الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
تلعب الميزانية العامة دوراً هاماً في اقتصادات الدول، وعلى وجه الخصوص في الدول النفطية، حيث تعكس الميزانية العامة السياسات الاقتصادية والإجتماعية على أكثر من صعيد. وفي المملكة العربية السعودية والتي مازلت تعمل على إحداث التنمية الاقتصادية الشاملة من خلال الإعتماد على السياسة المالية، تشكل التقلبات الحادة في الإيرادات النفطية صعوبات تمويلية بسبب عدم قدرة المالية العامة على تغطية النفقات العامة، خاصة وأن الإيرادات الحكومية تعتمد بشكل كبير على الموارد البترولية. وإن أهم التحديات التي توجهها المملكة العربية السعودية فيما يخص الميزانية العامة هو الحفاظ على استدامتها المالية وعدم العودة إلى أزمات مشابهة لتلك التي حدثت في عام 1986 وهو تاريخ الصدمة النفطية التي أدت إلى تغييرات عميقة على مستوى آليات إدارة الاقتصاد وما ترتب عليها من استمرار في عجز الميزانية العامة لسنوات متتالية حتى نهاية التسعينات مع إرتفاع الدين العام ليصل إلى نحو 100% من الناتج المحلي الإجمالي في عام 2002.
كما أنه وبعد سنوات من التحسن في الإيرادات النفطية استمرت حتى عام 2014 وشهدت المملكة خلالها تراجع الدين العام إلى 2.4% من الناتج المحلي الإجمالي، جاء انهيارأسعار النفط في بداية عام 2015 و ما تبعه خلال الخمس سنوات الماضية من ارتدادات حادة أدت إلى استمرار عجز الميزانية العامة حتى نهاية عام 2020 وعودة الدين العام إلى الارتفاع لمستويات عالية. ولذا فإن مسألة إستدامة المالية العامة يعتبر أمراً مهما جداً لاقتصاد المملكة الذي لا يزال يتسم بالتبعية شبه المطلقة لعائدات النفط، ويطرح تحدياً كبيراً لمدى إمكانية الإستمرار في تمويل النفقات الجارية، خصوصاً مع تنامي حصة تعويض الموظفين إلى جانب وسائل الدعم والتي منها الوقود وأيضاً النفقات الرأسمالية على برامج البنية التحتية الأساسية والبنية التحتية الإجتماعية. لقد حتمت هذه التطورات حينها على المملكة إعادة النظر في نموذجها الاقتصادي، حيث أقدمت الحكومة في عام 2016 على وضع برنامج التوازن المالي الذي جاء من ضمن 13 برنامجاً لتحقيق رؤية 2030 وذلك بهدف تنويع مصادر إيرادات الدولة نحو إستقرار المالية العامة.
في هذا السياق جاءت مؤشرات أداء الميزانية العامة للدولة للربع الأول عام 2021 في جانب الإيرادات لتعكس التحسن الذي شهدته أسعار النفط على خلفية القرارات التي اتخذتها مجموعة أوبك وحلفائها بقيادة المملكة في خفض الإنتاج إبتداءً من مايو 2020، وذلك في مواجهة إنهيار الطلب العالمي و الإنخفاض الحاد في أسعار النفط على إثر تقييد حركة السفر والتنقل في غالبية دول العالم مع إقفال الكثير من الأنشطة الاقتصادية أثناء مكافحة تفشي جائحة كورونا. وقد بلغت الإيرادات النفطية 117 مليارريال، حيث سجلت تراجعاً بنسبة 9% عن مستواها في الربع الأول 2020، إلا أنها ارتفعت بنسبة 21.5% مقارنة بالربع الرابع 2020. وإنه على الرغم من التحسن الذي شهدته أسعار النفط خلال الربع الأول 2021 والتي ارتفعت بنسبة 30% مقارنة بالربع الرابع 2020 ليبلغ متوسط سعر خام برنت 60 دولاراً للبرميل، إلا أن الإيرادات النفطية جاءت منخفضة عن مستواها لنفس الفترة من العام الماضي ويعزى هذا الانخفاض في الإيرادات النفطية إلى أن الإرتفاع في أسعار النفط خلال الربع الأول لم يكن كافيا ليعوض بالمقابل الخفض في مستويات الإنتاج من قبل المملكة في ظل استمرار الإنفاق القائم بين مجموعة أوبك والشركاء الآخرين على خفض الإنتاج.
وإنعكاساً للإجراءات الضريبية الإستثنائية التي أدخلتها الحكومة إبتداءً من يوليو 2020 وزيادة الرسوم الإدارية وغيرها من الإجراءات المالية التي جاءت ضمن برنامج التوازن المالي بهدف تنويع مصادر الإيرادات وتقليل الإعتماد على الإيرادات النفطية سجلت ميزانية الربع الأول 2021 تحسناً كبيراً في الإيرادات غير النفطية إذ بلغت 88 مليار ريال، لترتفع بنسبة 39% على أساس سنوي و شكلت حصتها 43% من إجمالي الإيرادات. وقد جاءت هذه الزيادة الكبيرة بشكل أساسي من الضرائب على السلع والخدمات (ضريبة القيمة المضافة التي تم رفعها من 5% إلى 15% في يوليو 2020 وكذلك الضريبة الإنتقائية) لتبلغ 53.6 مليار ريال، حيث سجلت زيادة كبيرة بنسبة 75% في الربع الأول 2021 مقارنة بالربع الأول من عام 2020. كما شكلت حصتها الأكبر بنسبة 60.8% من إجمالي الإيرادات غير النفطية وبلغت أيضاً نحو 26% من إجمالي الإيرادات. كذلك ارتفعت الضرائب الأخرى و التي منها الزكاة بنسبة 46% على أساس سنوي لتبلغ 3 مليار ريال، في حين جاءت الضرائب على التجارة والرسوم الجمركية من غير تغيير يذكر بنحو 4 مليار ريال.
وبينما ساهمت هذه الزيادة في ضريبة القيمة المضافة التي دخلت حيّز التنفيذ منذ الربع الثالث 2020 في تحسن أداء المالية العامة فقد ساهمت من ناحية أخرى في تراجع الإنفاق الخاص، الذي سجل إنخفاضاً بنسبة 3.8% على أساس سنوي بالأسعار الثابتة في الربع الرابع 2020، والذي بدوره انعكس على نشاط القطاع الخاص وأدى إلى تراجع حصيلة الضرائب على الدخل والأرباح والمكاسب الرأسمالية على أساس سنوي في الربع الأول 2021 بنسبة 10% لتبلغ 3.22 مليار ريال. أما الإيرادات الأخرى والتي تشتمل على العوائد المتحققة من استثمارات البنك المركزي و صندوق الإستثمارات العامة والتي شهدت تحسناً في أدائها خلال الفترة الماضية إلى جانب رسوم الخدمات والرسوم الإدارية مع تحسن كفاءة التحصيل فقد ارتفعت بنسبة 5% على أساس سنوي من 23.05 مليار في الربع الأول 2020 إلى 24.28 مليار ريال في الربع الأول 2021. وعلى أساس إجمالي فئات الإيرادات للربع الأول 2021، فإنه رغم تراجع الإيرادات النفطية بنحو 9% مقارنة مع نفس الفترة للعام 2020 فقد إرتفع هذا الإجمالي بنسبة 7% مقارنة مع نفس الفترة من العام الماضي. و يعزى بشكل أساسي هذا الإرتفاع إلى إيرادات الضرائب وتليها من حيث الحجم الإيرادات الأخرى التي تمثل العوائد المتحققة من استثمارات البنك المركزي السعودي وصندوق الاستثمارات العامة.
وفي جانب المصروفات، جاءت الزيادة في بند المنح والذي اشتمل على التبرعات التي قدمتها المملكة للمنظمات الدولية المعنية بمكافحة كورونا ومنها منظمة الصحة العالمية، حيث ارتفع بنحو 17 ضعف من 160 مليون ريال في الربع الأول 2020 إلى 2.7 مليار للربع الأول 2021. ويلي هذا البند في معدل الإرتفاع الإعانات لترتفع بنسبة 56% على أساس سنوي لتبلغ 5.4 مليار ريال، والتي جاءت نتيجة استمرار تطبيق الإجراءات المالية بدعم شركات و مؤسسات القطاع الخاص وبعض الفئات من المواطنين التي تضررت من جائحة كوفيد-19. وفي ظل تنامي حجم الدين العام، ارتفع بند مصاريف خدمة التمويل بنسبة 24% ليبلغ 5.7 مليار ريال، والذي من المتوقع استمراره في الزيادة خلال السنوات القادمة، مع وصول بعض من أدوات الدين إلى نهاية آجالها مما يعني الإلتزام بسداد أصل الدين أو تدويره (Rolling over)، والذي سوف يشكل عبءً مالياً متزايداً على الميزانية العامة للدولة. كما إرتفع بند السلع والخدمات بنسبة 2% على أساس سنوي من 26.9 مليار ريال في الربع الأول 2020 إلى 27.6 مليار ريال في الربع الأول 2021. أما بند المنافع الإجتماعية الذي بلغ الإنفاق عليه 12.9 مليار ريال في الربع الأول 2020 فقد انخفض بنسبة 5% على أساس سنوي ليبلغ 12.2 مليار ريال، إذ يعزى سبب هذا الإنخفاض فيه إلى قيام الحكومة بإعادة دراسة فئات المستحقين في حساب المواطن واستبعاد بعض الفئات الغير مستحقة.
وعلى أساس الربع الأول 2021 شكلت تعويضات العاملين الحصة الأعلى من المصروفات بنحو 58% لتبلغ 122.9 مليار ريال، والتي انخفضت بنسبة بسيطة عند -1% على أساس سنوي، إذ لا يزال مقدار هذا الإنفاق يمثل تحديا للحكومة في ظل حجم الجهاز الحكومي الذي يصل إلى ما يقارب من 3.2 مليون موظف. كما أن تأثير إلغاء بدل الغلاء عن موظفي القطاع العام والذي تم تنفيذه في يوليو 2020 جاء محدوداً في مقابل زيادة العاملين في القطاع الحكومي المدني المسجلين على الخدمة المدنية والتأمينات الإجتماعية بنحو27 الف موظف خلال النصف الثاني من عام 2020. ولقد جاء بند الأصول غير المالية والذي يمثل الإنفاق على المشاريع الرأسمالية الأكثر انخفاضا من حيث الحجم إذ تراجع بنسبة 47% من 28.1 مليار ريال في الربع الأول 2020 إلى 14.9 مليار ريال لنفس الفترة من 2021، حيث شكل هذا التراجع أحد العوامل التي ساهمت في بطء معدل النمو في أنشطة الخدمات الحكومية والذي بلغ 0.5% فقط خلال نفس الفترة.
وعلى أساس التوزيع القطاعي للميزانية خلال الربع الأول من هذا العام، جاء قطاعي الخدمات البلدية و الموارد الاقتصادية الأدنى في نسبة المنصرف من إجمالي المعتمد لهذين القطاعين بنحو 14% و 16% على التوالي مقارنة بالفترة المماثلة من العام الماضي. غير أن المصروفات في قطاع التعليم ارتفعت بنسبة 0.2% على أساس سنوي لتبلغ 44.9 مليار ريال، يليه قطاع الدفاع الذي بلغت نسبة المنصرف من المعتمد للقطاع الأعلى مابين القطاعات الأخرى بنحو 25%، بيد أن الإنفاق على هذا القطاع تراجع بنسبة عالية بلغت 18% على أساس سنوي. وكذلك الحال بالنسبة لقطاع البنية التحتية والمواصلات فقد انخفض بنسبة 16% على أساس سنوي، واستنفذ هذا القطاع نحو 22% من الميزانية المخصصة له. أما قطاع الصحة فقد استخدم 25% من الميزانية المخصصة له في الربع الأول حيث بلغ الإنفاق 34.4 مليار ريال. وتشير هذه النسب إلى حجم التفاوت ما بين القطاعات في نسبة المنصرف من المخصص لكل قطاع، والتي قد تعكس البطء لدى بعضها في تنفيذ البرامج المعتمدة لها.
وفي حين أن المصروفات جاءت منخفضة بنسبة 6% للفترة الثلاثة شهور الأولى من عام 2021 مقارنة لنفس الفترة من العام الماضي، إلا أن الإيرادات ارتفعت بنسبة 7% لنفس الفترة، حيث ساهم ذلك في انخفاض عجز الميزانية إلى 7.4 مليار ريال. وقد شكل الإقتراض و إصدارات الدين المحلي ما مقداره 26 مليار ريال في حين بلغت قيمة إصدارات الدين الدولي 37 مليار ريال، وبذلك ارتفع إجمالي الدين العام من 851 مليار ريال بنهاية 2020 إلى 913 مليار ريال بنهاية الربع الأول 2021. وقد ساهم تنويع مصادر تمويل العجز خلال السنوات الماضية من خلال السحب من الإحتياطي والاقتراض الخارجي إلى جانب الاقتراض المحلي في المحافظة على استمرار نمو معدلات السيولة في النظام النقدي، بما يدعم التمويل للقطاع الخاص، حيث ارتفع إجمالي النقد (ن3) بنسبة 8.9% على أساس سنوي في مارس 2021 والذي يشير إلى عدم مزاحمة القطاع الخاص على الاقتراض البنكي، إذ نما الائتمان للقطاع الخاص بنسبة 14.8% على أساس سنوي لنفس الفترة ليبلغ 1.8 تريليون ريال.
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال