الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
الأسباب التي تجعل الشركات تفكر بالاندماج متعددة، وذلك بحسب طبيعة كل شركة واحتياجاها، وتبعًا لكل مرحلة من مراحل نموها. إن سعي الشركات الصغيرة ,وحتى الكبيرة وحدها للنمو وزيادة رأسمالها عن طريق الاقتراض، تأخذ وقتًا طويلًا؛ فضلًا عن افتقارها للخبرات والإمكانات الفنية والبشرية، وهو ما يجعل اتجاه الشركة نحو الاندماج مع شركة أخرى ضروريًا، لتحقيق هذا الهدف في أقل وقت ممكن. لقد حققت صفقات الاندماج العديد من المزايا؛ منها نجاحها في خلق كيانات أقوى، وخفض تكلفة الإنتاج، وزيادة التعاون المالي والإداري بين تلك الكيانات المندمجة (synergy)، وكذلك زيادة الخصومات الضريبية بينها، ورفع كفاءتها في إدارة الموارد، وزيادة قدرتها على المنافسة على المستوى الدولي…الخ. رغم وجود بعض الجوانب السلبية التي تصاحب صفقات الاندماج، مثل إمكانية فشل قيامها ككيان واحد متوائم بعد الاندماج(post-integration) أو الأثر السلبي على المنافسة …الخ.
بشكل عام يتم غالبًا تسليط الضوء على الاندماجات من زاويتيِّ أنظمة هيئة سوق المال أو قانون الشركات، ولكن قليل ماينظر لأثرها على سوق المنافسة؛ لذا سنناقش في هذا المقال، فك الاندماج من منطلق نظام المنافسة، وليس من منظور قواعد أنظمة السوق المالية والذي تحكمه قواعد مختلفة.
ليس من شك، أن نظام حماية المنافسة وتنظيمه، يلعب دورًا حيويًا في حماية الاقتصاد الوطني؛ وذلك بضبط ومراقبة صفقات الاندماج. وما يهمنا هنا في هذا المقال؛ هو رصد الأثر السلبي المحتمل للكيان المندمج – بعد الموافقة عليه- في احتمالية عرقلة التنافسية وآلية السوق، وما يستتبع قرار الموافقة على صفقة الاندماج من حصانة للكيان المندمج – ما بعد الاندماج-, وهل يمكن إعادة النظر في قرار الموافقة على الاندماج، كإلغاء القرار؟
بداية هناك طرق مختلفة يمكن للمنشأة أو أكثر، من خلق وضعًا أقل تنافسية؛ وذلك قد يكون عن طريق شراء أصول الشركات الأخرى (دون حاجة إلى الاندماج أو الاستحواذ)، أو الاستحواذ على شركة أخرى بشراء أسهم في شركة أخرى (حصة مسيطرة أو لا)، أو الدخول في شراكة (Joint-venture), أو اتفاقيات (شفوية أو كتابية)؛ بشراء الحقوق المستقبلية لشركة ما، وأخيرًا اندماج الشركات (أفقي-رأسي). وبالرجوع إلى اللائحة التنفيذية لنظام المنافسة السعودي، نجد أنها لم تضع تعريفًا محددًا للتركيز الاقتصادي -وقد أصابت في ذلك- بل وضعت بعض الممارسات أو الملامح للتركيز الاقتصادي، على أنه “كل نقل كلي أو جزئي لأصول، أو حقوق، أو أسهم، أو حصص، أو التزامات منشأة، إلى منشأة أخرى؛ عن طريق الاندماج، أو الاستحواذ، أو التملك، أو الجمع بين إدارتين…”.
إن اتخاذ قرار الشركات الدخول في اتفاقيات اندماج ليس بالأمر الهين؛ فهي تعتبر من العمليات القانونية المعقدة، والمكلفة ماليًا، وتستغرق الكثير من الوقت والجهد في المفاوضات، وضرورة الاستعانة بالمستشارين، من محامين، وماليين، ومحاسبيين، وغيرهم. ويزيد من تعقيد المسألة؛ تقاطع قوانين الاندماج مع الكثير من القوانين الأخرى، كقانون كالعمل، وأنظمة الشركات، والسوق المالية، والتأمين، والخصوصية، والمنافسة، وغيرها من الأنظمة القانونية، التي يجب أخذها بالحسبان حسب الضرورة. كما يجب ألا ننسى الوقت المستغرق لتحضير اتفاقيات الاندماج للتصويت عليها، أو الفحوص النافية للجهالة، فضلًا عن ضرورة الحصول على الموافقات من الجهات المعنية؛ كهيئة سوق المال, والمنافسة، وغير ترتبط صفقات الاندماج بقوانين المنافسة، عبر جعل الشركات منافسة ومراقبةٍ لبعضها البعض، ولهذا من الطبيعي أن نرى كمبدأ عام في نظام المنافسة السعودي، أخذه بوجوب تسعير كل الشركات لسلعها وخدماتها بناء على العرض والطلب، أي بناءً على مبدأ التنافسية بين المنشأة، أو كما يسميها الاقتصاديون “اليد الخفية“؛ حيث تكون الشركات في موقف تنافسي فيما بينها، إلى الحد الذي لا تتشكل معه ممارسات أو تركزات تمنع أو تعرقل المنافسة؛ مما يعود بالفائدة على الاقتصاد بأجمعه، وإدارة الموارد المتاحة بالشكل المطلوب.
لا ينظر الجميع لقوانين المنافسة، بذات العين التي ينظر بها المحامون، فثمة اتجاه اقتصادي حتى في كليات الحقوق، متأثر بالمبادئ الاقتصادية الجديدة في سبعينيات القرن الماضي آبان عهد الرئيس ريغان، والذي يستخف، ويقلل من أهمية قوانين المنافسة، والتي يراها عبئًا على ديناميكية السوق، ومعرقلًا لحرية الشركات في الابتكار، وأنها تضع قيودًا على إعادة توجيه الموارد الاقتصادية في وجه من يديرونها بشكل أفضل. ولهذا يجد القارئ في نظام المنافسة السعودي، وتحديدًا المادة (8)، بعض الاستثناءات والاعفاءات، والتي تخول مجلس إدارة الهيئة المنافسة من تشكيل لجنة فنية، لدراسة أي اتفاقيات أو عقود بين المنشآت أو تركيزات اقتصادية، وتقدم تلك اللجنة توصيتها إلى المجلس بالموافقة؛ من خلال تقديم إعفاء لتلك المنشأة، على الرغم من تقييدها لحرية المنافسة؛ في حال استطاع أطرافها إثبات أن هناك فائدة، كتحسن أداء السوق، أو تطور تقني، بشرط أن يحقق فائدة للمستهلك. وهي محاولة من النظام السعودي في تغليب الفعالية الاقتصادية في بعض الحالات. وعلى كل حال، هناك دور كبير ومهم تؤديه قوانين المنافسة وأجهزتها، في مكافحة الاحتكار من قبل القلة على حساب المستهلكين والاقتصاد؛ بغض النظر من يربح أو يخسر في النهاية.
وبالنظر إلى صفقات الاندماج بالتحديد، فيمكن تقسيمها إلى اندماج أفقي يكون (بين شركات منافسة لبعضها البعض)، أو رأسي (بين شركات تكمل بعضها البعض في مراحل مختلفة من الإنتاج. ولعل الاندماجات الأفقية، هي أكثر ما يثير مخاوف أجهزة المنافسة؛ لأنها تكون بين شركات متنافسة في نفس القطاع، وغالبًا ما تكون متقاربة في الحجم والقيمة المالية، فيكون تأثيرها سلبيًا بتكوين كيانات محتكرة ومسيطرة على السوق. بعبارة أخرى، قد تؤثر عمليات الاندماج بين الشركات التي تتنافس فيما بينها بشكل أو بآخر، في خلخلة ديناميكية السوق، إذا تم مثلاً عرقلة دخول شركات أخرى، ورفع الأسعار على المستهلك وغيرها من الآثار السلبية، التي تعزز من دور أنظمة المنافسة والأجهزة الرقابية. ومن هنا يتضح الدور المهم، الموضوع على عاتق أجهزة المنافسة؛ من الرقابة والمتابعة، بداية من الإلزام بإخطار وتقديم كل المعلومات والبيانات عن أي صفقة محتملة؛ فعلى المنشآت التي تفكر بالتركز الاقتصادي، بإبلاغ هيئة المنافسة قبل ٩٠ يومًا على الأقل؛ إذا تجاوزت مبيعاتها مائة مليون ريال كما تقرر ذلك لائحة المنافسة السعودية.
ويكون من حق هيئة المنافسة بعد التدقيق والتحقق، أن تعطي “المباركة” لصفقة الاندماج أو الممانعة. ولكن لا يمنع من أن تكون الموافقة مشروطة، مثل اشتراط بيع بعض الأصول قبل منح الموافقة النهائية للصفقة المحتملة. وبعكس حالة الرفض أو الموافقة المشروطة، والتي يوجب النظام أن تكون مسببة؛ لا يحتاج الموافقة على طلب التركز إلى تسبيب. وعليه، فليس هناك طريقة واحدة تتم بها معالجة عمليات الاندماج قبل إتمامها. ولكن السؤال المهم والصعب، ماذا عن صفقات الاندماج التي تم الموافقة عليها؟ هل يمكن إعادة النظر فيها وفكها؟ وهل من العدالة بعد كل هذا الجهد والمال المبذول، أن يطلب فك الصفقة، لاسيما إذا تم الحصول على الموافقة الصريحة، أو لم تكن هناك أي معارضة آنذاك، في حالة إذا ما كان هناك أثر سلبي على المنافسة للكيان المندمج لاحقًا؟
من المهم أن يدرك القارئ، بأننا لم نصل إلى مستوى الاحتكار، ولا نقصد بأي حال من الأحوال، أن الاندماج بين الشركات يكون عكس مصلحة المستهلكين أو السوق؛ بل على العكس من ذلك، قد يوحد الاندماج الجهود بين الشركات المندمجة؛ مما يكون له أثرًا إيجابيًا على المستهلكين في شكل أسعار أو منتجات. كما أننا لا نتحدث عن صفقة اندماج محتملة أو في مرحلة المفاوضات؛ حيث يكون للهيئة الوقت الكافي للتقصي والتحقيق والتثبت؛ بل نتحدث عن صفقة تمت -ولم تكن هناك ممانعة في إتمامها، أو تمت الموافقة عليها صراحة- فالسؤال هنا، ماذا لو تبيَّن سلبيتها على المنافسة لاحقًا؟ وكان من الصعوبة توقعها قبل الموافقة الاندماج. وهل لكل متضرر أن يتقدم بطلب فك الاندماج؟ أو على الأقل طلب بيع بعض أصول الشركات المندمجة؛ لمعالجة الوضع السلبي على المنافسة؟ أو إصلاح الوضع كما كان عليه قبل الاندماج؟ خاصة إذا تبين أن الآثار السلبية على الاقتصاد، تفوق الإيجابية؛ مما قد يكون مخالفًا لأحكام قانون المنافسة؟ هل قرار الموافقة قرارًا قطعيًا لا يمكن التراجع عنه؟
على حد علمي، لم تمارس هيئة المنافسة السعودية ذلك الحق أبدًا، وبقراءة نظام المنافسة أو لائحته؛ لا يوجد ما يشير إلى ذلك الحق.
بالمقارنة بين الاندماج والاستحواذ، تبدو الصعوبة في صفقات الاندماج أكثر عن غيرها؛ بسبب انصهار وانتقال ذمة الشركة -المندمجة- وانقضاء شخصيتها الاعتبارية، بالدخول في الشركة الدامجة، لذا قد يكون من الصعوبة فك عمليات الاندماج من الناحية العملية؛ حيث تصبح كلتا الشركتين بعد الاندماج “كخليط البيض.” ومن هنا السؤال: لو تغيرت الظروف الذي من أجلها منح الكيان المندمج الموافقة، ما الذي يمكن فعله بالنظر لنظام المنافسة ولائحته؟ لعل الحل القانوني هو المادة ٢١ من نظام المنافسة، والتي تقرأ ” تكليف المخالف بالتصرف في بعض الأصول أو الأسهم أو حقوق الملكية…” وعليه قد يكون للهيئة حق طلب اتخاذ بعض الإجراءات، مثل فك الاندماج-إذا مازال ممكنًا، وكان هو الخيار الوحيد آنذاك- أو عرض بعض الأصول المندمجة للمزاد، وإدخال لاعبًا جديدًا في ذلك السوق.
الإعادة الهيكلية في جبر المخالف بالتصرف في أصوله Divestiture ليست بجديدة أو غريبة؛ فغالبًا ما تحتفظ به الأنظمة المقارنة، كالنظام الأمريكي لمعاجلة الحالات التي يفشل طرفا الصفقة في أخذ الموافقة من هيئة المنافسة -أو في حالة عدم الاعتراض حسب الأحوال- أو إذا تبين لاحقًا، أن الاندماج له الأثر السلبي على المنافسة، أو نشأ عنه تصرفات أخلت أو خففت من التنافسية في السوق. وطبعًا ذلك الحق ليس مقتصرًا على الهيئات الحكومية، بل لكل شخص طبيعي أو معنوي متضرر. وعلى سبيل المثال، استجابت مؤخرًا المحكمة الأمريكية لشركة عائلية متخصصة في صناعة الأبواب – يزيد عمرها عن١٢٠ سنة -في طلبها بفك كيان مندمج منافس لها؛ على الرغم من إتمام صفقة الاندماج، وأن الشركتين المندمجتين أصبحتا كيانًا واحد لأكثر من ٤سنوات، وحصول الشركتين على الموافقات الضرورية من FTC المسؤولة عن مكافحة الاحتكار. ولا ننسى من القضايا التاريخية في تاريخ المنافسة الأمريكية، قضية شركة الاتصالات الأمريكية AT&T، وسيطرتها على خدمة التلفون في ١٩٧٠م، وتفكيكها إلى ٨ شركات، والتي أعادت الجو التنافسي في قطاع الاتصالات.
وختامًا من المهم استقرار المراكز القانونية بين الشركات المندمجة، ومنح الثقة في فعالية السوق السعودي، ولكن وجود مثل هذه الجزاءات في ترسانة هيئة المنافسة السعودية، لا شك يعزز من دورها ونجاعتها، خاصة في الحالات التي يتبين فيها لاحقًا الأثر السلبي للصفقات، كالاستحواذ أو الاندماج -بعد الموافقة عليها- أو في الحالات التي يتمم فيها الطرفان الصفقة دون إخطار الهيئة؛ فيكون لها أن تلوح بذلك في مواجهة المخالف؛ فعدم المعارضة أو الموافقة لا يعني الحصانة من مراقبة الهيئة، بل قد يكون لها أن تعيد النظر في موافقتها السابقة، إلى الحد الذي يوجب تدخلها، لحماية المستهلك والتنافسية في السوق السعودي.
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال