأن 18% من شعب لاتفيا تحت خط الفقر بحسب معايير الإتحاد الأوربي.
مؤشر الإتحاد الأوربي يبين أن الثقة بالحكومة و القضاء اللاتيفي أقل من 40% بينما المؤشر يبين أن نزاهة الحكومة اللاتفية تقترب من 60%. لذلك مجلس التطوير الوطني في لاتفيا قرر عدم الإستغراق في مقارنات مع دول الإتحاد الأوربي و يعتمد على حوكمة تركز على الإستقرار الداخلي.
مجلس التطوير اللاتيفي إبتكر مؤشر أسماه مؤشر جودة الحياة. المؤشر شمل التعليم و الصحة و التوظيف و السكن و بناء الأسرة و الأمن العام و الرفاهية المادية.
مجلس التطوير إعتمد على حوكمة الميزانية الإستراتيجية عبر أثر المصروفات السنوية في مؤشر جودة الحياة. و أنتقل المجلس من مقارنة لاتفيا مع دول الإتحاد الأوربي إلى مقارنة لاتفيا مع نفسها عبر الزمن. هذه الحوكمة للميزانية الإستراتيجية جعلت لاتفيا تحقق معدل نمو إقتصادي يفوق 6% في 2011 و كانت هي صاحبة أعلى معدل نمو إقتصادي في أوربا عام 2015.
3- التجربة الصربية
الجمهورية الصربية تملك تجربة مجتهدة في تأسيس نظام للتخطيط الإستراتيجي الوطني. دراجان لونكار نشر مقال في مجلة ” إيكيونميكا بريدوزيكا” بعنوان (التخطيط الاستراتيجي الوطني كأساس للتحسين تنافسية صربيا). التجربة الصربية بدأت التخطيط الإستراتيجي بتصميم مؤشر التنافسية العالمية كقاعدة للخطة الإستراتيجية في صربيا. مؤشر التنافسية الصربية شمل ثلاث مؤشرات فرعية هم:
1- مؤشرالمتطلبات الأساسية مثل البنية التحتية و المؤسسات و الصحة و إطار الإقتصاد العام.
2- مؤشر محركات الكفائة مثل التعليم العالي و سوق العمل و التقدم التقني و النظام المالي
3- مؤشر الإبتكار مثل برائة الإختراع و البحث العلمي
مؤشر التنافسية الصربية إحتوى على 12 موضوع إستراتيجي متقسمين على المؤشرات الفرعية الثلاث. الحكومة الصربية أصدرت في عام 2001 قانون التطوير الإستراتيجي الذي يلزم وزارات و هيئات و شركات الدولة بإن تقدم وثائق إستراتيجية متصلة بالموضوعات الإستراتيجية التي تخص المؤسسة الحكومية. مؤسسات الدولة إلتزمت فعلا بصياغة الوثائق الإستراتيجية و تسليمها لديوان رئيس الوزراء المسؤول عن التخطيط الإستراتيجي في الدولة. ديوان رئيس الوزراء الصربي إستلم حينها 130 وثيقة إستراتيجية. قام ديوان رئيس الوزراء بتصنيف الوثائق الإستراتيجية و وضع الأولوليات الإستراتيجية فيها و صياغة خطة إستراتيجية وطنية مفصلة لعمل الدولة حتى عام 2020. الخطة الإستراتيجية الصربية حددت بوضوح الأهداف الإستراتيجية. الخطة الصربية عملت على أن تكون تحت المظلة الإستراتيجية للإتحاد الأوربي حيث يكون للخطة ثلاث أبعاد إستراتيجية هم :
1- بعد اقتصادي يهتم بالنمو الذكي للتعليم و الإبتكار و المجتمع الرقمي
2- بعد إجتماعي يهتم بالنمو الشمولي للتوظيف و الأمن و التنافس التجاري
3- بعد بيئي يهتم بالتنمية المستدامة للزراعة و الإنتاج و الموارد الطبيعية
الحكومة الصربية قامت بمراجعة إنجازات الخطة الإستراتيجية عام 2008 . المراجعة الإستراتيجية كشفت أن الخطة الإستراتيجية الصربية لم تحدث أثر ملموس في معالجة البطالة و قصور البنية التحتية و العزوف عن الإستثمارات الذكية و تدني كفائة مدراء المؤسسات الحكومية. المراجعة الإستراتيجة قامت بمراجعة الوثائق الإستراتيجية و وجدت أن 90% من الوثائق لا يوجد لها بطاقة قياس تساعد على متابعة و مراقبة الإنجاز الإستراتيجي فيها. 20% من الوثائق الإستراتيجية هي وثائق مكررة و عفا عليها الزمن و يجب إلغائها من سجلات الخطة الإستراتيجية. 47% من الوثائق تحتاج إلى تصحيح و إعادة دراسة و صياغة لتكون قابلة للتطبيق و يمكن بعد ذلك تصميم لها بطاقة قياس.
تحليلات المراجعة الإستراتيجية الصربية توصلت لعدة توصيات التي يمكن الإعتماد عليه من أجل نجاح تحويل الخطة الإستراتيجية إلى ميزانية إسترتيجية قادرة على تطوير الدولة. التوصية الأولى هو أن التخطيط الإستراتيجي الوطني يحتاج إلى وزراة أو هيئة مركزية متخصصة في التخطيط الإستراتيجي التي تقوم بالتنسيق و المتابعة و المراجعة مع جميع مؤسسات الدولة من أجل نجاح التعاون الإستراتيجي في المشاريع المشتركة. التوصية نصحت بدراسة تطبيق مباديء و منهجية الوحدة المركزية للتخطيط الإستراتيجي التي تطبقها مقاطعة إستراليا الغربية.
التوصية الثانية نصحت أن تتبنى جميع مؤسسات الدولة منهجية بطاقة القياس المتوازن من أجل وضع نظام ذكي لمراقبة و متابعة الخطة الإستراتيجية في كل مؤسسة. الوزارة أو الهيئة المركزية للتخطيط الإستراتيجي عليها أيضا أن تتبنى منهجية المتتابعات للبطاقات القياس حيث تقوم بربط جميع بطاقات القياس في مؤسسات الدولة في داخل منصة بطاقة قياس مركزية يمكن من خلالها متابعة و مراقبة الإستراتيجية العامة للدولة و التعمق في التفاصيل من خلال بطاقات المؤسسات المتتابعة معها.
التوصية الثالثة نصحت الحكومة الصربية بإن لا تستغرق بتخطيطها الإستراتيجي وفق مؤشر التنافسية للإتحاد الأوربي. الحكومة الصربية عليها وضع مؤشرات إستراتيجية خاصة بها و تصميم أفكار و مواضيع إستراتيجية في إطارات مرحلية بما يناسب إمكانيات صربيا و تعقيدات المشاكل الاقتصادية و السياسية و الإجتماعية فيها. بعد ذلك، يكون هناك ربط بين الخطة الوطنية و مؤشرات المنظمات العالمية مثل الإتحاد الأوربي و الأمم المتحدة. التوصية الرابعة نصحت الحكومة الصربية بإصدار قانون جديد لإدارة الميزانية العامة يشمل سياسة واضحة لإدارة ميزانية إستراتيجية في صربيا. التوصية نصحت الحكومة الصربية بدراسة قانون إدارة الميزانية العامة الذي أصدرته كرواتيا بإعتبار بإن هناك تقارب في النظام السياسي و الاقتصادي بين البلدين.
4- التجربة البحرينية
مملكة البحرين أطلقت رؤية إستراتيجية عام 2008 تحت مسمى رؤية 2030. الرؤية هدفت إلى تغيير النموذج الاقتصادي الحالي إلى نموذج جديد قائم على ثلاثة مباديء هي الإستدامة و التنافسية و العدالة. طموحات الرؤية هي (1) وجود حكومة فعالة ذات كفائة إستراتيجية، و (2) إقتصاد تنافسي يحفز التنمية و الإبتكار، و (3) مجتمع عادل و مزدهر و متكاتف. المؤسسات التي تعمل لتحويل الرؤية الإستراتيجية إلى خطط إستراتيجية هي أربع جهات. الجهة الأولى هو ديوان رئيس الوزراء الذي يقوم بإعداد برامج الحكومة عند كل فصل تشريعي. الجهة الثانية هو مجلس التنمية الاقتصادي الذي يعمل على دراسة و صياغة القوانين و الأنظمة المتصلة بالسياسة الإقتصادية في البحرين مثل قانون المنافسة و قانون المعاملات المالية الإلكترونية و الأمنة. مجلس التنمية الإقتصادي يقوم أيضا بالتخطيط و التنفيذ لإستقطاب المستثمرين و الإستثمارات الدولية للبحرين. الجهة الثالثة هي وزارة المالية التي تقوم بإدارة الميزانية العامة و إدارة التخطيط و السياسات الاقتصادية و إدارة المؤشرات الإقتصادية. الجهة الرابعة هي هيئة التخطيط و التطوير العمراني و التي تقوم بتصميم و تعديل تفاصيل الخريطة الإستراتيجية لأرض البحرين. هذه الهيئة تنفذ السياسة العامة للتخطيط الحضري والتنمية العمرانية المستدامة وإعداد المخططات الهيكلية والتفصيلية في مختلف مناطق البحرين.
البحرين اليوم بحسب التقارير الرسمية تعاني من عجز في الميزانية العامة يفوق المليار و النصف مليار دينار بحريني. الدين العام في البحرين بلغ 14 مليار دينار بحريني و هو يمثل 100% من الناتج المحلي. هناك إرتفاع في نسبة البطالة بالرغم أن العمالة الوطنية تمثل 23% بينما 77% من القوى العاملة هي عمالة أجنية. هذه المؤشرات تبين حاجة البحرين لتطوير نظام التخطيط الإستراتيجي الوطني من أجل التغلب على هذه التحديات و تحقيق رؤية 2030.
البحرين بحاجة أن تدرس التوصيات الأربع للتجربة الصربية. حيث يكون للبحرين وزارة تخطيط إستراتيجي تقوم بالتخطيط المركزي للدولة و أن تكون تحت مظلتها مجلس التنمية الإقتصادي و هيئة التخطيط و التطوير العمراني و إدارة الميزانية الإستراتيجية و إدارة المؤشرات الإستراتيجية و الإقتصادية و السياسية. أجهزة و هيئات و وزارات و شركات الحكومة يجب أن تكون لها بطاقات قياس متوازن بشكل متتابعات و متصلة بمنصة لبطاقة قياس مركزي تديرها وزارة التخطيط الإستراتيجي. البحرين بحاجة لإصادر قانون لإدارة الميزانية الإستراتيجية تشمل سياسة و منهج لإصدار البرنامج الحكومي للفصل التشريعي منبثق من الخطة و الميزانية الإستراتيجية . قانون إدارة الميزانية الإستراتيجية لابد أن يضع نظام جديد لعملية إعتماد الميزانية العامة في الدولة بما يتلائم مع الخطة الإستراتيجية و البرنامج الإستراتيجي للفصل التشريعي.
مشكلة البحرين الاقتصادية لا تحلها وزارة تخطيط إستراتيجي و خطة إستراتيجية فحسب بل البحرين تحتاج لتحويل خطتها الإستراتيجية إلى ميزانية إستراتيجية تبين إيرادات و مصاريف و كلفة المبادرات و عائدات الإستثمارات لمدة تزيد عن أربع فصول تشريعية. ميزانية إستراتيجية تكون مرتكزة على دراسات للسيناريوهات إستراتيجية دقيقة تحسب القروض الإستثمارية و عوائدها المالية على مدى عقد من الزمان. ميزانية إستراتيجية تبرز حسابات تصورات إستراتيجية قادرة على إحداث التوازن المالي في الميزانية العامة و تحقق الطموحات الثلاث لرؤية 2030.
أبرز أربع تصورات إستراتيجية التي نقترحها لأن تدرسها هيئات التخطيط الإستراتيجي في حكومة البحرين هي الأتي. أولا، دراسة إستراتيجية إدماج الشركات الصغيرة و المتوسطة في قابضات تشغيلية تجعل من الشركات الصغيرة و المتوسطة بيئة عمل تحتضن المواهب الوطنية و تدعم الإبتكار و ترفع متوسط دخل الفرد. ثانيا، دراسة إستراتيجية الإستثمار في المنتجات الغذائية البحرينية مثل الحلوى و الرهش و الزلابية و جعلها صادرات بحرينية مهمة في الدخل الوطني. ثالثا، دراسة إستراتيجية الإستثمار في الصناعات البحرية مثل مزارع الأسماك و منتجات الموارد البحرية لتكون من صناعات و صادرات البحرين الأساسية. رابعا، دراسة إستراتيجية الإستثمار في مشاريع تنمية مستدامة ذات تكامل القطاعات الإقتصادية. على سبيل المثال، تحويل محمية العرين إلى معلم سياحي يشمل غابة إصطناعية و محمية حيوانات و أحواض أسماك و حدائق أزهار و مدن ترفيهية و مجمعات تجارية و منتجعات فندقية. إحياء الغابة الإصطناعية يكون بإنشاء نهر إصطناعي من المياه المعالجة التي ينتجها مصنع مركزي لمعالجة مياه شبكات الصرف الصحي.
الخاتمة
التخطيط الإستراتيجي هو جوهر حوكمة الاقتصادات الوطنية، و لا تكتمل المنفعة من الخطة الإستراتيجية إلا إذا تحولت الخطة إلى ميزانية إستراتيجية. هذا الإستنتاج هو ذات إستنتاج ديانا جينكوفا عندما عرضت درسة التجربة البلغارية في مقال منشور في مجلة ” إيكيونميك ألترناتيف” بعنوان ( التخطيط الإستراتيجي الوطني بين الاحتياجات الاجتماعية والاقتصادية والحقائق السياسية في بلغاريا). جينكوفا وجدت أن من الضروي وجود هيئة تخطيط إستراتيجي وطني مركزية تتمكن من إدارة الإستراتيجيات الصادرة من مؤسسات الدولة. الحكومة يجب أن يكون لها قانون متقدم في إدارة الميزانية الإستراتيجية لتتمكن من حوكمة اقتصادياتها من خلال التخطيط و الخطط الإستراتيجية. الميزانية الإستراتيجية هي ميزانية مهمة جدا لضمان النمو الاقتصادي مع ضبط التجادبات السياسية والتحكم في الضغوط الإجتماعية. هذا الإستنتاج ليس مقتصر على التجربة البلغارية بل وجدناه قاعدة إدارية ثابته في التجارب الأربع التي عرضتها هذه الورقة.
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال