الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
المحكمة كمؤسسة قانونية هي مظهر حضاري لأي مجتمع، حيث يكون للمتخاصمين ومن له أَيّ مصلحة حقيقية في اللجوء لها؛ لحل نزاعاهم عبر قاضٍ يحكم بينهم بالطرق السلمية، ولكن للأسف قد تكون أيضًا مدخلًا لبعض محامي الشركات ذات الصيت والنفوذ في استغلال ذلك اللجوء، دون أن يكون هناك أي مصلحة حقيقية ضد منتقديها لها أو لمنتجاتها من مستهلكين أو كتاب أعمدة…إلخ. هذا المقال سيحاول تقديم لمحة تعريفية عن قضايا Slapps المعروفة في الوسط الأمريكي و الأوربي، المسماة “بالصفعة”، في تسمية مبتكرة من اثنين من أساتذة قانون في أمريكا، ومحاولة إنزالها على البيئة السعودية؛ على الرغم من قلة البحوث في الكشف عن مثل هذه القضايا. وحتى قرار ٩٤ في الحد من الدعاوى الكيدية قد لا يعالج مثل هذه القضايا على الوجه الأكمل، مقارنة بالأنظمة القانونية المقارنة.
قضايا “الصفعة” باختصار، هي أن يتقدم محامي الشركة في رفع القضايا، كوسيلة للتخويف والترهيب حتى لا يتجرأ أي شخص في انتقاد الشركة من مستهلكين، وأساتذة الجامعات، وغيرهم. ومن نافلة القول: التأكيد أننا لا نتحدث عن استعمال حق الشكاية في الدفاع عن أي مصلحة قانونية معتبرة، كتقدم الشركة بدعوى ضد أي تشويه للسمعة، والادعاءات الكاذبة والمعاقب عليها في النظام السعودي، وهو حق مكفول لأي شخص حسب الأنظمة المرعية. المقصود هنا هو التنمر، واستغلال الجهل بالتقاضي؛ عبر إغراق المدعى عليهم بتكاليف عبء الحضور تحت ذرائع واهية ووهمية. فمن هو الذي يرغب أن يكون خصمًا لشركة قوية ومواجهة محاميها في المحكمة، أو في أسوأ الأحوال البحث عن محامي ودفع الأتعاب القانونية للدفاع عنه؟! ومن هنا تبدأ المشكلة في إساءة مثل هذه المؤسسة القانونية المهمة، لتحقيق مصالح شخصية لتلك الشركات على حساب تحقيق العدالة.
ولا توجد البحوث الأكاديمية حتى على المستوى العربي، التي تسلط الضوء على مثل هذه القضايا، أو هناك التنظيم العدلي الفعال من مكاتب محاماة، للدفاع عن المدعى عليهم حتى ولو لرغبات خاصة، كالحصول على الأتعاب، أو الأنظمة التي تساهم في الكشف عن مثل هذه الدعاوى، أو تجهيزها للحكم بها من الجلسات الابتدائية؛ للطبيعة الخاصة لمثل هذه القضايا. فحقيقة التنمر يغلف بادعاءات من الشركة. إن حديث المدعى عليه لنفرض مثلًا هنا، حديث مستهلك للجهات الرسمية عن شركة ما في مؤتمر أضر وشهَّر بسمعتها ماليًا، (طبعًا هنا نذهب مع الرأي القانوني الذي يأخذ بأن للشركة سمعة تحميها). وحتى بالرجوع إلى قرار معالي وزير العدل رقم ٩٤، في تنظيم قواعد الحد من آثار الشكاوى الكيدية والدعاوى الباطلة؛ فحسب القرار تثبت الدعوى الكيدية: ١) لو كذب المدعي في دعوى خاصة, ٢) لو اعترض على حكم أو قرار نهائي وعدم تقديم وقائع جديدة, ٣) مطالبة جديدة في قضية منتهية.
وما يهمنا هنا الحالة الأولى، وهي كذب المدعي في دعوى خاصة؛ فكيف يمكن التحقق من ذلك الكذب؟ فحتى يثبت كِذب المدعي، فسيكون هناك من الضرورة في المداولة والدخول في الدفوع الموضوعية، والتي قد تأخذ مدة طويلة، ومن هنا تأتي الكلفة المالية على المدعى عليهم ورفع علو كعب تلك الشركات؛ فلا يوجد شخص يريد أن يترك وظيفته ومصدر رزقه ليحضر جلسات المحاكم ويدافع عن نفسه، أو في أسوأ الأحوال تحمل أتعاب مكلفة لمحامي لتمثيله، مقارنة بشركة تملك الموارد المالية الكثيرة، ولديها من يستطيع الدفاع عنها على أتم الاستعداد. فكلما طال أمد القضية؛ كلما يخدم ذلك مصلحة الشركة.
ولكن دعونا ننظر إلى الوضع في النظام الأمريكي مقارنة بالوضع السعودي؛ فبدايةً هناك الكثير من البحوث الاكاديمية التي تحاول الكشف عن مثل هذه القضايا، فضلًا عن وجود مكاتب المحاماة التي يمكن للمدعى عليه الاستعانة بها للدفاع عنه؛ بسبب الاحتمالية الكبيرة لتعويضه عن أتعاب هذه القضية.
وبالمقارنة بالفراغ التشريعي السعودي، يحاول المنظم الأمريكي تنظيم تلك الدعاوى إجرائيًا، من خلال الالتزام بالمواعيد القصيرة للردود، ونقل عبء الإثبات بين المدعي والمدعى عليه، وتصعيب العبء على الشركة في حالة انتقال العبء لها، أيضًا آلية من يتحمل أتعاب المحاماة والتقاضي. فهناك نوع من التوازن، ومراعاة حقوق الشركات في تقديم مثل هذه الادعاءات، عندما تتقدم بشكاية كتشويه للسمعة، ومن جهة أخرى بين حقوق المدعى عليهم، كالمستهلكين وغيرهم من كتاب الأعمدة، في التعبير والانتقاد لما يشتروه أو يستعملوه.
فحتى لا يجر المدعى عليه في دعوى “صفعة” لمدة طويلة مرهقة، يمنحه النظام أن يدفع من بداية الدعوى بانعدام المصلحة، وأن الهدف الحقيقي هو الاستنزاف المالي له و لجبره على التراجع عن مواقفه، ومحاولة تخويفه وترهيبه. ويحق له أن يستعرض للقاضي مثلا مواقف سابقة له مع الشركة المدعية، مثلًا لو تحدث عنها في عمود صحفي أو مؤتمر وهكذا. فإذا استطاع أن يثبت أنها ليست إلا “صفعةً” لانتقادها؛ فينتقل عبء الإثبات منه إلى الشركة المدعية، والتي عليها إثبات في بداية القضية الاحتمالية الكبيرة في الحكم لها بالقضية ليس حسب ماينص عليه القانون في ذلك، بل حسب الوقائع المنظورة أمام المحكمة، وهذا لا شك عبءٍ كبير لإثباته.
ويجب الرد خلال مواعيد قصيرة حددها النظام؛ حتى لا يعْلَق المدعى عليه في دعاوى طويلة مكلفة مَالِيًّا ووقتيًا. وفي حالة استطاع إقناع المحكمة أن القضية ليست إلا للتخويف والترهيب، وأن المصلحة منعدمة؛ فيحكم القاضي على الشركة، ليس فقط بدفع تكاليف المحكمة أتعاب المحامي، بل قد يفرض عليها غرامات. فالميزة هنا هي الكشف عن هذا التنمر في بدايته، وليس الانتظار وتعليق المدعى عليهم لمدة طويلة.
ونجد هناك أيضًا المطالبات الأوربية لتقنين مثل هذا التنظيم، حيث يكون للمدعى عليهم الخروج الغير مكلف من مثل هذه الدعاوى المكلفة ماليًا ووقتيا لطرف دون الآخر، كالشركات الكبيرة؛ حتى لا يكون هناك فلترة وتحجيم تبادل الأفكار وتحسين المنتجات. وأعتقد سيزيد من أهمية مثل هذا التنظيم لمثل هذه الدعاوى مع عدم مجانية التقاضي، حيث تأتي ضرورة حماية الأفراد والمستهلكين من عدم جرهم إلى دعاوى مكلفة معقدة وطويلة، وعدم تحجيم آراؤهم. ودون أدنى شك، سيكون هناك نوع من الصعوبة بداية في وضع المنهجية السليمة، ليس فقط بسبب قلة البحوث الأكاديمية في الوطن العربي لهذا الشأن، بل أيضًا في وضع الخط المتوازن، بين حقوق الشركات في الدفاع عن مصالحها المعتبرة ضد أي تهديد بسوء نيةِ، وفي نفس الوقت الحد من استغلالهم وعنجهيتهم عبر المحامي “الفتوه”، وقمع هذه الدعوى مبكرًا في بداياتها، وعدم استغلال المحكمة وإشغالها.
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال